تطبيع في فلسطين المحتلة وتطبيع في تونس الثائرة

تطبيع وطني فلسطيني .

ذاك تطبيع محمود لا يملك أي حر أبي ـ بغض النظر عن دينه ـ غير تثمينه والعمل على تقدمه ولو بالدعاء وذلك بعد إنقسام فلسطيني داخلي أغرى الإحتلال الإسرائيلي وحلفاءه في العرب والغرب بمزيد من فرض المقايضات المذلة وهو يستعيد أيام تخلي العرب عن المقاوم المرحوم ياسر عرفات لجره إلى ” إسطبلات ” مدريد ثم أوسلو  بمثل ما جر من قبله محمد أنور السادات إلى إسطبل داود ومن مثل ما جر من بعده الأردن إلى إسطبل وادي عربة. تلك هي الإستحقاقات الطبيعية للإنقسامات العربية والإسلامية يستوي في ذلك أن تكون تلك الإنقسامات رسمية أو شعبية إذ الكيان العربي والإسلامي بمسلمينا ومسيحيينا ـ بل حتى بيهوديينا ـ هو كيان واحد بالتاريخ والجغرافيا والمصير فإما أن يتكافل فيصمد وإما أن يتفكك فينهار.

 

هناك قاعدة في الوعي السياسي بلغت منتهى الصحة ومفادها أن الموقف العربي الإسلامي حتى يكون صحيحا متطابقا مع إستحقاقات الهوية الوطنية الجامعة ـ وليس الدينية الضيقة فحسب  ـ لا بد  أن يكون نقيضه في الجهة المقابلة للموقف الإسرائيلي الأمريكي وذلك ما حصل بالنسبة لما نحن بصدده على سبيل المثال. إذا سارعت ” إسرائيل ” إلى إيقاف المفاوضات مع عباس ومن معه في حركة فتح وبمثل ذلك سارعت الولايات المتحدة الأمريكية إلى التعقيب بسلبية على هذا الحدث الكبير.

 

ربما يلجأ إلى ذلك الكسالى أو متوسطو الذكاء فينا أما غيرهم فإنهم يسيرون خلف بوصلة صحيحة مفادها أن الوحدة بمقتضياتها التكافلية والإجتماعية والتعاونية ولو في أدنى حد ممكن هي دوما محمودة وهي دوما في الإتجاه الصحيح والعاقل هو من يباركها ويتعاون لترسيخها. الوحدة بيننا لا تأتي إلا بخير مهما كانت الخلافات بيننا عميقة كلما كنا منتمين إلى وطن واحد هو الأمة العربية والإسلامية بمختلف شعوبها ومجتمعاتها. وليس عبثا أن يكون المسعى الأول لأعداء الأمة هو تفريق شملها وكانت العقود الأخيرة تعمل على تفريق الإنسجام المطلوب بين الدولة وبين الأمة.

 

لو تمادى المرء في التحليل والتشريح ومحاولات الفهم لما أدرك سببا مباشرا واضحا يجعل قيادة حركة فتح تختار هذه اللحظة بذاتها لإنهاء الإنقسام الفلسطيني مع أبغض من على الأرض عند مصر المنقلبة على الشرعية وعند الإحتلال الفلسطيني وعند الإدارة الأمريكية وعند دوائر غربية وأروبية تحتفظ بموقفها عند حصول ذلك فعلا وفوق الأرض. أي ” حماس ” المقاومة.

 

أهي التوبة السياسية أم صحوة الضمير؟ أم هي المصلحة السياسية؟ هي ضربة موجعة للإحتلال وحلفائه بالمقاييس كلها. لو كان ذلك قبل الإنقلاب على الشرعية في مصر لما إحتاج المرء إلى إستجماع ذكائه لحسن فهمها. هل يكون ذلك بمعزل عن القيادة العربية المعربدة بمالها ـ السعودية والإمارات ـ بل هل يكون ذلك بمعزل عن الدول التي تؤوي القيادة الفلسطينية ـ قيادة حماس ـ؟

 

أكبر الظن أن قراءة عربية فلسطينية أثمرت هشاشة الوضع الجديد ـ أي وضع الإنقلاب ضد الثورة أو وضع التآمر عليها أو عرقلتها ـ وإنحازت إلى المستقبل ومن لم يفعل ذلك في زمن الثورة فما توفر على حبة خردل من ذكاء وفطنة.

 

دعنا من ذلك الآن إذ تحصل لدينا جميعا بأن التحول من الوزن الثقيل جدا وكلنا مدعو إلى تأييده وتسويقه والمساهمة فيه لأنه في إتجاه ترسيخ زمن الثورة العربية المنداحة وثمراتها الحرية والكرامة والإنعتاق من نير الإحتلال بصوره الكثيرة.

 

ليس معنى ذلك أن التطبيع الوطني الفلسطيني غير معرض لأي إنتكاسة. كيف لا والثورات العربية تخنق واحدة بعد الأخرى. ولكن معنى ذلك أمران : أولهما أنه إختبار آخر لقيادتي الضفة والقطاع وما أعسر الوقوف فوق الجراحات وهي تدمي ولكن لها الرجال الذين يقدمون مصلحة الوطن فوق مصالح الحزب. وثانيهما أن ما يصيبك وأنت في الإتجاه الصحيح لن يزيدك إلا قوة.

 

تطبيع تونسي إسرائيلي.

 

ذاك تطبيع مشؤوم مرفوض. دعنا نؤجل الحديث عن ذلك التزامن الذي لا يشرف تونس الثائرة. بل دعنا نرسخ المبادئ العقدية والأخلاقية في هذا الأمر وعلى رأسها طرا مطلقا أن التطبيع مع الكيان المحتل لأرضنا في فلسطين جريمة عقدية ـ أجل. عندما نعتبرها جريمة عقدية ذلك أدعى إلى رفضها سياسيا ـ وأخلاقية وسياسية. لا يفوتنك أبدا أن مثل ذلك قد يكون مفردة من مفردات تعكير الحياة السياسية ومن ورائها الأمنية سعيا لإلغاء الخروج من المرحلة الإنتقالية وإلغاء الإمكان الإنتخابي الذي تنتظره تونس على أحر من جمر اللظى .. ذلك أمر وارد جدا إذ أن المرقوب من بعض القوى الكبرى في تونس من مثل حركة النهضة هو مقاومة ذلك وإذا حدث ذلك إنحرفت ولو جزئيا عن مسارها وأصبحت المعركة هي معركة وجود إسرائيلي في تونس ومعركة تطبيع ولم تعد معركة ترسيخ الإتجاه نحو الإنتخابات في مقابل معركة تأجيل ذلك وإلغائه .. وإستحقاقات ذلك كثيرة منها حصر الحركة في زاوية مرة أخرى من بعدما خرجت عصية من زاوية الحوار الوطني الذي قاده إتحاد الشغل .. ومنها تدخل القوى الكبرى منتصرة للوجود الإسرائيلي في تونس وهو إستقواء من حكومة المهدي جمعة لخذلان عهدته القاضية بقيادة البلاد نحو الإنتخابات .. وإستحقاقات أخرى يضيق عنها هذا المجال.

 

لا يفوتنك كذلك أن ذلك يكون جزء من الثورة المضادة. بل لا يفوتنك التزامن البليد إذ هناك تطبيع ” مرضي عنه ” عربيا و ” مرفوض ” غربيا وهنا في تونس تطبيع ” ملزوم ” لإندراج المجتمع الدولي القوي والفاعل في مساعدة تونس على الخروج من المرحلة الإنتقالية القاسية .. ذلك تزامن مقصود كذلك. لا يفوتنك كذلك ـ وأعرني فؤادك هنا بقوة ـ أن التطبيع هناك مندرج هو الآخر ضمن خطة دولية. ذلك أمر لا تتورط في إستبعاده ولا يتناقض ذلك مع الترحيب به وذلك بسبب أن قيادة حماس في وضع من القوة والتجربة والذكاء بله التسديد الرباني يمكنها من إحتمال ذلك والإستعداد لخوض معركته إذ مصالح التطبيع مع فتح أكثر من مفاسد الإنقسام. لا يفوتنك أن تطبيعا تونسيا يمكن إبتلاعه بحسب تقديرهم بسبب تطبيع فلسطيني. حبة حلوى لذيذة هناك كفيلة بإمتصاص لطمة قاسية قوية هنا.

 

الله وحده يعلم عزة فلسطين كلها عندنا واحدا واحدا ولكننا لا نبيع تونس للتطبيع مع الإحتلال الصهيوني لأجل ذلك. التطبيع الذي نقاومه هنا هو الذي يساهم في إنجاح التطبيع الفلسطيني هناك.

 

ولكن ما هو التطبيع التونسي؟

دعنا نحرر بعض المفردات حتى لا يختلط الحابل بالنابل. التطبيع التونسي الإسرائيلي الأخير الجاري بمناسبة عيد اليهود بالغريبة في جربة التونسية هو سماح السلطات الأمنية التونسية في أي مستوى من متسوياتها الجوية أو البحرية أو البحرية لأي إنسان يحمل الجنسية الإسرائيلية مرسومة فوق جواز سفره بالدخول إلى تونس ولو لذلك الغرض الديني. ولا يستثنى من ذلك سوى بعض عرب 1948 ومنهم صحافيون عرب. من حق اليهود في الدنيا كلها المشاركة في العيد الديني بالغريبة الجربية التونسية وافدين من كل فج عميق. ذلك حقهم الإسلامي والقانوني ولا يملك أحد حرمانهم من ذلك. ولكن بسبب الإحتلال الإسرائيلي لفلسطين فإنه لا يملك أي واحد منهم ـ ولا حتى من غيرهم ـ تنجيس تونس العربية الإسلامية العظيمة بقدميه القذرتين ولو بدعوى المشاركة في ذلك العيد إذا كان يحمل الجنسية الإسرائيلية أو الجواز الإسرائيلي إذ ليس كل يهودي مجبرا على إكتساب تلك الجنسية أو ذلك الجواز. اليهودي التونسي ـ وهو مواطن له ما لنا وعليه ما علينا  بالتمام والكمال على أرضية المواطنة المتساوية  ـ لا يملك ذلك فإن ملكه فهو محتل إسرائيلي لا يجدر غير قتله لأنه أصبح عينا علينا ولم يعد مواطنا معنا. ذلك هو المعيار العقدي والمدني الذي علينا ترسيخه وتجديد الإيمان به والتحرك وفقه فإن أضعنا ذلك تهنا في فسيفساء من التأويلات المارقة التي لا تفضي بنا في نهاية النفق المظلم الأسود إلا إلى قبول التطبيع.

 

لا علاقة بين إستقدام المحتل وبين الموسم السياحي.

مؤسف جدا أن يصرح السيد مهدي جمعة رئيس الحكومة بأن مساءلة بعض وزراء حكومته على خلفية إستقدام المحتل الحامل لجنسية إسرائيلة أو لجواز إسرائيلي يمضي في إتجاه تعويق الموسم السياحي. لا. تلك مغالطة ما كان له أن يتورط فيها. السياحة ليست عنوانا إقتصاديا فحسب كما يتخبط في ذلك أكثر السياسيين. السياحة عنوان إقتصادي دون ريب ولكنها عناوين أخرى مهمة بل ربما أكثر أهمية. ومن تلك العناوين : السياحة في تونس عنوان إجتماعي يعكس الطبيعة الإنفتاحية للتونسي إنفتاح الإسلام ذاته على جيرانه بل إن عقلي الذي به أدين ربي لا يقبل التأويلات الممجوجة لأكثر المفسرين الذين يحملون السياحة الممدوحة في الكتاب العزيز الهادي على أنها تصدق بالمال أو قنوت أو غير ذلك مما تخبط فيه أولئك في زمن غاب فيه البعد السياحي مكونا من مكونات الشخصية الإسلامية المتوازنة. خلق السياحة المنسوب إلى النساء والرجال في ذلك الكتاب العزيز الهادي هو خلق الرياضة الفكرية التي سماها في مواضع أخرى سيرا في الأرض لأجل التدبر والتفكر والإعتبار وهو كذلك خلق الرياضة العملية المادية إذ لا بد للمؤمن المتفكر المتدبر المعتبر أن يسير في الأرض سائحا تارة بجسمه ليقف على الماضي معتبرا وتارة بعقله ليقف على أحداث التاريخ مستخلصا للعبرة. أما التمحل فيحسنه كل أحد. السياحة إذن عنوان إجتماعي بل هي عنوان دعوي إذ لو أحسنا ضيافة السياح وإستقبالهم لأعجب بعضهم بديننا وخلقنا ولأغراهم ذلك. ألم تقرأ في التاريخ أن إفريقيا ما فتحها الإسلام إلا بخلق التجار المسلمين؟ والسياحة عنوان سياسي وهي عنوان ثقافي وعناوين أخرى يضيق عنها المجال هنا لخروج ذلك عن أرب موضوعنا. المهم هنا هو أن إستخدام السياحة عنوانا إقتصاديا فحسب حول في النظر وعور في البصر.

 

ما صرح به السيد مهدي جمعة رئيس الحكومة هو شبيه بوجه ما من الوجوه بقول بعض الأروبيين بأن نقد السياسة الخارجية الإسرائيلية ماض في إتجاه الحط من السامية. العرب ساميون أقحاح مثلهم مثل الإسرائيليين. مساءلة المجلس الوطني التأسيسي للحكومة أمر ضمنه الدستور وإذا كان الدستور لم ينص على جريمة التطبيع فليس معنى ذلك أن التطبيع مع الكيان الإسرائيلي المحتل ليس جريمة عقدية أخلاقية سياسية عظمى. هل تحكم الإمبراطورية الإنجليزية بدستور مكتوب. طبعا لا. ولكن هل يقدم أي مواطن بريطاني على الحط من أي قيمة من قيم المجتمع البريطاني بدعوى أنها ليست مثبتة في الدستور. طبعا لا. الدساتير مدونات وليس من شأن المدونات الإحاطة بكل ما يتسع له الفؤاد الشعبي الجمعي.

 

إنجاح الموسم السياحي فريضة في عنق كل مواطن تونسي وليس بالعنوان الإقتصادي فحسب ولكن بكل العناوين الممكنة ولكن لم تنجح المواسم السياحية المنصرمة بإستقدام الإسرائيليين ولكن بوفود الألمان والأروبيين والخليجيين والمغاربة وغيرهم.

 

ذلك خلط حري برجل في مستوى رئيس حكومتنا الموقر أن يربأ بنفسه عنه.

 

المعركة ليست مع اليهود ولا مع اليهودية ولا مع أي دين لا سماوي ولا أرضي ولكن المعركة الشرسة الضارية هي مع الظلم وأرذل صور الظلم المركب هي الإحتلال العسكري بمثل ما ترزح تحته أرض الإسراء والمعراج. اليهود شعب ممن خلق سبحانه له حق الحياة ما كف شره عن الناس واليهودية دين لئن نزع عنها سبحانه المشروعية الدينية فإنه ضمن لها حق الحياة وحق الوجود وحق الإختلاف سواء بسواء مغ غيرها.

 

فأهلا وسهلا بألف ألف يهودي إلى محج الغريبة التونسية من فجاج الأرض كلها ولكن لا عذر لأي تونسي ولا لأي تونسية إن وطئ أرضنا إنسي واحد يحمل الجنسية الإسرائيلية أو الجواز الإسرائيلي كائنا ما كان عرقه أو دينه ولونه.

 

الهادي بريك ـ تونس

28420944

brikhedi@yahoo.de

شاهد أيضاً

قصة يونس عليه السلام

هو يونس إبن متى عليه السلام أحد الأنبياء المرسلين المذكورين في القرآن الكريم وحملت سورة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *