قطار الثورة العربية بين الأمل و بين الألم
الشيخ الهادي بريك
لا يرتاب عاقل حصيف في أن قطار الثورة العربية المنداحة من غرب تونس حتى شرق سوريا هو الحدث الأبرز قطعا ودون منازع من أحداث التاريخ المعاصر بدء من آخر أحداث القرن المنصرم أي : إندحار الخلافة العثمانية الإسلامية بحسبانها إندكاكا للسقف السياسي الأوحد للأمة (1924)مما أفضى إلى دخولها في مرحلة الدولة القطرية الجزئية التابعة ثم نشوء الصحوة الإسلامية ناشدة إستئناف الحياة الإسلامية وجبر الضرر النابت من جراء إندكاك ذلك السقف ( محاولتا البنا 1928 و المودودي في جنوب شرق آسيا ) والحربان العالميتان اللتان وطئتا لتنزيل وعود مؤتمر بازل 1897 من وطن قومي لليهود وهو ما تحقق بالفعل وبتخطيط محكم دقيق عام 1948 حتى تقسيم وطن الأمة بحسب إتفاقيات سايكس وبيكو ورحيل الإحتلال العسكري ليحل محله الإحتلال الثقافي والفكري والسياسي والإقتصادي سيما بحلول معاهدة الإتفاقية التجارية الحرة (1جانفي2005) التي أعلنت العولمة الجشعة قانونيا قبل أن تبدأ بتوسيع دوائر سياسات السلب والنهب سيما من بعد إندحار الشيوعية بدبها الروسي 1989 وبروز القطب الأحادي الأمريكي وإحتلال العراق ومن قبل ذلك فرض سياسات تجفيف المنابع في كل من تونس ومصر وتوسيع نفوذ الناتو شرقا لتكون محرقة البلقان ضد الإسلام هناك وهو خارج لتوه من إحتلال شيوعي إبادي قاس وتزامن ذلك مع إفلاس النظرية الشيوعية سياسيا وإقتصاديا وإجتماعيا وفكريا حتى من بعد تزينها بالإشتراكية ومثلها النظرية الرأسمالية حتى من بعد تزينها بالعولمة وصعود الإسلام في مناسبات مهمة منها ثورة إيران 1979 ـ لولا نزعتها الشيعية الطائفية الحقودة ـ وفي مناطق أخرى ..
إعتلجت تلك التفاعلات الدولية تاريخيا وحضاريا لتلد الثورة العربية الراهنة أو ما سمي بحق ثورة الربيع العربي من غرب العالم الإسلامي 14 جانفي 2011 حتى شرقه في سوريا الشهيدة الجريحة وهي ترقب الفجر الثوري الصادق بإذنه وحده سبحانه.
كما لا يرتاب عاقل حصيف في أن حسن تأطير الثورة العربية الراهنة ضمن أفقها الحضاري الثقافي الأصيل للأمة الإسلامية بمختلف مكوناتها ـ بما فيها العقدية الدينية ـ وبحسبانها ثأرا تاريخيا ضد مجموعة الخيانات الداخلية والمؤامرات الخارجية ومسلسل الإندحار وتكافل الوافد مع الموروث لتأبيد التخلف … لا يرتاب عاقل في أن حسن تأطير الثورة مفتاح مهم من المفاتيح المساعدة على تحقيق أهدافها والتصدي لأعدائها. إذ أن الحكم على الشيء فرع عن تصوره كما قال المناطقة بحق.
إذ لم يكن يسيرا أن يستوعب المرء تلك الثورة التي إندلعت بسرعة وبغير إستئذان ولا ميعاد لتدك عروشا عربية راسخة محمية من اللوبيات الصهيونية الصليبية .. ليس يسيرا على المرء إستيعاب ذلك دون تأطير ذلك ضمن الإطار الحضاري الصحيح. وهل من إطار أصح من إطار ثورة قوى التجديد والإجتهاد والتحديث والمقاومة في الأمة من بعد خضوعها للموروث وللوافد معا على إمتداد قرون كاسحات عجفاوات لاظيات.
لا تغرنك مظاهر الثورة القشرية من مثل الثورة ضد الإستبداد والسلب والنهب وغير ذلك. تلك حقائق ولكنها حقائق ظاهرية قشرية سرعان ما تكشف عن مخزونها الثقافي الحضاري المتعلق بالهوية الوطنية للأمة وذلك عند النفاذ بالتحليل إلى عمق الثورة.
الحدث الكبير والخطير والعميق لا يفسر إلا بما يوازيه كبرا وخطورة وعمقا.
ما توقف قطار الثورة ولكنها إستراحة المقاتل.
أجل. ما ينبغي للعاقل الحصيف أن يتلعثم لحظة واحدة أو يتردد في ذلك. الوعي التاريخي الحضاري الباعث لتلك الثورة ما ينبغي له إلا أن يؤكد عدم توقف تلك الثورة حتى لو خضعت لما يخضع له المقاتل أي إستقطاع لحظة إستراحة. التوقف المقصود هو إنهاء الحالة الثورية العربية أما ما دون ذلك من تقطعات وتراجعات هنا وتقدمات هناك ومعارك أخرى هنالك فتلك هي ضريبة الحياة وهي ضريبة الحركة وهي ضربة لازب على المقاومة أينما كانت ومن أي مقاوم كانت. ذلك تلعثم قد توحي به الشياطين التي لا تريد للثورة أن تتواصل خوفا على عروشها المنهكة. ذلك تردد قد يشي به ما يحدث اليوم في سوريا الشهيدة الجريحة من إختلاط بعض الأوراق غير السارة من مثل جماعة النصرة السلفية سيما من بعد بيعتها وولائها لتنظيم القاعدة بزعامة الظواهري. كان يمكن للثورة أن تتوقف عند تونس أما عندما إنداحت إلى ليبيا ثم إلى مصر وما أدراك ما مصر ـ تلك القلعة الشامخة التي لم يكن يقر بخلد أحد من الصهاينة والصليبيين أن تنخرط في الثورة ـ .. كان يمكن للثورة أن تتوقف عند تلك التخوم ولكن عندما إنطلقت مسرعة من أقصى الغرب الإسلامي حتى الشرق الإسلامي ـ بل الشرق الأوسط حيث سرة المعركة الحضارية الإسلامية الغربية اليوم ـ .. عندما كان ذلك كذلك فلا تلعثم ولا تردد. ولكنه الأمل المعقود على خلاصات تاريخ الأمة وهو يفيد دوما أن كل وهدة لا بد لها أن تلد نهضة. وهو أمل معقود كذلك ومن جانب آخر على أن الكيان الصهيوني الصليبي ذاته بدأت شقوقه الداخلية في الظهور سيما من بعد الضربات الموفقة للمقاومة الفلسطينية وخاصة الصمود الأسطوري في وجه المحرقة الصهيونية ضد غزة العزة عام 2008. ليس هو أمل معقود على خلجات الصدر وإن كانت تلك كذلك مطلوبة فهي الشرط النفسي الضروري ولكنه الأمل المعقود على خلاصات التاريخ وعظاته وعلى الحال الصهيونية الصليبية التي لم تعد تخفى تراجعاتها.
ذلك هو جانب الأمل في الثورة والأمل في الثورة أمل في الله تعالى من جهة وهو أمل كذلك في الإنسان وهما أملان صنوان لا يفترقان فمن فرق بينهما فقد إستبد به الفرق.
فما هو جانب الألم.
جانب الألم هو كذلك كبير. الألم في الثورة العربية المنداحة مبناه تصدي الدولة العميقة القديمة لإجهاض الثورة أو دعنا نقول بدقة : لتعويقها أن تحقق أهدافها الكبرى في وقت معقول. أما الإجهاض بالكلية فهو أمر قضي فيه من القضاء السماوي ولا راد لذلك القضاء ولكنه يتنفذ بإرادة الإنسان. أما التعويق والتشويش والإرباك والتأخير وغير ذلك من الأعمال التي تأتيها الدولة العميقة العتيقة التي ظلت تحكم بالحديد والنار سلبا ونهبا وفسادا على إمتداد قرون .. تلك أعمال لا بد منها. ألا ترى أن الخاضع لعملية جراحية كبيرة مؤلمة لا بد له أن يلزم الفراش حتى يستعيد قوته وحيويته. ليست الثورة سوى عملية جراحية كبيرة وخطيرة ومؤلمة ولكن الشفاء منها آكد إن شاء الله تعالى. جانب من المعركة هو نفسي بالضرورة. ولذلك تجندت الدولة العميقة بسلاحي الإعلام الفضائي التي تحتكره من جانب ومن جانب آخر بسلاح الطاقم الشيوعي العالماني من عبيد الفكر الغربي الصليبي. هو فرز آخر أنشأته الثورة : قوى مع الثورة وتلك هي قوى التقدم والصلاح والإصلاح والمقاومة والحق والخير والقوة والأمل. وقوى ضد الثورة وتلك هي قوى الردة والرجعية والفساد والخنوع واليأس والشر.
دعنا نقول كلمة واحدة مختصرة : عندما تهزم أي القوتين في نفسها هزيمة معنوية كبيرة فإن النصر الأبلج إلى جانب القوة الآخرى وبالضرورة . القوى المادية غير متكافئة ولم تكن القوى المادية يوما لتحسم معركة بحسب تجارب التاريخ ولكن القوى النفسية والمعنوية ومنها قوة التكافل والتعاون والمشاركة والإلتحام .. هي القوى التي تحسم المعارك. أنظر إلى غزة وفلسطين وأنظر قبل ذلك إلى أفغانستان قبل التناحر الإسلامي الإسلامي البغيض وأنظر حيث شئت.
ذلك هو الألم الذي يؤرق الباحث المهتم من نصراء الثورة. أي ألم الإسترخاء والقعود وتسلل القنوط واليأس. أما إستعلاء الدولة العميقة فما هو إلا زبد آيل إلى الزولان قريبا بحوله سبحانه.
سترى بأم عينيك إن شاء الله تعالى عندما تنتصر الثورة السورية ـ وهو نصر قريب قريب قريب ـ كيف تنتشي المعنويات العربية والإسلامية وترتفع أرصدتها. عندها تدرك أن الثورة العربية ما توقفت وما ينبغي لها أن تتوقف إنما هي تأسست لتدشين مرحلة حضارية جديدة قوامها العدل والكرامة والحرية والوحدة والتنوع والعزة والإستقلال والندية تأهلا للشهادة على الناس بالإسلام العظيم الذي إستوعب الدين العتيق ومنحه حق الوجود والحياة حتى وهو يسلب منه حق المشروعية الدينية لخروجه عن دوائر الحق والبرهان وخدمة البشرية وعمارة الأرض بالخير والجمال والزينة والعدل وليس لأي شيء آخر.
التحديات دليل النجاح.
تلك قاعدة من قواعد فقه الحياة. فمن لم يتعرض للتحديات ويجابه الصعوبات فما له في الحياة من وجود وليس له فيها من معنى. إنما يقتضي منا جميعا الصبر في هذه المرحلة الإنتقالية الصعبة العسيرة عسر المخاض وعسر الميلاد. والحياة سلسلة ميلادات فمن ميلاد الثورة إلى ميلاد أهدافها ومن ميلاد إنتصارها ضد أعدائها إلى ميلاد عمارتها الأرض. هي إقلاعات بمثل إقلاعات الطائرة. فما طارت طائرة تبغي أفقا بعيدا إلا من بعد حركات وإقلاعات وصعوبات وتجشمات.
ولكن يغلب على بعض الناس أن نكون دوما في حالة معركة وإختبار. معركة الثورة معركة طويلة لأنها معركة الحياة حقا. ليست الثورة إلا تجديدا لهذا الدين وإجتهادا فيها وتحديثا له من النافذة الإسلامية. أما من يظن أن المعركة لا وجود لها أو هي معركة خفيفة بأسلحة خفيفة أو هي معركة باطل خوضها فما جنى من فقه المعركة ولا من فقه الحياة شيئا.
أنى لك أن يكون فقه الحياة عند عدو الثورة أصح منه عندك وأنت موقد الثورة وموريها.
وما ينبغي للثورة كذلك أن تكون نهاية التاريخ.
نهاية التاريخ بحسب ما يتمنى فوكويوما وهو لسان الغرب المادي الأحول أسطورة لا تختلف عن أساطير بعض جداتنا اللائي يوقدن شموعا على أضرحة الموتى من صالحين وطالحين أو ينفثن في الهواء طعاما يدعين أنه للصالحين أو يسكبن الماء خلف المسافر تطيرا أن يصيبه الشر. هي خرافات بعضها من بعض وهل للخرافية الأسطورية دين أو لسان أو عرق. كلا. الثورة نفسها عندما تقطع أشواطا متقدمة في تحقيق أهدافها لن تكون نهاية التاريخ وما ينبغي لها أن تكون كذلك وما ينبغي لثائر أن يحلم بذلك. ليس للتاريخ نهاية حتى لو كان أهله أصلح أهل الأرض إنما التاريخ تدافع بين الحق والباطل وبين الخير والشر وبين الفضيلة والرذيلة حتى يأذن المؤذن بالنهاية لتبدأ البداية.
عدم وجود نهاية للتاريخ بمثل ما تقدم حتى في عصر الثورة هو الذي يبعث المشروعية لقولك : الثورة وقطارها بين الأمل وبين الألم.
الهادي بريك ـ تونس
Brikhhedi55@gmail.com
Hedibrik55@yahoo.de