في التاسع من هذا الشهر سبتمبر 2016 يبلغ الإمام القرضاوي من العمر تسعين عاما نذرها بالكلية مقاوما دون الإسلام إذ تخرج من الأزهر الشريف بشهادة في أصول الدين ولما تأثر بالدعوة إنتماء للإخوان المسلمين في شبابه أدرك أن المشكلة ليست أصولية ولا فلسفية سيما بالمنهج الرديء الذي تدرس به أصول الدين إلى يومنا هذا موتا على مباحث كلامية طواها التاريخ وأثمرت الأيام غيرها فأخرج أطروحته في فقه الزكاة التي نال بها شهادة الدكتوراه من الجامعة الأزهرية نفسها ثم إندرج في الحياة جامعا بين الدعوة وبين الوظيفة العلمية الرسمية متأثرا بشيخه المرحوم الغزالي وبالبهي الخولي والإمام الغزالي الأول وبالشهيد البنا سوى أنه كان جموحا منذ شبابه إلى معانقة التجديد شابا عن أطواق التقليد فعرفته السجون ثم ما لبث أن خرج من جماعة الإخوان متفرغا للعلم الذي ملك عليه كل حياته وعندما يكون طالب العلم ثائرا يعسر جدا أن تستوعبه مدرسة بله جماعة وما إن برز نجمه وعلا كعبه حتى إستأجرته جامعة قطر التي ساهم في تأسسيها منهاجيا منذ ما يزيد عن ستة عقود كاملات وفي أثناء ذلك إستأجرته جامعة الأمير عبد القادر الجزائرية مؤقتا ليعود إلى قطر ويقر بها قراره ويواصل رحلته المعرفية مجددا ناقدا ثائرا متخصصا في ترشيد الصحوة الإسلامية لا يبالي أن ينقد الجماعة نفسها التي إحتضنته وكان ذلك مبكرا جدا في كتاب مشهور ثم إنداحت مؤلفاته لتتاخم المائة الثانية ومنها مفردات لم يسبق إليها من مثل فقه الزكاة الذي إنتصر فيه إلى الإجتهاد الحنفي مضيفا إليه ما هو مناسب للعصر ومن مثل فقه الجهاد ذلك السفر الذي يعد معلم المعرفة المعاصرة المؤصلة في هذا الأمر الذي إنقسم فيه المسلمون قبل غيرهم ومن مثل فقه الدولة الذي إنتصر فيه إلى الإقتباس المطلوب مؤصلا للديمقراطية وحقوق الإنسان والمرأة والتعدد وغير ذلك مما يضيق به المجال مهما إتسع.
لم يسهم الرجل بقلمه فحسب في المعركة الفكرية بل راح يحرض على إنشاء المؤسسات الكفيلة بإنتاج المعرفة الإسلامية المعاصرة ولعل تأسيسه لمعلمين كبيرين أكبر دليل على همه الحركي وهما المجلس الإروبي للإفتاء والبحوث والإتحاد العالمي لعلماء المسلمين اللذين ظلا طريدين في أوربا لا تجرؤ دولة عربية أو إسلامية واحدة على فسح حيز ضيق من الأرض لإعلان فرع لأي منهما والرسالة هي أن الرجل مغضوب عليه من القوى الدولية المتنفذة والصهاينة فهو مصنف تصنيفا خطيرا وقد منع الرجل مرات وإلى اليوم ربما من ولوج دول منحازة للصهاينة من مثل الولايات المتحدة الأميريكية والمملكة المتحدة وفرنسا وغيرها كما ساهم الرجل في تأسيس منظمات إنسانية إغاثية كثيرة في الكويت وغيرها وكانت له جولات ميدانية في إفريقيا حيث يعربد الجوع ويغري الجهود التنصيرية .
كما أتاح الرجل لنفسه بفضله وحده سبحانه الإلتقاء بالناس في الأرض كلها فكان يلبي دعوات الوجود الإسلامي الغربي منذ الستينات في أمريكا وأوربا وأستراليا وغيرها ليكون مقاوما بالمؤسسة وبالقلم وباللسان والحوار معا. وأهلته معرفته العلمية الراسخة والمتجددة ليقاوم بالفقه والفتوى وإشتهر بذلك في كتبه التي له منها إلى حد الآن أربعة مجلدات كبرى في الإفتاء المعاصر وبظهوره على شاشة الجزيرة القطرية لزهاء عقد كامل وشاشات أخرى قبل ذلك ولم يند عنه فضاء الجهاد المعاصر كما يسميه هو نفسه إذ كان من مؤسسي أكبر صفحة إلكترونية جامعة في الأيام الأولى لظهور الخدمة الإلكترونية أي إسلام أون لاين. ربما لم يحظ كتاب معاصر بإندياح الترجمة إلى عشرات اللغات واللهجات المعاصرة بمثل ما حظي به كتابه السفر الفريد أي الحلال والحرام في الإسلام الذي كان الباعث الأول والأكبر لشهرته وتبين إتجاهه الفكري القائم على الأصالة والمعاصرة جمعا بينهما في إنصهار تجديدي يخاطب المسلم المعاصر وهو يواجه التحديات المعاصرة وهو الأمر الذي إنفرد به في إرتجالاته وكتاباته أي تحويل الثقافة التراثية بعمقها وثرائها وعسر لسانها وغرابة تحدياتها بالنسبة إلينا إلى ثقافة إسلامية مؤصلة معاصرة يسيرة سهلة الفهم والتناول والمعالجة وبذلك غدا الرجل فعلا إمام الوسطية الإسلامية المعاصرة .
كما نذر الرجل نفسه للمقاومة بلسانه وقلمه إذ شرفته أقدار الرحمان سبحانه ليكون خير خلف لسلفه الملقب بسلطان العلماء العز إبن عبد السلام الذي أفتى أيام دولة المماليك بمصر ببيع ملوكها إذ هم سلاجقة من ذوي أصول رقيقية صدرتهم التحولات السياسية إلى الملك وبذلك قطع طريق الإستبداد أمامهم . العبد الفقير إلى ربه وحده سبحانه ـ وهو طالب علم مثابر فحسب ـ لا يعرف في التاريخ الإسلامي من أيام إندحار الخلافة الراشدة المهدية الأولى على أيدي الأمويين أي موقف من مواقف الفتوى أعظم أثرا ولا أبعد جرأة ومقاومة دون قيم الحرية والكرامة بعد موقف العز عليه الرحمة سوى موقف الإمام القرضاوي الإفتائي المباشر ذات يوم جمعة من مسجد عمر إبن الخطاب في العاصمة القطرية الدوحة قبل زهاء عقدين وأزيد إذ أفتى في خطبة الجمعة التي تنقل مباشرة إلى المتابعين في الأرض كلها بجواز العمليات الإستشهادية في فلسطين المحتلة فكانت الضربة القاصمة فعلا ضد الإحتلال الفلسطيني وكانت فتحا مبينا تتقدم به المقاومة إلى اليوم تحريرا للأرض وظل علماء السوء من تقلييدين إلى الجهل أدنى ومن من سلفيين إلى الجمود أقرب في حيص بيص يقلبون الأمر وظل الرجل من ذلك اليوم أحد أكبر أعداء الصهيونية وأذنابها من العرب والعجم شرقا وغربا وهو محكوم عليه بالإعلام في مصر في أثناء إنقلاب السفاح السيسي ضد الشرعية قبل زهاء ثلاث سنوات ولم يكن قبل ذلك محل ترحيب كبير إذ يتعرض لمشكلات كلما هم بالعودة إلى بلده مصر في العطلة الصيفية.
عرف الرجال قدر الرجل فعرض عليه منصب الإمامة العظمى للأزهر الشريف فإعتذر كما عرض عليه منصب الإرشاد العام لجماعة الإخوان فإعتذر. كان يريد أن يكون خادما للإسلام والمسلمين كلهم على مختلف توجهاتهم المدرسية والمذهبية والفكرية إذ أن الإرتباط بالجهات على ما يقدمه أهله من خدمات جليلة مشكورة إلا أنه يعيق صاحبه عن معانقة أسمى قيم التحرر في بعض الأحيان وكرمته دولة قطر بجنسيتها منذ السنوات الأولى .
بعد آخر من أبعاد الرجل أنه ليس فقيها دينيا على الطراز التقليدي القديم إذ هو صاحب كعب عال في المعرفة المالية والإقتصادية المعاصرة وهو مستشار مالي لعشرات المؤسسات المالية ومن يكون مترددا بين فقه الزكاة وفقه الدولة لا يكون حظه من المعارف المعاصرة برؤية إسلامية مؤصلة إلا حظا وفيرا.كما أن الرجل أديب وشاعر وصاحب نونية شهيرة قرظها في السجن الحربي الذي آواه وفقيه معاصر دقيق ومعاصر يعتمد التيسير في الفتوى والتبشير في الدعوة والتأصيل في التفكير وغرس الإيمان لا إثارة الجدل التاريخي الكلامي الفارغ والتجميع والتأليف لا التفريق والتشتيت والنقدية حيال التراث والغرب معا لا الإمعية أو التقديس،والتجديد لا التقليد في القضايا الحارقة المعارصة من مثل المرأة والدولة.
لما بلغ السبعين من عمره أهدى له كثير من تلاميذه ومنهم شيوخ كبار في العلم والدعوة سفرا ضخما ضمنوه دراساتهم حول المقاربة المعاصرة للرجل في مختلف المعارف والعلوم
لا بد من طاقم علمي كامل يستلم الأمانة
الرجل متعدد الأبعاد فإذا تحدث أجاد دقة وتعبئة معا وإذا كتب يسّر وأهدى الكسالى مثلي لآلي ما لنا عليها بسفينة تقنصها ولا بأجهزة تحصلها وإذا أفتى توخى المنهاج الإسلامي غير آبه بسخط حاكم ولا بغضب محكوم ولا بتقليد عالم وإذا تحرك أسس لعل العلم يأوي إلى مصانع تنتجه أن ينضب بموت العلماء وبروز الجهال كما قال عليه السلام وإذا دعا بشر وبعث الأمل وإذا عالج القضايا المعاصرة توسط وإعتدل أن يند غال أو ينفر تال. يهتم الرجل بمشكلات عصره وتحديات أهله وعلى رأسها قضية الإحتلال الصهيوني والمقاومة دون التحرر في البلاد العربية ودور المرأة وترشيد الصحوة أمل الأمة في إدلهمام الأيام وإحلولاك الليالي . الرجل عليم بعلوم الحديث وبه خبير وله مقترح قديم سابق في إنتظام المدونة الحديثية إلكترونيا وهو صانع المنهاج الدراسي لعدد من المؤسسات الجامعية منها الكلية الأروبية للعلوم الإنسانية
في كل بعد من أبعاده أو بعدين أو حتى ثلاث لنا اليوم عدد من العلماء والفقهاء والمفكرين ولكن ليس لنا من يتوفر على تلك الأبعاد كلها وهي أكثر مما ذكرت في هذه العجالة. تلك هي مشكلة هذه العجالة التي أريد تحريرها. للرجل مساهمات في التفسير قديمة ومحدثة ومراجعات وتنقيحات وتهذيبات وشروح لكتب في الحديث منها ترغيب المنذري الشهير والموسع
من يخلف هذه القامة العظيمة في سنوات عجاف تحدق بالأمة؟
لا بد من تمحض عشرات من العلماء العاملين ومن المفكرين المعتدلين ومن المقاومين الفقهاء بالدين وبالعصر معا لأجل سد ثغرة ستكون غائرة مخيفة يوم يرحل هذا الرجل أطال الله عمره وختم له بخير ختام وهو على كل حال لم يعد قادرا كما كان على مزيد من الحركة وما في حكمها إنتاجا فكريا ومقاومة وسبحان من ليس كمثله شيء.
تلك هي رسالتي إلى الناس سيما المهتمين منهم والغيورين على هذه الأمة والمؤمنين أن المقاومة اليوم هي السبيل وأنها متعددة الأبعاد هناك عسكرية وهنا مدنية وأن المدنية نفسها شعب كثيرة فنية وأدبية وعلمية وفقهية وإفتاء وسياسية وإجتماعية ومالية ووكاؤها كلمة جمعها عليه السلام في قوله (أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر).
من يستلم الأمانة عن هذا الفارس الذي يوشك أن يترجل والأعمار بيد الحي القيوم وحده ولكن التخطيط من قيم الإسلام ؟
اللهم أطل عمر عبدك يوسف عبد الله القرضاوي وأنفعنا بعلمه وأختم لنا وله بخير ختام ترضاه وقيض لهذه الأمة رجالا مثله ودونه وخيرا منه يستلمون أمانة المقاومة بكل أبعادها المطلوبة . اللهم يسر لنا أسباب خير نكون من أولئك الرواحل العدول الذين يبحث عنهم حبيبك محمد عليه السلام . آمين
الهادي بريك ـ ألمانيا
brikhedi@yahoo.de