1 ـ صوم رمضان لمن وجب عليه وجوبا شرعيا معلوما فريضة من فرائض الدين وركنا من أركان الإسلام وهو معلوم من الإيمان بالضرورة إذ يعدّ منكره ـ من بعد العلم به علما صحيحا صريحا ـ كافرا بخلاف المقرّ بوجوبه والمتخلّف عن صيامه بلا عذر فلا يكفر بذلك لأن الأصل في العمل أنه لا يكفر صاحبه إلاّ في إستثناءات لا شأن لنا بها الآن وقل من بعد ذلك عنه ما شئت أنه ظالم لنفسه أو فاسق والأولى من ذلك دعوته إسوأة وترفّقا والدعاء له بظهر الغيب في غيمات السحر الغالية.
2 ـ رخصة الإفطار في صيام رمضان ثابتة بأعلى دليل صحة وصراحة بل مرسخّة فيه في سياق واحد بموضعين متتابعين أن يتهافت على العلم الديني أحمق ينفي ذلك. ( فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر) ثم كرّرها لحما ودما سوى كلمة (منكم) إذ قــــال ( ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر). وليس بعد هذا البيان بيان لمن يعبد ربه ويطيعه دعك ممّن يشرك به سبحانه إتباعا ليقول (قال فلان أو فسّر علان).
3 ـ كثافة قيمة اليسر في القرآن الكريم كلّه لن تلفى لها موضعا أبلغ من موضع آية الصيام في سورة البقرة إذ غرس تلك القيمة فيه غرسا مؤكدا مبنى ومعنى أن يفتئت جاهل يعسّر على الناس ما يسّره رب الناس سبحانه. ( وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين) وفي السياق نفسه ( يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر). أجملت ـ أو تكاد ـ مرادات الله سبحانه في كتابه العزيز على ندرتها مقاصد الإسلام فحيثما ألفيت إرادته فذلك مقصده منك فألزمه تكن مطيعا.
4 ـ ولكن هناك خلاف ولا حرج ولا تثريب إذ أن مبنى الفقه بالإسلام ثلاثي الهندسة : الجماعية لا الفردية و اليسر لا العسر والإختلاف لا الأحادية. الخلاف هنا هو بين إتجاه يرى أن الصوم أولى لمن إستطاع دون تعنيت أو تحريج لنفسه أو لغيره وأن الرخصة فيه مؤخرة إلى آخر درجات الإستطاعة وبين إتجاه آخر لا يرى ذلك فالرخصة فيه أولى ككل رخصة في أي عبادة. المشكلة هي أن الدليل الذي يرتكز عليه كلاهما واحد وهو قوله سبحانه ( وأن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون). بعضهم قال أن الصيام نزل متدرجا كالصلاة وأمور أخرى كثيرة إيجابا وتحريما وحمل هذه الآية على أنها منسوخة بما ورد بعدها أي ( فمن شهد منكم الشهر فليصمه). وبعضهم قال أنها مرتبطة بالرخصة في قوله السابق (فعدّة من أيام أخر). التحقيق العلمي لم يحسم هذا الأمر لذا يظلان رأيان متراجحان لا يرجح أحدهما الآخر.
5 ـ ولكن ذلك التراجح بينهما لا يكرّ على أصل الرخصة ليخرمها فهي ثابتة ولكن الخلاف هو : هل يأخذ بها المترخص منذ البداية أو يؤجلها حتى يغلب على ظنه أن الصيام ينهكه كمسافر مثلا أو مريض. وهو خلاف رخصة الصلاة.
6 ـ ثبت عنه عليه السلام أنه أفطر في نهار رمضان عامدا بيان ذلك للصحابة إذ دعا بماء فشربه على مرأى منهم جميعا من فوق ذروة ناقته فأفطر الناس إذ غلبهم الإنهاك وهم في حالة سفر إلا عددا قليلا جدا ـ ربما ثلاثة ـ لم يتأسوا به عليه السلام فغضب عليهم وقال فيهم ثلاثا (أولئك العصاة). هذا موضع من مواضع بيان السنة للقرآن. وفي حالات أخرى لم تبلغ فيها حالات الإنهاك مثل هذا المبلغ ـ أو كان المأرب المقصود قضاؤه أدنى ضرورة ـ أفطر بعضهم بحضرته وظل هو مع آخرين صوّما ولمّا ظفر المفطرون بحسنة خدمة إخوانهم الصوّم قال عليه السلام عنهم (ذهب المفطرون اليوم بالأجر). هما حالتان لنا بينهما سعة.
التكييف الفقهي لأصحاب الإمتحان.
1 ـ علة رخصة الإفطار هي وضع الحرج والعنت والمشقة وجلب التيسير دون ريب إذ نحن في مربع تعبدي مفهوم معقول المعنى ولنا فيه علة نحررها ثم نقيس عليها. إذا توسعنا في ذلك تحريرا لنا أن نقول أن مصلحتي الحياة (النفس بالتعبير القديم ) والدين ـ وهما أكبر الكليات الدينية قطعا وبدون أي منازع ـ تتبادلان الموقع الأول في أحيان كثيرة فتقدّم مصلحة الدين في القتال ـ سيما جهاد المقاومة أو الدفع بالتعبير القديم ـ على مصلحة الحياة والنفس أي في بعدها الفردي لتحيا أمة وإنسان أو تؤخر لتتقدم مصلحة النفس ـ الحياة ـ في الصيام والربا ( ليس أكلا) ضرورة إلخ.. ذلك يعني أن الشريعة توافقات وليس أحاديات.
2 ـ عندما نظفر بالعلة ـ قلب العملية القياسية إذ يدور الحكم معها وجودا وعدما ـ فإن السؤال هو : إذا كان صاحب الإمتحان ـ الممتحَن في أي حقل ـ يلقى عنتا وحرجا ينهكانه أن يحسن عمله ليكون محسنا متقنا بسبب الصوم فعلى من نقيس حاله؟ هي حالة جديدة. أعلى المسافر أم على المريض أم على المجاهد؟ هناك تعبير آخر عن التعليل إسمه المناطية أي علينا تخريج المناط أي العلة أو السبب أو المقصد الذي به يُجتهد ـ وهذا حاصل في هذه الحالة ـ ثم تنقيحه أو تهذيبه أو تشذيبه تحريرا لحالة الإمتحان أن تعلق بها علة أخرى أو ألاّ تنصرف علة الإفطار بالنسبة للمسافر والمريض والمجاهد ـ ومن في حكمهم ـ إلى الممتحَن ثم تأتي المرحلة الأخيرة أي تحقيق ذلك المناط ـ العلة ـ في حقله الجديد أي الإمتحان.
3 ـ تنفيذا لذلك هناك سؤال هو : هل يحمل الإمتحان لصاحبه الصائم حرجا أو عنتا أو مشقة تحول دونه ودون بلوغ درجة الإحسان أو الإتقان في عمله؟ وكذلك سؤال آخر هو : أي ضرورة للإمتحان أصلا؟ هل يعير الدين له منزلة وأين؟
4 ـ جوابي على السؤال الأوّل هو أن المسألة تختلف بإختلاف ممتحَن عن ممتحَن بل بإختلاف إمتحان عن إمتحان وظروف أخرى محيطة. أما ضرورة الإمتحان ـ ربما الحديث عن إمتحان الباكالوريا وما في حكمه من تأقيتات حيوية جدا في حياتنا ممّا لا يملك معه المرء تأجيلا ولا تعجيلا ـ فلا شك أن الإمتحان كلّما عظم شأنه علق بكليات ضرورية عليا قدّمها الشارع تقديما. الإمتحان ضرورة تعلق بكلية الحياة بالنسبة لطالب علم ظل يحبو على طريق المعرفة زهاء 13 عاما من عمره فلا يسوّى في كلية الحياة بمن لم يخضع لذلك مع إعتبار أن الحياة مال لا بدّ لطالب العلم من كسبه بشهادته العلمية جزاء وفاقا. الإمتحان ضرورة تعلق كذلك بكلية الدين نفسه في زمن لا بدّ فيه للدعاة والعلماء في كل فنّ من شهادة علمية تبوؤهم الصدارة وتجلب إليهم صدور العباد ولا ريب في أن الدين اليوم ينحفظ بنسبة كبيرة دعوة ومقاومة وإجتهادا بالعلم والمعرفة. الإمتحان ضرورة تعلق كذلك بكلية العقل ـ الكلية الثالثة ترتيبا ـ ولا يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون وإنما يخشى الله من عباده العلماء وفضل العالم على العابد كفضله عليه السلام على أدنانا. الإمتحان ضرورة مالية كذلك. الإمتحان إذن عالق بأكثر الكليات الضرورية الشرعية العليا التي تعمل على تحرير الإنسان حياة ودينا وعقلا ومالا. الإمتحان رمز العلم والمعرفة وهما من أكبر المقاصد الشرعية ويرمز لهما في القرآن بنزول أول كلمة (إقرأ) وبثاني سورة (القلم).
الممتحَن مثل المسافر والمريض أو ضرورة تقدر بقدرها.
1 ـ عقد النية على الصوم ومباشرة الصوم حتى تفحص حالك مع مرور ساعات اليوم فإن قدّرت أنت بنفسك أن الأمرين يتعارضان فخذ برخصة ربك إليك مطمئنا أن العلة هي وضع العنت ودفع المشقة والتيسير وإن آنست في نفسك نشاطا فكريا وحيوية ذهنية فواصل صيامك مدركا أن الإرادة فيصل كبير في الحسم ولكن لها حدود بطبيعة الحال. عليك بالتوازن بينهما محكّما قوله سبحانه (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها ) و ( لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها).
2 ـ الإستعانة بوجبة سحور متأخرة جدا ( ثبت عنه قوله عليه السلام أن من كان في حال أكل أو شرب ساعة الإمساك دون قصد منه لذلك فليدل بما في فمه إلى بطنه). وجبة سحور متأخرة من جهة ودسمة من جهة أخرى أخذا بأسباب الصيام أن ينهك صاحبه بأثر من العمل الذهني و ربما يكون الأطباء خير من يصفون لمثل هؤلاء وجبات مناسبة تحفظ الذاكرة الحية والنباهة. أو التجربة كذلك لمن عنده تجربة. لمثل هذا قال عليه السلام ( في السحور بركة) فهي بركة مادية فضلا عن البركة المعنوية ليصيب المرء سجدات وإستغفارات وأوبات وتوبات وثوبات. ولمثل هذا كذلك أكد عليه السلام على تأخير السحور ليظل الصائم قويا حتى آخر اليوم في بيئات حارة أو في أيام طويلة أو من ذوي الأعمال المنهكة ذهنيا أو بدنيا.
3 ـ التجربة مهمة ولكن حتى أولئك الذين جربوا قبل ذلك فأفطروا إنهاكا عليهم إعادة التجربة ولو لليوم الأول فحسب ثم يتبيّن لكل واحد منهم حاله عن روية وتجربة وليس تصورا وخيالا.
4 ـ الإستعانة بمنشطات غير مفطرة ثبت عليه السلام أنه كان يأتيها على مرأى من الناس من مثل الماء الذي كان يسكبه على رأسه ومن مثل المضمضة عمدا كذلك تخفيفا وتيسيرا. وربما هناك منشطات أخرى تجربة أو مشورة طبية إذ الفطر مما يدخل فحسب وليس ممّا يخرج عمدا أو غلبة ولا مما يصيب البشرة.
5 ـ ولا بد من تحكيم هذا الحديث الصحيح (إستفت قلبك ولو أفتاك المفتون) إذ لا يستوي الناس لا في الإمتحان ولا في مادته ولا في مؤهلات التحمل وآماده وكذا في الإرادة ولا بأس أن يحمل الممتحَن معه أكله أو شربه عاقدا النية على الصيام وتحسبا أن يدركه الإنهاك فلا يجد ما يعالج به نفسه وليس حمل الأكل ولا إعداده ولا النظر إليه ولا إستصحابه من المفطرات أبدا إنما هو سبب مثل سبب السحور المتأخر الدسم والماء المنشط إلخ.. عدا المرضى فلا حديث عنهم هنا لأنهم أصحاب رخص منذ البداية بالنص القرآني الصحيح الصريح لا يركله إلا شقي دعي أحمق.
على أن يمتثل المفطر لقوله سبحانه (فعدّة من أيام أخر) أي قضاء يوما بيوم. وبقيت كلمة مهمة : قيمة الإخلاص التي هي أحكم الحكم من عبادة الصوم لا بدّ منها وهي متروكة للإنسان المؤمن نفسه إذ هو من يقدّر حاله ويحسم أمره في أي إتجاه يمضي (العزيمة أو الرخصة) من بعد التشبع من العلم بالمسألة دينيا وواقعيا. فلا تكن إمّعة تعمل برأي هذا أو ذاك في هذه أو في غيرها بل تشبع بالمسألة ثم توكل وليكن بينك وبين ربك هامش حرية تعبده فيه بعيدا عن رخصة هذا أو تشنيع ذاك. لا يعجبني المتردد وليس التردد من الورع. وفي الأمر سعة كما رأيت والعبرة هي بالإخلاص أوّلا وبتوازن عقلي بين العزيمة وبين الرخصة أو بين الإرادة وبين الإنهاك وسبحان من يحب أن تؤتى رخصه كما يكره أن تؤتى معاصيه. وأعلم أنك مسؤول وحدك يوم القيامة منه هو سبحانه مباشرة ليس بينكما ترجمان فإن صمت فأنتظر هذا السؤال : لم تقتل نفسك وأنا بك رحيم؟ وإن أفطرت فأنتظر هذا السؤال : لم توسعت في رخصتي وكان يمكنك الصيام؟ ظني أن خير علاج لهذه القضية التي تخترمها الألسنة والأقلام طولا وعرضا هو ذاك أي إستحضار السؤال وإعداد الجواب منذ الآن. والله أعلم.
الهادي بريك ـ مدنين ـ تونس