مقدمة
أبدأ بالحقيقة التي تثير حفيظة المتدينين مسلكا عمليا لا خيارا فكريا قوامها أن التدين سلاح ذو حدين فإما أن يرشد تأهلا لفتح آفاق التحرر والعدالة والكرامة في دنيا الناس وإما أن يغوى بتلبيس سلفي مغشوش أو بمثله من المادة الغربية المعربدة وعندها يكون التدين مفتاحا لرقّ الإنسان للإنسان وطحنه إياه وسحقه أشواق التحرر فيه. الدين ضامن للتحرر والعدالة ولكن التدين بحسب معالجة الإنسان له هو الذي يكون سلاحا ذا حدين ولا يفضي ذلك إلى نبذ التدين بالكلية أن يصيبنا حده الآخر وفرارا من الوقوع في الأسر إذ نبذ التدين نفسه أسر بل هو أسر أشد وأنكى إذ يقبع الإنسان سجين نفسه ومن أرخى العنان لهواه وشهواته بدون قيد ولا ضبط فهو الأسير الذي لا أمل له في تحرر.
التدين سلاح ذو حدين معناها أن الدين هبة الرحمان ولكن التدين مسؤولية الإنسان نفسه.
يقوم المشروع السلفي مهما إختلفت قراءاته أو تنوعت على جهاز فكري تأتلف فيه مجموعة من المقولات شأنه في ذلك شأن كل مشروع بديل. ومهما طوحت بنا الإستقراءات فإن قطعان الهمج المتوحشة المسماة ـ تنظيم الدولة الإسلامية ـ لا تعدو أن تكون جزء لا يتجزأ فكريا من المنظومة الفكرية السلفية المغشوشة مثلها في المسيحية مثل التيار المذهبي الأرتودوكسي أو النزوعات الفكرية النازية الهتلرية في ألمانيا إذ لا يعفى من شدة الغلواء دين ولا فلسفة. حتى ما يبدو من تناقضات بين تنظيم القاعدة وبين التيار السلفي السلطوي في بعض بلدان الخليج العربي ـ المداخلة مثلا ـ فما هي إلا تناقضات مؤقتة بسبب النفوذ السياسي والمالي للأنظمة التي تستخلص بعض المكونات السلفية.
بعض المقولات السلفية.
من تلك المقولات التي تؤسس للنظرية السلفية : الطاغوت. ومقولات أخرى من مثل : الحكم بما أنزل الله أو بغير ما أنزل والجهاد وتطبيق الشريعة وغيرها من المؤسسات التي إما أن تجتزأ من النص الديني إجتزاء مشوها ثم توظف توظيفا سيئا ـ وهذا هو أبرز معنى من معاني أن الدين سلاح ذو حدين ـ أو أن يعاد غرسها في بيئات مختلفة وهي نفسها سليلة بيئات لا علاقة لها لا بالفترة النبوية ولا بالفترة التالية لها وهي الأوفى لها أي الخلافة الراشدة المهدية الأولى. خذ إليك مثلا على ذلك : تطبيق الشريعة. إذ لم يرد هذا بالكلية إنما نشأ متأخرا جدا عندما بدأت مقاومات فكرية ومسلحة ضد المحتل الأجنبي وما صاحب ذلك من وفود غربي. عندها رفع بعض رواد الإصلاح المعاصرين هذا الشعار : تطبيق الشريعة في إشارة إلى أن العالم الإسلامي محكوم بقوانين غربية. المقصود بتطبيق الشريعة في تلك الأيام هو مقاومة الإحتلال العسكري والفكري معا والعمل على إستئناف الحياة الإسلامية بتدرج وبصيرة لأجل إحلال الإسلام في محل الهيمنة الغربية. ولم يكن يقصد بذلك أن المناخات كلها ملائمة لتنفيذ الأحكام الجزائية العقابية إذ أن هذه مشروطة ومسبوقة بالحرية والعدل والوحدة والرخاء وغير ذلك مما يضيق من تطبيق الشريعة بمعناها الجزائي العقابي ويجفف من منابع الجرائم التي تستوجب العقوبة إذ تقوم سياسة الإسلام على قاعدة تسير في الإتجاه نفسه هي قاعدة : درأ الحدود بالشبهات. لمجرد الشبهة وليس لأجل جريمة مشروعة إقترفها صاحبها جوعا أو خوفا أو جهلا. وقاعدة أخرى في الإتجاه التجفيفي التضييقي نفسه وهي قاعدة : الخطأ عفوا أولى من الإيقاع ظنا ولو غالبا.
أما قيمة الجهاد فهي أكبر قيمة لحقها التضرر إذ عدل عن أصل الجهاد الذي لا يكون إلا بالقرآن نفسه أي بما فيه من أفكار وقيم وتصورات ومعالجات وموافقات ومعاني وعبر وعظات وسنن وأسباب ودروس.. عدل عن ذلك الأصل الوارد في قوله سبحانه في الفترة المكية ” وجاهدهم به “. أي جاهد المخالفين بالقرآن. وعدّ ذلك جهادا كبيرا.. عدل عن ذلك الأصل إلى قيمة القتال. بل عدل عن القتال ـ الذي لا يكون إلا مقاومة لقاتل ـ إلى القتل. أي تعرض الجهاد إلى مجموعة من العمليات الجراحية القاسية المؤلمة المجحفة ليظل بالنتيجة قهرا وإكرها وليس بيانا قوليا وعمليا بالتي هي أحسن يعضد البيانات الأخرى أو حصنا يصون الحريات والكرامات والحرمات والقدسية الآدمية أن يغتالها القهر. إذ حوّل هؤلاء الجهاد من آلته الأولى أي القرآن إلى القتال الذي قيّد بقتال المقاتل الظالم فحسب ” وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا”.. ثم حولوا القتال إلى القتل أي المبادرة بالقهر والظلم والإكراه. ثم كان ذلك في أبشع صورة أي على خلفية الهوية الدينية أو المذهبية أو اللسانية أو العرقية وبذلك وقعوا في أكبر عصيان أي عصيان الفطرة الرحمانية التي إرتضاها الصانع لصنعته وهي فطرة التعدد والتنوع والإختلاف ” هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن “.
والأمر نفسه من التحريف الشنيع ضرب المقولة الأخرى أي الحكم بما أنزل الله إذ قصر هؤلاء الأمر على الطاقم السياسي فحسب كأن السلطان الإسلامي محله المساحة السياسية فحسب ولا شأن له بغيرها وهو النقيض المتطرف للفكرة العالمانية اللائكية القائمة على أن السلطان الإسلامي قد يبسط على أي حقل إلا الحقل السياسي وملحقاته. ثم شغبوا على هذه القالة ـ الحكم بما أنزل الله ـ بعدم التمييز بين المستويات الثلاثة الواردة أي الكفر والظلم والفسق إذ وحدوا المستويات الثلاثة في المستوى الكفري ليكون كل حاكم بغير ما أنزل الله كافرا بل كفر ملة إو إرتدادا وليس كفر نعمة فحسب. ثم لجؤوا إلى المعالجة الغربية نفسها في هذا إذ عمدوا إلى النار والقتل وليس إلى المعالجة الإسلامية أي التغيير والإصلاح والهداية والنصيحة والمعارضة والدعوة ضمن عمل إستراتيجي طويل منظم تحمله أجيال بسلاح الفكر والقلم واللسان والتنظم أوّلا.
مؤسسة الطاغوت مؤسسة مركزية.
لما هجمت قطعان الهمج المتوحشة ـ تنظيم الدولة ـ على مدينة بنقردان الحدودية التونسية بادروا بتنظيم بوابات أمنية في المدينة لفرز الناس بحسب بطاقات هوياتهم بين طاغوت أو عميل طاغوت ومآله القتل المباشر وبين مواطن عادي. الطاغوت أو عميل الطاغوت في نظريتهم هو الطاقم المكون للدولة وأجهزتها بصفة عامة وكل من ينتسب إلى القوات الحاملة للسلاح بصفة خاصة وبذلك يغدو عندهم كل منتسب إلى القوات العسكرية أو الحرس الوطني أو الشرطة أو الديوانه هو طاغوت أو عميل للطاغوت ومهما تكن مرتبته في تلك الأسلاك. وفي أثناء الهجوم على بعض المنازل في المدينة نفسها حدث مثل ذلك بروايات صحيحة عاينتها بنفسي في الأيام المنصرمة. بل إن منهم من أراد توسيع دائرة الطاغوت لتشمل كل من ينتسب إلى الوظيفة العمومية في الدولة وبذلك يكون عدد الطواغيت في تونس زهاء مليون طاغوت أي زهاء عشر التونسيين.
الطاغوت تحريرا إسلاميا هو المعبود دون الله سبحانه.
قال تعالى :” ولقد بعثنا في كل أمة رسولا : أن إعبدوا الله وإجتنبوا الطاغوت”. كما قال سبحانه في موضع آخر :” والذين إجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها وأنابوا إلى الله لهم البشرى”. كما قال في موضع ثالث :” فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد إستمسك بالعروة الوثقى “. كما قال في موضع رابع :” الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت فقاتلوا أولياء الشيطان إن كيد الشيطان كان ضعيفا”. وقال في موضع خامس :” يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به”. وقال في موضع سادس :” يؤمنون بالجبت والطاغوت “. ومنها قوله سبحانه :” إن الإنسان ليطغى أن رآه إستغنى”.
الطاغوت لغة على وزن فعلوت لأن أصل الفعل معتل اللام فهو ناقص وأصله : طغى يطغى طغيا. أصله : طغي. ثم سهلت الياء مدا فأصبحت : طغى. أما مصدر الطغيان فهو مصدر مبالغة كفرحان وخوفان.
الطاغوت هو ما طغى طغيانا إما في النفوس تقديسا وتقديرا لحب أو لخوف أو لكليهما بما يجعل النفوس تعبده لأنه إحتل سويداءها بطغيانه فيها. أو طغى في الواقع ماثلا مجسدا مجسما في إنسان أو صنم أو وثن أو مؤسسة أو أي شيء أو أي أمر وكان طغيانه ذاك في الواقع حاملا للناس إما لخوف أو لحب أو لطمع على عبادته.
الحاصل لغة هو إذن أن الطاغوت ما طغى في النفوس أو في الواقع فحمل الناس بسبب خوف أو حب أو طمع على عبادته. ولذلك جاء الطاغوت في القرآن الكريم بديلا عن الله المعبود بحق سبحانه. ورد هناك أن الطاغوت يعبد كما ورد أنه يتحاكم إليه في النزاعات وغيرها. الطاغوت الذي كان الناس يتحاكمون إليه في تلك الأيام عادة ما يكون ـ بحسب السياق الذي هو أصل في التفسير والتأويل وحسن الفهم ـ من أسياد الإسرائيليين وزعمائهم الذين يكنون العداء للإسلام ويتحالفون في ذلك مع بعض الساسة العرب من قريش ومن غيرهم. الذين يرفضون الإسلام في تلك الأيام يلجؤون إلى أولئك الطواغيت سواء من العرب أو من الإسرائيليين محتكمين إليهم أما العبادة بمعناها النفسي الداخلي فعادة ما كانت تصرف لأضرحة الأموات أوثانا وأصناما يعدّون لها مع الله تدبيرا.
ذلك هو بحسب تلك الأيام وبحسب السياق ولكن بالمعنى العام لعدم تعطيل المعاني ونصوصها وإعمالا للمبدإ المقاصدي الموضوعي العام لا الحرفي ولا الوسائلي ولا الموضعي الخاص فإن الطاغوت هو كل شيء أو أمر طرا مطلقا طغى في النفوس لأي سبب أو في الواقع لأي سبب كذلك فحمل الناس على عبادته ولو نفاقا ظاهرا فحسب أو حملهم على التحاكم إليه نبذا للإسلام من بعد علم ومعرفة وحرية وإختيار وإرادة.
ذلك أن الطاغوت لا يكون في التحرير القرآني إلا في مقابل سلطان الله سبحانه أي يكون بديلا عنه سبحانه إما عبادة نفسية أو إحتكاما عمليا قضائيا أو سياسيا أو عسكريا.
هل هناك في تونس طاغوت معبود لا مناص من جهاده؟
إذا كان هناك في تونس طواغيت معبودة مع الله أو بدونه فما هي إلا الأضرحة وما في حكمها مما يتخذه الناس أولياء يفرون إليها في أزمنة اليسر والعسر سواء بسواء. العيب في تلك الطواغيت ليس فيها هي أي في أصحابها الموتى ولكن العيب هو في العابدين لها وبذلك يتبين أن الذين يقومون بهدم الأضرحة سواء كانت لمن نظن أنهم على صلاح أو على خلاف ذلك إنما يعالجون الأشياء معالجات أبعد ما تكون عن الحكمة والهدى. هم يظنون أن المشكلة في الميت وقبره والمشكلة هي في الحي وعقله.
أما عدا ذلك فلا يمكن أن يرتقي أحد حتى من الحكام إلى درجة الطاغوت. إذ لا نعلم أن أحدا تقرب من حاكم عبادة بل كان التقرب منه نفاقا يؤزه الخوف أو الطمع والدليل على ذلك أنه لما يسقط حاكم يتحول المنافقون الذين كانوا حوله إلى خلفه وليس هذا من شأن المعبود الذي أخبرنا أن أهله يقاتلون في سبيله بمثل ما يقاتل المؤمنون في سبيل الله. الذين كانوا يرضون بالقوانين التي تخالف الإسلام إلى اليوم في الحالة التونسية ـ قانون التبني مثلا ـ لم يكونوا يتحاكمون إلى الطاغوت إذ لم يكونوا راضين عن تلك القوانين عدا عدد قليل جدا من أراذل الماركسية البايدة ممن يرتبون أعمالهم على أساس معاداة الإسلام فحسب. أما غيرهم فلو عدّل ذلك القانون لفرحوا به وهم أصلا لا يحكمونه في حياتهم ولكنه ظل قانونا مخالفا للإسلام مثبتا على الورق فحسب إلا في حالات نادرة جدا. ليس إذن كل الطاقم القانوني التونسي مخالفا للإسلام من جهة والناس الذين يجري عليهم ذلك لا يقرونه في الأعماق ويعرفون أنه قهر وظلم وقمع من جهة أخرى وبذلك ليس هناك طاغوت في تونس بالمعنى السياسي .
إلا طاغوتان كبيران لا شأن لهما في قابل الأيام : الطاغوت النفسي بأثر من تقديس المشركين في تونس لأضرحة الموتى وما في حكمها. والطاغوت الغربي ـ الذي هو طاغوت دولي حقا في بعض حلقاته العسكرية والمالية ـ ولنا منه في تونس أذيال وأذناب يعبدونه ويقدسونه ويتحاكمون إليه. هما طائفتان لا عبرة بهما لقلة شأنهما عددا وعدة وفكرة والإتجاه الشعبي العام ينبذهما.
وكل ذلك لا يحوّل تونس إلى أرض فيها طاغوت يحمل الناس على عبادته أو التحاكم إليه نبذا لشريعة الإسلام التي تحتل حيزا مهما من الحياة بل هي في تقدم بطيء وإستقرار. أما القول وخاصة بعد الثورة بأن الطاقم السياسي التونسي بمؤسساته ورجاله هو طاغوت فهو قول ساقط إذ الطاغوت والإنتخابات شيئان لا يلتقيان بالمرة والكلية. الطاغوت والحرية نقيضان بالضرورة. الطاغوت أداة إكراه. وأسقط منه القول بأن العملة والموظفين في أسلاك عسكرية أو أمنية أو إدارية وقضائية هم عملاء الطاغوت. هؤلاء حتى لو كانوا فعلا موظفين لدى طاغوت طغى فعبده الناس وإليه إحتكموا فلا يباح قتلهم والعدوان عليهم بالجملة فما بالك إذا كانت الثورة قد أتاحت لنا لأول مرة إختيار حكامنا الذين يختارون بالضرورة من يقوم معهم على الشؤون التي لأجلها إخترناهم نحن حكاما.
لا بد من حاضنة فكرية مضادة.
الآن وقد تحقق أملنا عمليا أن الإرهاب فاقد لأي حاضنة شعبية فإن المسؤولية هي تجهيز حاضنة فكرية وثقافية بديلة تبدأ مشروعا وطنيا جامعا وطويلا لأجل إعداد دعاة وطنيين جامعين يقاومون مؤسسات الفكر الإرهابي وحاضناته السلفية التي هي منابته ومنابعه في التاريخ وفي مساحات واسعة من التراث نفسه وتغذيها دون ريب موازين منخرمة. ليسوا هم خطباء جمعة ولا أئمة فحسب بل هم دعاة وطنيون معاصرون معتدلون مجهزون فكريا وثقافيا بما يدحض الحاضنات السلفية والعالمانية التي تغذي الإرهاب سواء بسواء. تلك هي المسؤولية الوطنية الأولى في تقديري تقوم عليها الدولة والمجتمع المدني بأحزابه ومؤسساته وجمعياته ومنظماته ومبادراته وتؤسس لها المعاهد الكبرى والمدارس العليا لأن موجة الإرهاب في عنفوانها ولها مغذياتها ولها مستقبلها في دورات حضارية متتالية والسكون شيء يأباه الكون ” ولتنظر نفس ما قدمت لغد “. أما المعالجات المرتجلة ومثلها المقصورة على سلاح مادي وغيره فقد تكون مهدئات مؤقتة ولكن السرطان الفكري عندما يوفر له حاضنة في الرؤوس ـ سيما رؤوس الشباب المهمش ـ فهو قنابل موقوتة قابلة للإنفجار في كل لحظة غفلة لا يتنبأ أحد بها أبدا.
الهادي بريك ـ مدنين ـ تونس
brikhedi@yahoo.de