الأشهر الحرم أو فقه الحرمات

رجب شهر حرام وإذ أهلّنا فلا بأس من كلمات حول قيمة الحرمة.

القيمة الأولى :

ليس الإسلام هو الذي جاء بحرمة الأشهر الأربعة المعروفة قمريا أي رجب المنفرد وذو القعدة وذو الحجة ومحرم المتتابعات. إنما جاء الإسلام فوجد مشركي قريش يدينون بذلك بأثر من بقية باقية من ملة إبراهيم عليه السلام سوى أنهم كانوا يتخدون الإنساء فيها وهو الذي قال فيه سبحانه ناعيا عليهم :” إنما النسيء زيادة في الكفر”. النسيء هو تأخير الزمان المحرم عن محله تفصيا من التكاليف المترتبة عن الحرمة. ولما وجد الإسلام ذلك أقره في كتابه بقوله :” إن عدة الشهور عند الله إثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض منها أربعة حرم ذلك الدين القيم فلا تظلموا فيهن أنفسكم”. ولم يعيّنها هنا لأنها معلومة عند العرب. القيمة المقصودة هنا هي أن الإسلام ليس دبابة تجرف ما تجده أمامها بالكلية دون نظر إلى مصلحته أو مفسدته بل هو دين يقرّ ما يجده سابقا إياه عندما تغلب مصلحته مفسدته. هذه القيمة مهمة جدا اليوم لنا في حياتنا إذ يغلب علينا أن الإسلام لا يستورد من غيره ولا يقتبس لا من سابق ولا من لاحق ولذلك غلبت علينا نعوت الجاهلية لكل ما سبق أو لحق دون تبين بأثر من ضغط خارجي يستخف الناس للتورط في ردات فعل خاطئة. نحتاج اليوم تلك القيمة حتى نراكم البناء على كل صالح مفيد سابق فإن إعتورته صالحات وفاسدات فالميزان العدل هو العمل بنظرية التغليب كما قال الدكتور الريسوني إذ قلّما تتمحض بالخير معاملة أو بالشر مسلكية. صاغ الأصوليون تلك السياسة التشريعية بقولهم أن مراتب التشريع ثلاثية فمنها إخبار فيما يتصل بالغيب من عقائد ومنها إنشاء فيما يتصل بالعبادات الكفيلة بالتزكية النفسية والتطهير الروحي ومنها إقرار فيما يتصل بالعادات والتقاليد والأعراف والمعاملات التي ترجح مصلحتها مفسدتها.

القيمة الثانية :

أربعة شهور محرمة يعني ثلث العام وعندما يكون العام وحدة زمنية قياسية فإنه يشرع لنا أن نقول بإطمئنان أن ثلث العام هو ثلث الحياة. أي : ثلث الحياة محرم بقانون ديني سماوي إلهي. الثلث كثير بالتعبير النبوي في حديث صحيح في شأن وصية إذ قال عليه السلام لخاله سعد عليه الرضوان ” والثلث كثير”. أي نسبة الثلث من كل شيء هي نسبة كثيرة ولا يقيّد الأمر هنا بالوصية إجتزاء من الإرث بل تتعدى هذه القاعدة الحسابية النبوية لتعني أن الثلث من كل شيء مطلقا هو كثير. أن يكون ثلث الحياة ـ ثلث الزمان ـ محرم فذاك كثير.

ولكن لم يقتصر الإسلام على تحريم ثلث الزمان بل حرم كثيرا من المكان كذلك إذ حرم أماكن العبادة بغض النظر عن العابد وعن صحة العبادة نفسها إذ قال “ّ ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها إسم الله كثيرا”. ومعلوم لكل الناس أن في الأرض ثلاث حرمات معالم لا تشد الرحال إلا إليها أي المسجد الحرام والمسجد النبوي والمسجد الأقصى المحتل. وليست أماكن العبادة فحسب محرمة بل كذلك الأسواق والمساحات التي تجمع الناس من كل صوب وحدب لقضاء مآربهم ومثلها في الحرمة المشددة مضاجعهم التي تؤويهم أي منازلهم وبيوتهم. تلك أماكن محرمة حرمة الزمان نفسه فلا يعتدى على الناس فيها. الحصيلة إذن : ثلث الزمان محرم وأماكن كثيرة محرمة كذلك منها على وجه الخصوص : أماكن العبادة والأسواق وما في حكمها والمضاجع الخاصة أي حيث لا بد من سيادة الأمن. مما يستدل به على حرمة البيوت والمنازل والأماكن الخاصة الحديث الصحيح الذي يقول فيه عليه السلام أن من تجسس على قوم بغير إذنهم ففقؤوا عينه فلا ضمان عليهم.

القيمة الثالثة :

ما معنى الحرمة؟ شهر حرام معناه أن التشديد على رعاية حرمة الإنسان في تلك المساحة الزمنية أن تنتهك ترتفع إلى أقصى درجة لتكون جريمة مركبة لا غفران فيها. ليس معنى ذلك أن الإنسان متاع رخيص خارج تلك المساحة الزمنية التي هي ثلث الزمان بل المعنى هو أن القانون السماوي فرض تشريعا مشددا يقضي بصون حرمة الإنسان في تلك المساحة الزمانية بأقصى ما يمكن من القوانين الكفيلة بحماية الذات الآدمية. إذ لا معنى لتحريم زمان ولا مكان إلا إذا كان ذلك يخدم الحرمة البشرية. الزمان والمكان إنما يحرمان لأجل الإنسان وليس لأجل نفسيهما. أي : لأجل رفع قدسية الإنسان إلى أعلى درجة في التشريع الإسلامي فإن ذلك التشريع نفسه أبى إلا أن يحمي تلك القدسية على إمتداد ثلث الزمان كله وفي الأماكن التي يحتاج فيه الإنسان الأمن المطلق. دعنا نسمي ذلك بالتعبير المعاصر : للتشريع الإسلامي حالة طوارئ عامة ومشددة مغلقة مدتها ثلث الزمان. حالة الطوارئ تشرع في الحالات الخاصة والإستثنائية. ولأجل إعلاء تلك القدسية الآدمية شرعت حالة الطوارئ تلك. لا حرمة إذن لزمان ولا لمكان إلا بمعنى حرمة الإنسان إذ هو المقصود بالحرمة.

القيمة الرابعة :

لماذا كانت الحرمة الزمانية في تلك المساحة بالذات وليس في غيرها؟ كانت الحرمة الزمانية الواسعة الممتدة أي من أول ذي القعدة حتى أواخر المحرم (ثلاثة أشهر متتالية) لضمان الحرية العقدية والتعبدية الدينية إذ تلك هي المساحة الزمنية التي شرعت فيها مناسك الحج ومنذ قديم وليس الأمر خاصا بالإسلام. في تلك الأيام كان الناس يحتاجون إلى تلك المدة كاملة تقريبا لأجل أداء تلك المناسك. لمّا كنت طفلا يافعا في أواخر الخمسينات كنت أرقب مرات كثيرة في العام صورة حجاج مغاربة زرافات ووحدانا يؤمون البيت الحرام من المغرب الأقصى مرورا بالجزائر وتونس وليبيا ومصر على أقدامهم. كانت الرحلة تحتاج شهورا ذهابا ومثلها إيابا وكان الحجاج يحتاجون لذلك الأمن قبل كل شيء. ولذلك تحصنت تلك المساحة الزمنية بالحرمة ضمانا لحرية المعتقد والعبادة. ولكن لماذا كان رجب كذلك شهرا حراما وهو يتوسط الزمان؟ الجواب هنا تقديري ظني إذ لا يملك أحد إجابة قاطعة. ظني أن الإنسان يحتاج إلى الأمن وهو يباشر مهمته التي لأجلها هي فحسب خلق وهي مهمة الإستخلاف والإستئمان والإستعمار وإقامة العدل وبث التعارف والتعاون والتكافل على الخير والبر والمعروف. ضمن له الأمن لأداء مناسكه مرة واحدة في العام ولا بد من ضمان الأمن نفسه لأداء بقية أجزاء المهمة سيرا في مناكب الأرض فكان لا بد من أن تتوسط الحرمة الزمانية العام أي رجب. ربما يحتاج إلى عمرة في تلك المدة نفسها وربما يحتاج لطلب عيش والأمران يقتضيان أمنا قطعا. المهم أنه قد ضمنت له مساحة زمانية كافية لأن يأمن على نفسه وماله في عبادته وفي طلبه العيش وهي كفيلة كذلك بأن تكف بأسه هو عن الناس. فلسفة الحرمة الزمانية هي : لمّا كان الناس في تلك الأيام لا يضعون عن كواهلهم أسلحتهم التي بها يدفعون عن أنفسهم أو يستخدمونها عدوانا فإن التشريع الإسلامي ألزمهم بفترة هدنة ـ حالة طوارئ ـ إجبارية بقانون إلهي سماوي حتى يتسنى لهم حق العبادة والإعتقاد لمن أراد ذلك أو طلب العيش الكريم الآمن لمن أراد ذلك كذلك.

فقه الحرمات أو فقه حقوق الإنسان.

كثيرا ما تكون المناكفات الإصطلاحية بين الناس تغليبا لهذه الصياغة أو لغيرها هي الحائلة دون نسج خيوط الإئتلاف بينهم. الذين يرفضون منا اليوم صيغة حقوق الإنسان لا يفعلون ذلك لعدم إعتقادهم أن الإسلام لا علاقة له بذلك ولكن يفعلون ذلك بسبب أن الصياغة غربية وأن الغرب هو مصدر العداوة ضد الإسلام. وقس على ذلك أكثر المواطن إختلافا بين الناس. ولكم أجاد الأولون وأتقنوا عندما عدّوا هذا أصلا فقهيا حاكما : العبرة بالمقاصد  والمعاني وليست بالأشكال والمباني. نحن اليوم لبضاعة مزجاة ولترسبات أيام خالية نقدم الأشكال والمباني على المقاصد والمعاني.

عندما ندرس حقا وبجد أن التشريع الإسلامي إنما حرم ثلث الزمان بأسره وأمكنة كثيرة لا بد فيها من الأمن المطلق سواء لعبادة أو لعيش وهو لا يفعل ذلك تقديسا لزمان ولا لمكان ولكن يفعل ذلك تقديسا للإنسان وإعلاء لحرمته ورفعة لقدره فإنه ما يجب أن يساورنا أي ريب في أن للإنسان في الإسلام حرمة وحق وقدسية وتكريم. ولا ضير علينا أن نشيد اليوم في فقهنا تأصيلا وتفريعا مبحثا جديدا نسميه : فقه الحرمات. أو فقه حقوق الإنسان ولا مشاحة في المصطلح كما قال الأولون أنفسهم.

أنت تطالع اليوم مئات من الكتب المؤصلة عقيدة وعبادة وفقها وتزكية فلا تعثر على مبحث يهتم بالإنسان من حيث أنه كائن مقدس مكرم محرم مستأمن مستخلف معلم مسؤول. يخيل إليك وأنت تدرس الفقه بصياغاته التقليدية القديمة أن الإنسان مفعول به لا فاعل بل هو كائن ضحية لقانون سماوي إلهي قهار صارم.

هل يستقيم ذلك مع المنزلة الحقيقية التي أولاها التشريع للإنسان؟ أو يستقيم ذلك مع التطورات العملاقة التي شهدتها منظومة قيم حقوق الإنسان في الزمن المعاصر؟ هل يساعد ذلك على تشييد نهضة جديدة أو إختراع فقه جديد يكون الإنسان فيه المركز الفاعل وليس الرقيق المبخوس؟

أما آن لنا أن نعترف بتواضع الكبار أن تراثنا ـ حاشا وحينا ـ إنما صيغ في الأعم الأغلب صياغات تردد إستحقاقات قاسية للإنقلاب الأموي ضد أكبر رمز من رموز كرامة الإنسان أي إدارة الشورى طريقا إلى الحكم وليس ما إستقر عليه فقهنا أي شرعية ذي الشوكة أو صاحب السيف المتغلب؟

أما آن لنا أن نعترف بتواضع الكبار أن ذلك كان سببا ـ ولا يزال ـ في وقوعنا تحت ركامات سوداء سحيقة من الإنحطاط الذي تسلل منه العدو الغربي ليفرض نظريته؟

فقه الحرمات : مبحث أصولي فقهي جديد علينا إجتراحه بشجاعة وتأصيل ديني وواقعي معا شرطا من شروط النهضة أما المواصلة في تشييء ما كرمه الله نفسه أو ترذيل ما قدسه التشريع نفسه فهو سير في الإتجاه المسدود.

الهادي بريك ـ مدنين ـ تونس

brikhedi@yahoo.de

 

 

شاهد أيضاً

قصة يونس عليه السلام

هو يونس إبن متى عليه السلام أحد الأنبياء المرسلين المذكورين في القرآن الكريم وحملت سورة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *