هل لك ألاّ تموت؟

يمكن أن تقرأ العنوان بلسان آخر فتقول : هل لك أن تكون حيّ الأموات؟ أو : هل لك أن تضمن لنفسك بعد الموت أفضل تقاعد مريح؟ للسؤال صيغ كثيرة واللبّ واحد وهو : الإستثمار لما بعد الموت أي الإدخار لحياة برزخية ربما تطول عليك في القبر قرونا ثقيلة أو أحقابا غير ظليلة

أنت تسأل والمؤيد بالوحي يجيب
بل إنه عليه الصلاة والسلام لم يدع الإنسان يسأل أصلا عن هذا السؤال الكبير إذ أجاب بقوله : إذا مات إبن آدم إنقطع عمله إلا من ثلاث : ولد صالح يدعو له أو صدقة جارية أو علم ينتفع به. الحديث متفق عليه وهو أعلى درجات الصحة في سلم سداسي عقده من إليه فاءت مشيخة الحديث إبن الصلاح في مقدمته وغيره

معنى ذلك بتعبيرنا المعاصر أن الإنسان ـ وهو ميت لا محالة مهما أبطأت منيته ـ منح فرصة من الحياة عليه إستثمارها في ضمان تقاعد مريح يقيه عذاب القبر وأهوال البرزخ بصفة عامة ثم يكون له شفيعا مأذونا له أمام المحكمة العليا الأخيرة التي لا معقب لحكم القاضي فيها سبحانه. ذلك أن الإنسان قد تشغب عليه الغفلة فيطفق يجمع للدنيا إستثمارات ورساميل تضمن له حياة تقاعدية مريحة أو لولده من بعده فإذا باغته الموت إكتشف أنه مقبل على سفر بعيد طويل مخيف لا زاد له فيه وأنه مكره على ذلك لا حيلة له في فكاك . ذلك هو معنى أن يعد الإنسان منذ الآن ـ وهو صحيح غني يملك الفعل والعمل ـ لنفسه حياة يكون بها حيا وهو ميت وما هؤلاء الذين نتعلم منهم نحن اليوم أو نأكل مما زرعوا أو غرسوا أو من ولدهم إلا أمواتا قدموا لأنفسهم آثارا إستثمروها قبل موتهم فهي اليوم تغدق عليهم إغداقا

عناوين التقاعد البرزخي المريح ثلاثي الأبعاد

العنوان الأوّل : إمرأة صالحة تلد له ولدا يصلح الله أمره
يمكن أن نسمي العنوان الأول للإستثمار البرزخي : الأسرة. إذ الولد الصالح سليل إمرأة صالحة والمرأة الصالحة هي عماد الأسرة وذلك يعني أن الأسرة هي الرأسمال الأوّل والأكبر الذي يضمن للمرء بعد موته تقاعدا برزخيا حيا مريحا في رحلة قد تطول وقد تشق ولا أحد عاد من هناك فأخبرنا عنها وكل ما نعلمه عنها أنها حساب مستمر متواصل ونخل لمرحلة الحياة فإحسان بإحسان أو إساءة بمثلها. الولد الصالح ـ الولد لغة ودينا يعني الذكر والأنثى بل يعني المفرد والجمع كذلك ـ هو ثمرة إمرأة صالحة ووالد صالح والحكمة منه هنا هو أنه يظل داعيا لوالديه بعد موتهما بالخير والرحمة واللطف قاضيا لديونهما مع الله ومع الناس سواء بسواء واصلا لصديقهما بارّا بهما حتى بعد موتهما بل ربّ برّ بعد الموت ينال من البر قبله ما لا يناله إلا ذو حظ عظيم. المعنى المهم هنا هو أن من يعد الأسرة الصالحة بالمعنى الإسلامي الصحيح ـ وليس الصلاح التقليدي أو السلفي المزيف أو الصوفي مثله أو اللبرالي ـ يكون ثوابه في الحياة البرزخية عظيما لأنه ساهم في شد أركان المجتمع الذي لا يصلح إلا بصلاح الأسرة ولا يفسد إلا بفسادها إذ العلاقة طردية عضوية بينهما. معنى ذلك هو أن الأسرة مطلوب الإسلام الأوّل إذ هي مصنع الولد ومعمل الإنسان سيما الأم التي يصنع الإنسان في رحمها فيتغذى من دمها ومن عاطفتها وعقلها حتى إذا دخنت سيجارة واحدة تأثر الجنين بذلك أو غضبت غضب لغضبها وذلك هو مفهوم قوله عليه الصلاة والسلام ـ عملا بالقاعدة القضائية العادلة أن الجزاء من جنس العمل ـ أن أولى الناس ببرك أمك ثم أمك ثم أمك ثم أبوك. ليس ذلك قسمة ضيزى بل لأن الأم تحملت من التربية والإعداد ثلاثة أضعاف ما يتحمله الأب بالتمام والكمال قسمة عادلة. معنى ذلك هو أن إعداد الإنسان ـ أي الولد الصالح ـ شفيع للمرء في قبره وأن الإنسان شفيع الإنسان فمن ضبط حياته على أساس أن الإنسان كائن مقدس قدسه الذي برأه فإختار المرأة الصالحة وربى الولد الصالح ينال جزاء إختياره الإسلامي الصحيح ومن رأى في الولد حمارا يلهث وراء المال ليجني المال ويبني القصور ويشيد الضيعات ويحمل الذكر ويبطش بالضعفاء فحسبه ما نذر له نفسه ورهن له حياته

كلمة قصيرة عن العمل الصالح الذي يأتيه الولد الصالح

أفضل ما يحال عليه هنا هو لقمان الحكيم الذي أوصى إبنه في سورة لقمان المكية بأمور منها : نبذ الشرك بالله سبحانه ظاهره وباطنه إذ ذلك هو مفتاح الصلاح ثم الإحسان إلى الوالدين على أساس أن ثلاثة أضعاف الإحسان إلى الأم ينصرف وما بقي إلى الوالد ينصرف ثم إقام الصلاة ثم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهو ما نسميه اليوم بلساننا ـ ولا مشاحة في المصطلح والعبرة بالمقصد لا بالمبنى ـ الإنخراط في الشأن العام سواء كان سياسيا أو ماليا أو إغاثيا أو إجتماعيا أو إنسانيا أو تربويا أو فكريا ثقافيا أو فنيا وسواء كان ذلك بإستقلال أو بعضوية في حزب أو جمعية أو منظمة أو رابطة ثم الصبر على لأواء الحياة لتربية شخصية عازمة هادئة حازمة وسطية معتدلة ومتوازنة ثم بسط الخلق الحسن الطيب مع الناس وخاصة بنبذ الكبر والبطش وإحتقار الناس والحلم معهم حتى يكون المرء صوته وسطا يسمع ولا يؤذي وكذا بصره. العمل الصالح هو إذن : إيمان صحيح من الشرك سليم + عبادة قوامها الصلاة + إنزال الوالدين المنزلة العليا برا وإحسانا وخفض جناح + الإنخراط في الأمر العام مهما كانت الظروف قاسية أو توحي بالقنوط أو خيم العدو على تخوم قريبة إذ أن الحياة دوما معركة بين الحق والباطل وليست نزهة يفرش فيها السجاد الأحمر وتبث فيها الورود الحمراء + ملازمة الصبر والحلم والخلق الكريم وخاصة مع الضعفاء والفقراء ومن هم دونك

العنوان الثاني : صدقة جارية أو مقاومة بالمال
طوبى للموسرين والأغنياء حقا. ألا ترى أن أكثر المبشرين بالجنة من العشرة ـ وإلاّ فإن كل الصحابة بذلك مبشرون ـ من الموسرين والأغنياء؟ ألم يقل عليه الصلاة والسلام : نعم المال الصالح للعبد الصالح؟ نحن لا نعلم عن رجال كثيرين ـ من الخليج مثلا ـ يساهمون منذ عقود بأموالهم سرّا دوما وبالعلانية ما إضطروا إلى ذلك في مقاومة الفقر والجهل والمرض والتخلف والأمية في إفريقيا. ألم يسمّ سبحانه بذل المال جهادا بالمال؟ ألا يعني ذلك أن المال مقدم في المقاومة والجهاد لأنه لا شيء يقوم بلا مال وخاصة اليوم؟ الصدقة صدقتان : عارية وجارية. الجارية تطعم بها فقيرا أو تسدّ بها حاجة محتاج أو أرملة أو يتيما أما الجارية فهي التي يمتد أثرها سنوات أو عقودا أو قرونا من مثل المساهمة في تشييد مرافق الناس مما يحتاجون إليه سواء طرقات أو معاهد أو مدارس أو كليات أو جامعات أو محاضن تربوية أو مساجد أو مغاسل عامة أو أي مرفق يخفف عن الناس وطأة الفاقة ويفتح لهم رغد العيش ولا عبرة بذلك إن كان دنيويا أو أخرويا بل لا عبرة إن كان المستفيد مؤمنا أو كافرا بل لا عبرة أن يكون المستفيد آدميا أو عجماء بكماء. الصدقة الجارية يمكن أن تكون خمس دينارات عن كل شهر أو أقل أو أكثر. إنما سميت جارية وكان فضلها أعظم بسبب ضمانها لحياة دائمة مستقرة للناس وليس إشباع جوعة إو إطفاء حرقة ظمأة أو ستر عورة ثم يجوع صاحب البطن من جديد وبعد سويعات قليلات ومثله الظمآن والعريان والخوفان. أجل. طوبى للموسرين والأغنياء. وبذلك يغدو طلب المال في الإسلام فريضة كطلب العلم بل أوكد لأن المال ينقذ الله به رقابا أسارى وأمما وشعوبا تحت الإحتلال ويخرج الله به أمة بأسرها من ركام الإنحطاط والتخلف والمديونية

العنوان الثالث : الإستثمار في العلوم والمعارف والبحوث والإجتهادات
ألا تعتز بدين يعتبر أن أفضل ما يترك الميت من بعده علما ينتفع به الناس؟ لك ألاّ تعتز بأمة هي اليوم تعد نسبة الأمية فيها بما يناهز 43 بالمائة أي الأمة العربية التي هي خمس الأمة الإسلامية والتي يعول عليها في تعليم الناس دين ربهم وكتاب ربهم. مفارقة طاحنة تجعل الأنسان يزداد إعتزازا بالإسلام ونبي الإسلام وأملا في الأمة وليس يأسا منها حاشا لله فاليأس ذئب مفترس . لا عبرة بأن يكون العلم نجارة أو حدادة أو بيولوجيا أو فيزيا أو كيميا أو رياضيات عقلية أو بدنية أو علما دينيا ولا عبرة أن يتعلم ذلك منك مؤمن أو كافر أو رجل أو إمرأة أو كبير أو صغير ما دام العلم نافعا للبشرية وتجود به ـ بأجرك الدنيوي كاملا ـ بأسسه وأصوله. ألم يخلد تراثنا رجلا عظيما كإبن رشد هو علامة في الدين وفي الطب وعلوم أخرى؟ ومثله الزمخشري وأكثر علماء الدين الأولين كانوا متخصصين في علوم كونية أخرى. هذا حقل طلبة العلم والمتخرجين منهم فهل من مشمر إلى الجنة بزاد العلم؟

خلاصة
ثلاثة مشاريع إستثمارية عظمى ندبك إليها رسول الهداية محمد عليه الصلاة والسلام وهي عنوان تقاعد برزخي في قبرك وهي التي تنافح عند يوم القيامة فهل لك أن تتخصص في إحداها أو في إثنين منها أو فيها كلها؟ لا بد لك من إعداد مشروع الحياة وإستثمار القبر فإما أسرة بزوج صالحة وولد صالح ومن الأسرة مجتمع صالح عادل مقاوم أو علم في أي تخصص كوني أو شرعي ينفع الناس فلا يضلوا بل يتقدموا ويقهروا التخلف والمرض والفقر والمجاعة والمديونية والإنقسام والإحتلال أو مال ينقذ به الله أمما وشعوبا طحنها الإنحطاط وذهب قرارها المستقل ثمرة لضعفها وإستضعافها. لا بد لك من واحدة منها على الأقل
المستثمر لا يموت لأن إستثماراته في الأسرة والإنسان أو في المال والعلم لإسعاد البشرية تجعله حيا
والله أعلم
الهادي بريك ـ ألمانيا
brikhedi@yahoo.de

شاهد أيضاً

قصة يونس عليه السلام

هو يونس إبن متى عليه السلام أحد الأنبياء المرسلين المذكورين في القرآن الكريم وحملت سورة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *