مقدمتان :
1ـ الدين ـ أي دين ـ سلاح ذو حدين أو هو بلسم يحمل دسمه وسمه في رحمه معا. معنى ذلك هو أن المعول عليه في تحويل الدين إلى مصدر سعادة ـ والإنسان يبحث عن السعادة فطريا وليس بتكليف خارجي ـ أو إلى شقاوة هو الإنسان وليس الدين لأن الدين كائن جامد أو كتاب مسطور ولذلك أعلمنا سبحانه أن القرآن يكون شفاء لما في صدور المؤمنين ولكنه وهو القرآن نفسه لا يتغير منه شيء يكون خسارا لغيرهم. الإنسان بجهاز الإستقبال هو الذي يحدد كيفية إستقبال الدين ـ أو القرآن ـ ليكون له سعادة أو شقاء. لا ريب في أن قاتل الفاروق غيلة بإسم الدين ـ حتى لو كان محرفا ـ رجل كان الدين عليه شقاء وسما زعافا. ولا ريب في أن الشهيد ـ أحمد يسن مثلا ـ الذي عرض نفسه لإنتقام عدوه فقتل غيلة هو كذلك بدون سابق إنذار هو رجل كان الدين عليه سعادة. الدين من هذه الزاوية كالعلم في بعض التخصصات إذ أخفقت بعض الدول العظمى في تحويل العلوم الذرية وغيرها مما يثمر الأسلحة المحرمة دوليا إلى مصدر سعادة. العيب هو في المستخدم وليس عيب العلم. المغزى من ذلك هو أن المتدين يحمل نفسه مسؤولية فلا يغترن بتدينه ولا يزهين أن غيره على غير دين بل عليه أن يظل محترزا أن يكون تدينه عليه شقاء وعلى من حوله بالضرورة. وبذا يكون القرآن كما جاء في الحديث عليه حجة وليس له. ( .. والقرآن حجة لك أو عليك).
2 ـ الدين هو أكبر مكون من مكونات الهوية ـ أي هوية وأي دين ـ مما يصنع الحياة والإنسان ويوجه السلوك. أكثر الناس من المسلمين ومن غيرهم لا يدركون هذا لأن ذلك التأثير لا يشعر به المرء من يوم لآخر ولكن يرصده المحلل ويعرفه اللبيب. يظن بعض المسلمين خطأ أن غيرهم لا يتأثر بالدين وهذا خطأ منهجي فكري شنيع. لا يعفى من التأثير الديني إمرئ حتى لو إدعى الإلحاد لأن الدين ليس إختيارا بشريا في الأصل بل هو نفخ إلهي حقن به الإنسان قبل خلقه أي في عالم الذر كما يقولون نسبة إلى آية الأعراف. معنى ذلك هو أن الإهتمام بالدين تدينا من لدن الإنسان مطلوب لأن سلوكه من حيث شعر أو لم يشعر سيكون متلونا بلون الدين الذي يحمله حتى لو برز ذلك من لاوعيه في ساعة غفلة منه.
الفصل الأول : التعليل يحتمل التبديل.
معنى ذلك هو أن الحكم الشرعي العملي المعلل هو حكم يقبل التبديل والتغيير لأن القائد في الحكم هنا هي العلة وليس الحكم. العلة هي التي تقود الحكم حيث شاءت وليس الحكم هو الذي يقود علته. مركب الحكم المعلل هو مركب جسم حي. في الجسم الحي تقود الروح الجسم ويكون الجسم مقودا. العلة هي الروح والحكم هو الجسم. غني عن القول أن العلة هي الشيء ( أو الأمر أو السبب أو غير ذلك من أسماء أخرى ) الذي لأجله كان الحكم في أي إتجاه من إتجاهاته إباحة أو منعا أو إيجابا. علة الخمر مثلا الإسكار ولذلك عند تخلله يحل لأن علة الإسكار ذهبت. وغني عن القول كذلك أن أحكام الشريعة ـ أو الفقه تفصيلا ـ إما أن تكون تعبدية غير معقولة المعنى بالتعبير القديم أو معللة مقصدة. المساحة العقدية والتعبدية عادة ما تضم النوع الأول أي الأحكام التعبدية غير معقولة المعنى والعلة هنا هي إختبار الله لنا هل نطيعه بالغيب أم لا ولكنها ليست علة معتبرة لأنها تخرج عن دائرة الحكم العملي. عدد الركعات مثلا أو طريقة الطواف وغير ذلك. مساحة المعاملات هي عادة مساحة معللة مقصدة لأنها مفهومة معقولة يهتدي إليها حتى غير المسلمين من مثل الزواج المثلي أو لزوم الوحدة وضمان التنوع ورسم العدل وإعداد القوة وطلب العلم.
أمثلة حية :
خشية الإطالة والإسهاب أقصر الحديث على مثال واحد علمته اليوم من صفحات التواصل الإجتماعي إذ أفاد أحد الأصدقاء من تونس أن قاضيا قضى بالأمس في خلاف عائلي بالحضانة للأب بدلا عن الأم وبالنفقة عليها وليس عليه. لم أطلع على حيثيات الحكم وأفاد صديق آخر وهو مختص في القانون أن التعليل من القاضي كان جميلا وماتعا. ولكن الذي يهمني هنا هو أن هذا الحكم في ظاهره مخالف للشريعة التي قضت بالحضانة للأنثى بدءا من الأم فالخالة إلى آخره ولا تصير إلى الذكر إلا في حالات إستثنائية جدا وهو مخالف لها كذلك بسبب فرض النفقة على الأم وليس على الأب. كيف يكون هذا الحكم ظاهره مخالفا للشريعة وفي حقيقته موافقا لها؟ لأن المحكوم فيه هنا ينتمي إلى المعاملات وليس إلى العبادات أي إلى مساحة معقولة مفهومة. علة صيرورة الحضانة إلى الأم والخالة وغيرهما هي توفير محضن روحي دافئ للولد حتى يأخذ حظه من الحنان العاطفي وغير ذلك من القيم والمعاني التي تتوفر عند المرأة بأزيد من الرجل بمسافات كثيرة لا تقطع. فإذا إنتهى إجتهاد القاضي إلى أن هذه المرأة لعاهة بدنية أو روحية فيها لا يمكن لها أن تغدق على هذا الولد حاجته من الحنان العاطفي الذي يعده ليكون مثل ذلك في المجتمع فإنه يعدل عنها إلى أبيه سيما إذا كان الوضع هنا إستثنائيا كثيرا فلا خالة له أو غير ذلك من الحالات التي تطرأ على الناس. المعول عليه هنا في الحكم إذن هو صناعة الحنان العاطفي والعناية المادية وغير ذلك ولذلك أسندها الشارع إلى المرأة فطرة وجبلة ولكن في الحالات الخاصة لا يقيد القاضي بأصل لا محل له أي تخلف محله بتعبير الشيخ المدني كما فعل الفاروق عندما تخلفت محال كثيرة في حد السرقة والمؤلفة قلوبهم وغير ذلك.
والأمر نفسه بالنسبة إلى فرض النفقة على المرأة أي الزوجة وليس الزوج وهو مخالف ظاهرا للقرآن والسنة ولكنه حكم شرعي عملي معلل بقوله : بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم “. فإذا عرضت على القاضي حالة تكون فيها المرأة هي القوامة على الأسرة ـ وهذا جائز وجائز تثبيته في عقد النكاح أصلا في الحالات التي تحتمل ذلك دون تحكم ولا تعسف بل رعاية لمصلحة الأسرة والبنين ـ بما فضلها سبحانه على زوجها من قوة بدنية أو غير ذلك وبما أنفقت من مالها العائد إليها بسبب تلك القوة المادية أو المعرفية .. ففي هذه الحالة فإن القاضي ما عليه إلا أن يدور مع العلة وهي مواصلة الإنفاق من الذي كان ينفق قبل ذلك على العائلة بغض النظر عمن هو لأن المقصد هو عدم تعريض العائلة للضياع والجوع وسفلية اليد.
يخشى الناس ـ سيما حديثو التدين منهم ـ أن مثل هذا يجر إلى هدم الدين والعبث بمحكماته وهذا شعور جميل طيب يعكس حياة قلب ولكن عليهم أن يعلموا أن الشريعة قصر فخم مشيد عظيم فيها مئات الغرف والمرافق ولعظمتها وحتى تقوم بإسعاد أهلها لا بد لمهندسها أن يجهزها بمخارج طوارئ تضمن السلامة عند نشبان الحرائق. هذه الحالة العائلية آنفة الذكر هي حريق بالمعنى المجازي والأولى الذي نهجه القاضي هو تأمين أفراد العائلة لأن الإنسان غاية الشريعة بضرورياتها وكلياتها العظمى أما لزوم الباب العادي الطبيعي الرئيس في حالة الحريق فهو يقود إلى كارثة.
خلاصة :
ذلك هو معنى أن أي حكم شرعي عملي ـ لا عقدي ولا تعبدي ـ جاء معللا مقصدا مفهوم المعنى وعادة ما تكون مساحته المعاملات .. يكون أسير علته فهي الربان وهو التابع. عملا بأشهر قاعدة أصولية عظمى : الحكم يدور مع علته وجودا وعدما. لأن العلة هي المناط الذي يحقق للحكم أثره. هي روحه التي تهبه الحياة. أغلى نصيحة لكل طالب علم يجمع بين الحرص والتواضع للعلم وليس للعلماء هي النظر في كل حكم شرعي في مدى خضوعه للعلة والمصلحة بتعبير الشاطبي أم هو متعبد به. ذلك هو المفتاح الأول فإن دخل المرء الباب الرئيس الأول مغمض العينين لا يسأل عن طبيعة هذا الحكم هل هو معلل أو تعبدي فهو كمن عصبت عيناه ليفعل به المجرمون ما شاؤوا. ومن أبى ذلك كبرا ـ وليس سوى الكبر يصرف المرء عن العلم والفقه والحكمة قولا عدلا ـ فالله أسأل له الهداية.
والله أعلم .