تلخيص للحلقة الثانية :
لا بد من معرفة مقام التشريع أو المشرع لحسن فقه الأمر أو النهي الوارد إذ أن للتشريع مقامات منها للإيجاب تختلف عن مقامات ادنى أي مقامات الترغيب أو الترهيب وللشارع مثله مقامات منها مقام التبليغ وهو المقام الأول له عليه الصلاة والسلام ومقاماته الأخرى التي فصل فيها إبن عاشور ومازالت تحتاج إلى عمل كبير هي مقامات لا تشريعية ولذلك سميت السنة تشريعية وغير تشريعية ويكون الخلط بين المقامات مدعاة إلى تنزيل سيء يحرم الناس من تفيئ ظلال مقاصدها ومكارمها ومحاسنها ومحامدها.
كلمة قصيرة مركزة عن فعل التفكير :
ربما كان مكان هذه الكلمة في الحلقة الأولى ولكن تداركا أقول أن التفكير صناعة حيوانية حياة نفسية أو روحية أي أن التفكير يشترك فيه العجماوات البكماوات وهي الكائنات الحية حياة نفسية لا روحية مع الإنسان وهو الكائن ـ إلى جانب الجن الذي هو أقل منه قدرا ـ الحي حياة روحية ونفسية معا. كلاهما يفكر تفكيرا غريزيا جبليا فطريا سوى أن الإنسان لأنه مكرم بالعقل يفكر تفكيرا غريزيا جبليا ثم تفكيرا عقليا لا ماديا أي أنه قادر بعقله ـ منحة ربه إليه ـ على التفكير المركب الذي يرتب المقدمات مع نتائجها سببا وسنة وهو ما سمي قديما بالتعبير الأجنبي : ميتافيزيك أي فوق قوانين الفيزياء أو فوق المادة. التفكير المقصود هنا هو الضرب الثاني أي التفكير المعنوي لا المادي بسبب أن الدين صناعة معنوية لا مادية وهو يخضع للتأويل العقلي لا الإلهامي ولا الحسي ولا التاريخي.
الفصل الثالث : فقه المآل ـ أو فقه المحل ـ أو فقه الواقع …
أسماء كثيرة غابرة وحاضرة والمسمى واحد ولا مشاحة في المصطلح كما قال المناطقة.
ما هو فقه المآل؟
فقه المآل ـ أو المحل أو الواقع ـ هو أن يتريث المرء عند تعرضه لأمر أو نهي من الشارع صحيحا صريحا إذ لا حديث عن الظنيات هنا ورودا أو دلالة لأجل إيقاع ذلك الأمر أو النهي بشرطين : أولهما مصاحبا لمقصده المراد منه لأن الأمور بمقاصدها وليس بمبانيها وثانيهما هو معرفة المحل الصحيح المناسب لذلك الأمر أو النهي. المحل هو الموضع أو الموقع الذي تطبق عليه الشريعة. هو فقه المآل لأنه يؤول ـ أي يرجع ويعود ويفيئ ـ إلى محله المناسب أي إلى الشخص ماديا أو إعتباريا. ذلك أن الفقه صناعة معنوية تتركب من خطوات ثلاث : خطوة التخريج أي معرفة الأمر أو النهي معرفة حقيقية فلا يكون موهوما ثم خطوة التشذيب أو التهذيب أي معرفة علته ومقصده وسببه وغير ذلك مما يخلصه من أشياء أخرى تشبهه أو تعمي عليه ثم خطوة أخيرة هي خطوة التنفيذ أو التطبيق أو التنزيل أي خطوة العمل والفعل وهي خطوة تعنى بمعرفة المحل أو المآل أو الموضع أو الموقع الذي ينفذ عليه الأمر أو النهي. فإذا تمت هذه العلميات الثلاث بصحة كان المرء مطيعا لربه على بصيرة وكان من الذين يتبعون المهاجرين والأنصار بإحسان وإن تسرع أو تعجل فلم يوف أي خطوة حقها فهو آثم قطعا حتى لو خلصت نيته خلوصا تاما. الأمر شبيه جدا بالقانون الوضعي فالقاضي هو المشذب المهذب وواضع القانون هو الشارع الآمر أو الناهي والشرطي أو السجان هو المحقق. الفقه صناعة بأتم معنى كلمة الصناعة وليس عبثا يلجه كل من هب ودب.
يستنكف بعضنا اليوم كثيرا عن تسمية هذه العملية فقه واقع ولا عبرة بالإسم إذا تواضعنا على المسمى إذ لا يحرص على الإسم إلا غبي أحمق. سوى أن الحديث إلى الناس بلسانهم أمر قرآني قح.
أمثلة على ضرورة العلم بفقه المآل أو المحل أو الواقع :
1 ـ لما قال سبحانه : ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم. فإنه يقصد أن المشكلة ليست في سبهم ـ السب لغة ليس هو ما نفهمه اليوم أو نصنعه مثله مثل الكذب لأن السب هو التعيير بلساننا المعاصر ودليل ذلك أنه كان يسب آلهة المشركين ويعيبها وسبه إياها قوله أنها لا تنفع ولا تضر ـ وإنما المشكلة هي أن المسبوب قد تأخذه الحمية ـ في الغالب والعبرة بالغالب شرعا ـ ليسب إله الساب وهو الله سبحانه. نهانا عن السب إذن لأن مآله ـ أي محله وواقعه ونتيجته ـ سيء. راعى في هذا النهي المآل والواقع.
2 ـ لما أخبرنا سبحانه في سورة الكهف عن قصة السفينة التي خرقها العبد الصالح فثار موسى عليه السلام أعلمنا أن نهي موسى عن خرق السفينة وهو عمل سيء دون ريب جاء لعدم علمه بالنتيجة وهي تأمينها من غصب الملك ولو علم موسى ذلك مسبقا لما نهى صاحبه ولما أوضح له صاحبه الأمر حصل له ما خرج لأجله وهو طلب العلم. ومثله ما وقع في السورة نفسها ومن الرجل نفسه أي إقام الجدار رغم أن أهله لم يقوموا بواجب الضيافة لهما وهما جائعين. لو أطاع موسى في عدم إقامه لذهب مال الغلامين. ما قص الله علينا هذا وغيره كثير في القرآن سوى ليعلمنا دينا قوامه رعاية المآل والمحل والواقع والنتيجة من كل عمل يعمله الإنسان. فلو أخلد إلى نيته الصالحة فحسب ولم يحكم عقله في المآلات والنتائج حتى لو كانت الأعمال سيئة كحالة خرق السفينة مثلا لما حصل مراد الشارع وهو رعاية حقوق المستضعفين حتى لو أدى ذلك إلى هضم بعض حقوقهم لبعض الوقت. الدنيا موازانات ومقاربات وتوافقات وأفضليات وأرجحيات ولا تستقيم لأحد ولو لنبي على نمط واحد.
3 ـ لما أخبر عليه الصلاة والسلام عائشة أنه يريد أعادة بناء الكعبة ليضم إليها ما جرفته السيول قبل بعثته بل قبل ميلاده حجر إسماعيل علل عدم إقدامه على ذلك بأن قومها أي قريشا حديثو عهد بجاهلية. هل يقول عاقل أن هذا الحديث أمنية منه أو رأيا وليس هو حديث موحى إليه؟ إنما أمره ربه سبحانه بإعادة بناء الكعبة على أصلها الأول ولكنه أحجم عن ذلك لأنه راعى الشاهد الدولي أو المحلي أو الخارجي بتعبيرنا المعاصر أي رد فعل محتمل من قريش القبيلة القوية العظمى التي هو معها في خصومة عقدية حادة جدا فلا يزيد عليها وعلى العرب كلها التي تؤم البيت مرة كل سنة في مهرجان حج معظم بأن يشتبك معهم في معركة جانبية حول توسيع بيت أو تشييده. أجل. أمره ربه بذلك ولكن الواقع لا يلبي ذلك ولا يعني ذلك أن الله سبحانه لا يعلم ذلك ولكن يعني أن يعلمنا نحن قبله هو ـ لأنه هو معلم منه مباشرة سبحانه ـ أن رعاية الواقع ومآل الفعل وعاقبة العمل ونتيجة الصناعة وثمرة الإمتثال أو الإنتهاء دين مدين لا ينفك عن الأمر نفسه ولا عن النهي نفسه.
4 ـ لما طلب منه بعضم قتل المنافقين وخاصة أميرهم إبن أبي سلول وسيما بعد إثارة الإفك ضده هو مباشرة ليخر سقف دينه عليه وعلى رؤوس الناس أجمعين .. أبى وقال : أخشى أن يقول الناس : محمد يقتل أصحابه. هل هو صاحبه؟ هو صاحبه مدنية وليس دينا أي سياسة وإدارة لأنه مواطن بالمدينة تام الحقوق والواجبات وليس دينا وعقيدة. ولكن الناس خارج المدينة في الفرس والروم لا يعرفون هذا. حتى من يعرف منهم هذا سيقول في حملة إعلامية ضارية : محمد يقتل أصحابه ولهذا أثر كبير سيء على من تحدثه نفسه بدراسة الإسلام. الثمرة المرجوة من قتل المنافق إذن هي تراجع الناس بسبب حملات إعلامية ظالمة عن مجرد دراسة الدين أو التفكير فيه. هذه ثمرة سيئة لا يريدها نبي يبحث لدينه عن الإنتشار وليس عن الإنحسار. لذلك علمنا أن ما كان واجبا ـ وهل أوجب من قتل رجل حاول مرارا وتكرارا هدم الإسلام وكان آخر شيء قام به هو محاولة هدم البيت النبوي هدما معنويا ـ يمكن ـ بل يجب ـ تأخيره أو تأجيله لأن البيئة الراهنة لا تقبله. أجل. قبول الناس لك مطلوب ومهم لأنك تتحرك مع الناس وبهم وهم وسيلتك وهم غايتك. علمنا رعاية المآل والمحل والواقع.
5 ـ لما إشتكى إليه بعض أصحابه أنهم يلاقون الأذى فأضطروا إلى قول كلمة الكفر قال لهم : إن عادوا فعودوا . أي إن عادوا إلى تعذيبكم فعودوا إلى قول كلمة الكفر وصدق القرآن الكريم ذلك بشرط إطمئنان القلب بالإيمان. أي علمنا أنه إذا كان مآل الصبر والتدين هو القتل ـ إلا في حالة الجهاد وخاصة دفعا ـ فإنه يباح الترخص حتى بقول كلمة الكفر لأن الماآل هنا مخيف وهو قتل إنسان وهنا ـ هنا ـ تقدم النفس ويؤخر الدين. علمنا أن رعاية حالة الناس وصبرهم وواقعهم دين مدين وشرط مشروط فلا يضحى بالإنسان ـ هنا وليس في الجهاد طلبا ـ لأجل الدين. مآل التعذيب محتمل أما مآل القتل ـ هنا ـ فلا.
6 ـ لن أعقد هنا كلاما ثمينا جدا لفهم الصحابة لهذه القاعدة أي رعاية المآل ـ المحل او الواقع ـ وخاصة عمر وعثمان وعلي حيث ضربوا أمثلة رائعة جدا في تأخير الأمر والنهي الصحيحين الصريحين بسبب تخلف المآل كما قال الشيخ المدني عليه الرحمة. أي بسبب تخلف الحلقة الثالثة من الصناعة الفقهية بعد حلقتي : التخريج والتشذيب. أحصيت بنفسي أزيد من خمسة عشر مثالا علق فيها الفاروق الأمر أو النهي بسبب تخلف المحل أي بسبب مآل لا يتحقق منه المقصد منها على سبيل الذكر لا الحصر : المؤلفة قلوبهم وحد السرقة وأرض السواد وإسم الجزية وصلاة التراويح وضوال الإبل في عهد عثمان وتضمين الصناع في عهد علي وأمثلة أخرى تربو عن الثلاثين. كما لن أتحدث عن إجتهادات أخرى تراعي المآل قام عليها إبن تيمية مثلا في القصة المعروفة بعدم نهيه الناس عن شرب الخمر لأنهم لو أفاقوا لأعملوا سيوفهم في دماء الناس فيكون إذن شرب الخمر أدنى ضرا ويكون مآل نهيه إياهم قتلا للناس الأبرياء.
أختم بثلاثة أمثلة معاصرة :
1 ـ إستقلال بعض القوميات أو ما في حكمها اليوم عن الدولة المركزية كما هو حال محاولة الأكراد هذه الأيام وما جرى قبل سنوات في جنوب السودان وغير ذلك. الذين ينظرون إلى مسألة الإستقلال من زاوية الحرية فحسب قوم عمش. لم؟ لأن النظر بعين واحدة لا يكفي. صحيح هي حرية ولكن من جانبه الآخر هي تقسيم للمقسم بالتعبير الإعلامي المعاصر أي مواصلة إجهاز على ما بقي موحدا من أقطار متداعية. هل ينكر عاقل أن الخصم العدو المتربص هو من يرتب أسباب الإستقلال لتكون تلك المستقلات مرتعا خصبا له يقايض إستقلال سيادتها بالمال؟ مآل الإستقلال اليوم إذن هو مآل سيء حتى لو تسربل بالحرية بل حتى لو تعرضت تلك الأقليات القومية ـ الأكراد مثلا ـ لضرب من ضروب القهر لأن القهر القادم أشق عليها. ليس هناك من عمل إسلامي اليوم أفرح عند الله وأذخر وأعظم في تصوري من العمل على إعادة توحيد عرى هذه الأمة بكل الوسائل الممكنة لأنه تبين لنا أن العدو لا يتسلل بيسر وسهولة عدا من ثغرة تفرقنا.
2 ـ تطبيق الشريعة اليوم بمثل ما ينادي به الشباب. هل عندنا جهاز تنفيذي قوي يطبق الشريعة؟ ما هي الشريعة التي ستطبق لو لبت الدولة العربية اليوم هذا المطلب؟ أليست هي الحدود فحسب؟ أليست تطبق الحدود على الفقراء دون الأغنياء والضعفاء دون الأقوياء والمحكومين دون الحاكمين؟ مآل هذه الدعوة إذن لا تفهم بنية أصحابها الطيبين بل بما قد يوظفها أعداؤها أنفسهم. مآل هذه الدعوة إذن لن تفضي إلى مراد الله أي مزيدا من العدل والرحمة والحرية والكرامة والوحدة وحق التنوع والعلم والمعرفة والقوة والمساواة. هي ستفضي إلى ضدها. مآل هذه الدعوة إذن اليوم في هذه المناخات السائدة هي مآلات سيئة يربو بنفسه عنها العاقل حتى لو كان صاحب أطيب طوية.
3 ـ الجهاد الذي تتوق إليه اليوم أفئدة الشباب. هل عندنا جهاز حكومي قوي نجاهد معه أو من خلفه؟ جهاد من؟ جهاد الصهاينة أو الصليبين أو المحتلين أوجهاد الحكام الباطشين أو الشيوعيين ؟ جهاد من؟ الجهاد يعني إعداد القوة والقيادة والمال وبعد ذلك كله تقدير سياسي صحيح مآله أن النجاح سيكون حليفنا فإذا لم يتحقق ذلك فمعناه بطلان الجهاد لأن تغيير المنكر إذا أفضى إلى منكر مثله أو أكثر منه فهو عبث معبوث. عندما قال الأولون أنه لاجهاد إلا من خلف أمير كنا ونحن صغار ـ مثل هؤلاء الصغار اليوم ـ نسخر منهم ولما كبرنا علمنا بالتجربة أن كلامهم نابع عن تجربة وعلم وليس محل سخرية. الجهاد لا بد له من دولة قوية واحدة متماسكة ذات أسلحة وجيوش ومعارف وعلوم وذات تفكير سياسي يخبرها بقوتها وقوة أعدائها فإذا تخلف أي شرط من ذلك آل مآل الجهاد منا سواء دولا أو مجموعات إلى عبث بل إلى أيلولة عنوانها : الأختراق الأمني أو القتل الجماعي.
خلاصة هذا الفصل :
كلما تعرضت لأمر أو نهي صحيح صريح من الشرع لا تتعجل لأنفاذه على نفسك أو على غيرك إلا بعد أن تطرح على نفسك هذا السؤال : أين محل هذا الأمر أو النهي؟ من هو صاحبه المناسب الذي أوقعه عليه؟ هل هذه هي أيلولته الصحيحة؟ هل أنا في المكان الصحيح والزمان الصحيح والشخص الصحيح والواقعة الصحيحة؟ لا تظن أن إيقاع الشريعة بجهل لمحالها أو لمآلاتها ونتائجها وثمراتها طاعة بل هي معصية فكرية والمعصية الفكرية أشد وزرا قطعا قاطعا من المعصية الغريزية. تعليق الحكم الصحيح الصريح عند تخلف مآله أو محله أو واقعه عبادة. وإيقاعة في غير محله معصية عقلية آثمة.
والله أعلم .