حوصلة عامة لما تقدم :
ــ فقه التعليل أو الإستصلاح أو التقصيد …
ــ فقه مقامات المشرع والتشريع …
ــ فقه المآل أو المحل أو الصيرورة أو الواقع ..
أنظار لا مناص منها معالجة لأي أمر أو نهي أو غير ذلك مما يرد في الوحي لأن ذلك طاعة لقوله سبحانه : وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط. أي أن هذه الأنظار وغيرها مما سيعالج في هذه الحلقات إن شاء الله هي من الميزان الذي أنزل مع الكتاب نفسه من الله سبحانه ولا قيام لقسط مع النفس ومع الناس سوى بإعتبار هذه الأنظار إذ القرآن وحده لا يكفي وإلا لما كان الميزان منزلا والميزان وحده لا يكفي وإلا لما أنزل القرآن.
الفصل الرابع : السنة بين الإستقلال التشريعي والبيان التشريعي.
تحرير المشكلة.
السنة ـ وتسمى الحديث كذلك لغلبة الحديث عليها تدوينا لا حقيقة مقارنة بالفعل والإقرار ـ تتركب من القول والعمل والإقرار. أما الصفة فهي لا تعد سنة حتى لو حاول بعضهم دسها هنا. السنة هي المصدر الثاني للتشريع في الإسلام بلا ريب. وظيفتها حددها القرآن نفسه في أكثر من موضع إذ قال : لتبين للناس ما نزل إليهم. أي أن وظيفة النبي عليه الصلاة والسلام هي التبيين ـ وليس البيان لسانا بل التبيين من فعل بين يبين تبيينا وليس أبان يبين بيانا ذلك أن البيان منسوب إليه سبحانه في سورة القيامة إذ في التبيين تفعيل أي زيادة على البيان وهذه الزيادة هي محل التحرير هنا ـ تلك هي وظيفة السنة تحديدا أما بصفة عامة أو كيف تزاول فقد بينها كذلك الوحي نفسه ـ أي القرآن نفسه ـ في مواضع أخرى قال فيها : يتلو عليهم الكتاب ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة ـ فهي إذن : تلاوة الكتاب ليستمع إليه العرب فيعقلونه دون حاجة إلى تفسير + التزكية + تعليمهم الكتاب أي القرآن وهذه هي وظيفة السنة المذكورة آنفا + تعليمهم الحكمة وهي إما السنة وخاصة السيرة التي تشتبك مع الواقع ويفيد منها المصلحون الذين يعالجون الواقع كثيرا أو الميزان المشار إليه آنفا أي إعمال أنظار لا مناص منها ودل عليها الكتاب نفسه لإحكام الفهم وإحكام التنزيل وفي كل الأحوال فإن الحكمة شيء يعضد الكتاب وإلا لما إحتاج إلى واو العطف والمغايرة هنا كما إحتاج إليها عند حديثه عن الكتاب والميزان في سورة الحديد آنفه الذكر.
من تبيين السنة للكتاب.
ــ تفصيل مجمل إذ يغلب على الكتاب الإجمال حفاظا على طبيعته الإطلاقية الشمولية الجماعية العامة ليكون صالحا لمعالجة كل زمان وكل مكان وكل عرف وكل حال. من ذلك أنه فصل في العقيدة بالإيمان بالقضاء والقدر خيره وشره وهو لم يذكر بالحرف في القرآن وأنه فصل في الصلاة والزكاة والحج وغيرها من العبادات المذكورة إجمالا في القرآن الكريم. وتلك هي طبيعة السنة التي تميل إلى التفصيل تبيينا لمجملات القرآن.
ــ تخصيص العام إذ يغلب على القرآن العموم ولو خصص لخص شبه الجزيرة العربية وظروفها البدوية. ويضيق المجال هنا عن ضرب الأمثلة سيما أن الموضوع من صميم علم أصول الفقه.
ــ تقييد المطلق إذ يغلب على القرآن الإطلاق للغرض نفسه ونعالج له بعض الأمثلة في القابل بحوله سبحانه.
ــ هناك مستوى آخر أدخل هنا ولا يعد تبيينا وهو تأكيد السنة للقرآن وهو كثير جدا من مثل تحريضه ترغيبا وترهيبا على الواجبات والفرائض أو المنهيات وخاصة الكبائر وليس هذا من باب التبيين إلا تعضيدا وتأكيدا إثراء وتخصيبا للمشروعية فحسب.
سؤال الفصل هو : هل تستقل السنة بالتشريع؟
هذا مبحث أصولي قديم إختلف فيه الناس سوى أن من يسبر غور هذا الإختلاف يجده كإختلافات أخرى كثيرة دائرا حول اللفظ وليس حول المعنى. موئل ذلك أصوليا هو هذا السؤال الكبير : هل أن ما إنفردت به السنة ـ حتى لو صح قطعا سندا كالمتفق عليه ـ من دون سابق تشريع في القرآن ولا إستلالا منه وإستئناسا في أي إتجاه كسد الذريعة أو فتحها أو غير ذلك .. هل أن ذلك يعد إستقلالا؟ هناك سؤال سابق هو : هل أن ذلك واقع أصلا؟
مقاربات في الجواب الصحيح.
ــ إذا كان الأمر متعلقا بالإعتقاد أو العبادة فلا ضير في ذلك إذ أن مهمة السنة التبيين وهي التي جاءت بعقيدة القضاء والقدر خيره وشره ولم يذكر هذا نصا في القرآن الكريم ولو مرة واحدة وكذا تفصيلات عقدية أخرى فرعية لا أصلية ركنية. كما أن ذلك عند وروده وهو كثير متعلقا بالعبادات فليس هو إستقلال بل تبيين من باب تفصيل المجمل وتلك هي مهمتها. هو إذن ليس واقعا أي لا وجود لتشريع ـ تشريع بمعنى التشريع أي يوجب الحق ويبطل الباطل ويفضي إلى الثواب أو إلى العقاب أو إلى الخير في الدنيا أو الشر وليس مجرد تحريض أو حث أو حض أو ترغيب أو ترهيب ـ يستقل عن القرآن. وما تراءى لبعضهم واقعا يمكن أن يكون إما مندرجا تحت التبيين بأي باب من أبوابه آنفة الذكر أو معالجة لدنيا وليس لدين ـ وكلاهما تحت مظلة الإسلام وسقف الإيمان ـ وهذا كثير جدا يدخل في باب مقامات المشرع أو التشريع كما يدخل تحت طائلة فقه السياسة الشرعية بالتعبير القديم.
أنواع الإستقلال.
الإستقلال من إستقل وهو فعل مزيد أصله المجرد قل وأقل أي حمل نفسه أو غيره. التركيب محدث وهو يعني إما إستقلالا كاملا أو وظيفيا خادما. الإستقلال الكامل للسنة عن القرآن الكريم لا أظن أن عاقلا يقول به لأنه يوحي بإزدواجية التشريع ومن طبيعة التشريع ـ ولنا في الوضعي منه تشبيه جميل إذ أن الدستور في أي دولة لا يكون نافذا حتى تعضده مذكرات دستورية أو قوانين ومناشير وإجراءات وغير ذلك تفسره وتفعل به ما فعلت السنة بالقرآن أي تخصيصا وتقييدا وتفصيلا أو تأكيدا ـ أن يكون أحادي الرأس لأنه قائد وإزدواجية القيادة في الكون متعذرة من البيت إلى الدولة. أما الإستقلال الوظيفي للسنة فهو كائن بالضرورة لأنه يلبي وظيفة التبيين. هو إستقلال نسبي وظيفي خدمي. هذا كلام صحيح لا غبار عليه.
كلمة في المنهاج الأصولي تساهم في حسم المسألة.
سار الصحابة ومن بعدهم حتى عقود قريبة على منهاج أصولي قوامه أن رأس التشريع الملزم هو القرآن الكريم وحده وأن السنة مبينة لمبين وسلطان المبين على المبين ـ الأول إسم مفعول والثاني إسم فاعل ـ جلية كسلطان الرئيس على المتحدث بإسمه. ولذلك علقوا أشياء كثيرة تعرضنا لبعضها إجمالا أو تفصيلا في حلقة سابقة مما فعله هو نفسه عليه الصلاة والسلام بسبب إختلاف الزمان والمكان وليس بسبب إختلاف رأسية التشريع أو تراتبيته. عنوان هذا المنهاج الأصولي الإسلامي الأرشد هو أن ما ورد في السنة مهما بغلت صحته السندية ـ ولا حديث هنا عن التأكيد طبعا ـ لا يعدو أن يكون من وظيفتها التبيينية أي تقييدا أو تخصيصا أو تفصيلا وما زاد عن ذلك فلا يعدو أن يكون ترغيبا أو ترهيبا وبذلك سميت السنة عندهم سنة تشريعية وسنة لا تشريعية وهي الأكثر كمية. ومع سيادة الإنحطاط وهيمنة التقليد وشغب الإجترار تسلل إلينا ما يشغب على هذا المنهاج الإصولي الأرشد إذ قال بعضهم بوجوب ما ورد في السنة أو حرميتها عدا التأكيد طبعا ومستويات التبيين الثلاثة الأخرى أي التقييد والتخصيص والتفصيل. وظهرت قالة إستقلال السنة بالتشريع ظهورا مشوها جعلها رأسا ثانيا أو آخر لأحادية التشريع وهنا كانت المشكلة ومع إنصراف الناس لسبب أو آخر عن معالجة القضايا الأصولية إتخذ هذا المنهاج الأصولي الجديد المنحرف له فينا مكانا معتبرا مما دفع بعضهم إلى التحريف ودفع بعضهم الآخر إلى رد بعض السنة أما البقية فقد آلت إلى الإستقالة والسلبية كالعادة.
أمثلة.
1 ـ ثبت نهيه عن لحوم الحمر الأهلية في خيبر وعن ذوات المخالب من الطير والأنياب من السباع وعن الحرير للرجال وعن المياثر والقسية وأواني الذهب والفضة وعن الصلاة بعد العصر وأشياء أخرى كثيرة تصل إلى العشرات منها على سبيل المثال نهيه عن الجمع بين المرأة وعمتها وخالتها وعن تخصيص أنواع خاصة مما سماه المالكية المدخر المقتات أو من الحاجات الأساسية كالذهب والفضة وبعض أنواع الأكل أن يباع بعضها ببعض ومن هذه أحاديث كثيرة صحيحة مقاومة لربا الفضل … وإحصاء المنهيات هنا غير ممكن حقا. وليس غرضي الإحصاء ولكن التمثيل بغرض النفاذ إلى تحصيل الدرس.
2 ـ من الفقهاء من أول ذلك بالحاجة إليه من مثل الخيول التي أباحها المالكية ومنهم من علل ذلك بالجلالة وهي أكل القاذورات لأن الإنسان نفسيا ـ وليس بدنيا فحسب ـ صنيعة أكله وشربه وملبسه ومسكنه وبيئته وأهله وغير ذلك وبالشيء نفسه علل بعضهم السباع والطيور ومنهم من حمل الملابس ـ الحرير الصافي مثلا سيما من بعد إباحته لحكة لخاله سعد ـ على تجنب ما يدعو إلى القعود والدعة أن ينطلق المرء في مناكب الأرض معمرا أو مجاهدا. كما علل بعضهم الصلاة من بعد العصر سدا لذريعة الصلاة أوان غروبها لصحة ورود النهي فيه مثل شروقها. بل إن بعضهم ـ في مشهد عقلي يفرض عليك إحترامه ـ علل عدم الجمع على المرأة بخالتها وعمتها مواصلة لعلة عدم الجمع بين الأختين الوارد في القرآن صحيحا صريحا. ومثله ما ورد كثيرا وصحيحا في الآن نفسه في الوقاية وإجتناب أسباب ربا الفضل ـ وليس النسيئة لوضوح أمره ـ وقال بعضهم ناظما الممنوعات في خيط عقلي متماسك أنها تشترك فيما تشتد إليه الحاجة بل الضرورة في حفظ النفس وكليات الإنسان المذكورة في أعلى السلم الغزالي المعروفة ولكن هذه الحاجات متغيرة فالسيارة اليوم مثلا في بعض المجتمعات أشد من الحاجة إلى بعض المآكل الواردة في الحديث ومثلها بل ربما قبلها المسكن إلخ ..
الخلاصة.
1 ـ عند التحقيق لا تستقل السنة بالتشريع على معنى أن الإستقلال كامل نهائي كما تستقل دولة عن دولة أو إنسان عن إنسان بل هو لمن إراد إستخدام الإستقلال وظيفي خدمي نسبي فرعي بغرض خدمة وظيفة التبيين التي لا يمكن تجاوزها لأنها نص منصوص. وكذلك على معنى أن التشريع يعني أمرين لا ثالث لهما فقها : التشريع الملزم سواء إيجابا وحقه الثواب أو تحريما وحقه العقاب. مراعاة هذا المعنى في التشريع لا بد منه حتى لا يتحول الفصل إلى وعظ لأن المحل ليس محل وعظ ولا ترغيب بل محل تسطير وتأصيل.
2 ـ ما بدا لبعضهم ـ أو لبعضنا ـ إستقلالا يوحي بإزدواجية الرأسية أو القيادية التشريعية في الإسلام لا يعدو أن يكون مندرجا إما تحت مقام من المقامات ـ وخاصة مقام الإمامة السياسية أو الحربية بسبب أنه يقوم عليه الصلاة والسلام في تلك الأيام بالقيادة الدينية والزمانية كليهما بالكامل بالتعبير القديم وإما أنه مندرج تحت سلطان التعليل والتقصيد والإستصلاح وهو كذلك يمكن تقييده تحت مقام العلم والفقه من باب الإمامة السياسية التي تستقل بتقييد المباح كما هو معروف عند طلبة العلم وإما أنه مندرج تحت سلطان حسن التواصل مع التعليل القرآني ويظهر هذا خاصة في نهيه عن الجمع بين المرأة وعمتها لأن العلة التي لأجلها نهى عن الجمع بين الأختين هي نفسها أي حماية الدائرة الرحمية من أسباب الخصومة والضرار التي تهدم العائلة فينهدم المجتمع وتذهب ريح الأمة ومنها ما يندرج تحت سلطان الحماية البدنية والنفسية للناس وهو كذلك ضرب من ضروب التشريع الإمامي السياسي في دولة يكون رأسمالها الإنسان نفسا وعقلا ومنها ما يندرج تحت سلطان الإشارة إلى الفضل من الأمور حماية للنفس كذلك مرة أخرى أن تعافس سفساف الأمر ويتأكد هذا وغيره عندما نعلم أنه رخص في أحيان كثيرة لبعض أصحابه فيما سبق أن نهى عنه وهو دليل إستئناسي قوي على أن الأمر ليس تشريعا ولا إستقلالا بالتشريع.
3 ـ المقصود من هذا الفصل هو :
ــ التمييز بين السنة التشريعية الملزمة وعاقبتها الطاعة والثواب أو المعصية والعقوبة وبين السنة غير التشريعية وهي الأكثر كمية وهي ترغيب وترهيب.
ــ الإنتقال من القول بإستقلال السنة إستقلالا كاملا باتا إيحاء غير مقصود بإزدواجية الرأسية التشريعية إلى القول بالإستقلال الوظيفي خدمة لمقصد التبيين المنصوص عليها نصا لا إجتهادا. فلا يعلو سلطان المبين ـ بكسر الياء المضعفة ـ على سلطان المبين.
ــ يحتاج إلى هذا طلبة العلم سيما من الذين يتعرضون لإسئلة الناس إذ أن الحاجات التي جعلته يرخص في منهي عنه هي حاجات لا يخلو منها زمان ولا مكان فلا يرتبون على المقترف معصية وعقابا بسبب إمكانية إندراج ذلك تحت أي سلطان من السلطانات المذكورة آنفا وغيرها كثير مما يضيق عنه هذا المجال.
ــ توسيع دائرة الفقه بالتشريع ومصالحه ومنافعه ومقاصده ومستوياته وذلك يكون بالتمييز وليس كالتمييز بين المستويات مفتاحا يوسع دائرة الفقه وإلا إستحال المفتي والمسؤول أكمه لا يعرف الألوان أصلا أو أعمى لا يميز بينها فهذا لا يسأل عن الجمال والزينة.
ــ الوقوف في السنة قولا وفعلا وإقرارا عند وظيفة التبيين للقرآن المتكفل بالتشريع بمعناه الأصولي الفقهي المعروف وليس بالمعنى العرفي السائد لأن الخلط في المنهاج الأصولي الإسلامي الذي تواترت به الآيات والأحاديث والسيرة وصنائع الصحابة في الخلافة الراشدة هو خلط شنيع وفظيع ويوقع الناس في الحرج والعنت والمشقة وهي موضوعات نصا منصوصا ويوقع الذين يتعرضون إلى أسئلة الناس في القول على الله وعلى دينه بغير علم وكفى به إثما مبينا.
والله أعلم