الفصل الخامس : رأس العلم العلم بقانون الإختلاف.
القرآن الكريم هو مرجع التفكير الديني. هذه حقيقة لا يمارى فيها ولكن التجربة أعطت أن السلوك لا يجري دوما فينا بمقتضاها. هناك قضية مهمة حقا عنوانها : كيف تبنى الفكرة في الرأس لتصبح شيئا صنوا للصنم الذي يموت المرء لأجله؟ ليس هنا محل معالجتها ولكن سأتفرغ لها يوما بإذنه سبحانه. الفكرة هي التي تجعل الناس مختلفين إختلافا مدمرا لا إيجابيا. الفكرة ـ بغض النظر عن صوابيتها أو خطئها ـ هي الجرثومة الكامنة فينا فهي توجهنا اينما شاءت من بعد ما سمحنا لها بوعي أو بغفلة بأن تقطن سويداء الفؤاد منا. دعنا من هذا الآن.
ما هو دليلي على أن رأس العلم هو العلم بقانون الإختلاف؟
هو قوله سبحانه في سورة مكية ـ فاطر ـ : ” ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فأخرجنا به ثمرات مختلفا ألوانها ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود ومن الناس والدواب والأنعام مختلف ألوانه كذلك.إنما يخشى الله من عباده العلماء. إن الله عزيز غفور . آية 27 و28
تحليل السياق :
1 ـ الآية بسورتها مكية لأنها تقرر المبادئ العامة في فقه الحياة وما ينبغي له أن يتأخر إذ تكفل القرآن المكي على إمتداد عقد ونيف بنحت الهوية الإسلامية للناس.
2 ـ يأبى هذا السياق إلا أن يرسخ قيمة الإختلاف في مواقع ثلاثة لصيقة بعضها ببعض لعله يطرق بقوة ولطف في الآن نفسه على أذن السامع فيعلمه أن الإختلاف سنة إلهية وقانون رحماني وإرادة ربانية لا يسأل عنها صاحبها ولكن تستقرأ هذه القيمة في تضاريس الحياة إذ لا تستقيم الحياة بدونها.
3 ـ الماء النازل من السماء واحد طعما وريحا ولونا ولكنه يثمر المختلف طعما ولونا وريحا والأرض واحدة في تربتها ولكنها تثمر الجبال المختلفة علوا وعرضا و طولا وصلابة ومساهمة في إحداث التوازن البيئي. إختلاف حقيقي لا موهوم ذلك الذي يتردد بين السواد والبياض في الجبال. النطفة السائلة واحدة كريهة الريح لا ترى إلا بمجاهر حديثة عظمى ولكنها تثمر أناسا ودواب وأنعاما مختلفين لونا وعرقا ولسانا ودينا وعنصرا. الإختلاف يغشى الكون كله فلا يند عنه ما ينزل من السماء ولا ما ينبت من الأرض ولا ما يخرج من الأرحام.
4 ـ اللون هنا رمز للاختلاف والوحي مملوء رمزية. التيمم مثلا لا يزيل قذارة قطعا و لكنه يرمز إلى الطاعة بالغيب. إختلاف ألوان الناس والدواب والأنعام هو إختلاف الألسنة والدين والمذهب والمزاج والعنصر والأصل والقدر والمنفعة والعمل والكسب. بمثل ما يقرع الإختلاف سمعك ليأخذك بقوة إلى القيمة المرادة يقرع اللون سمعك كذلك إذ يصر الوحي على إختلاف اللون : لون الثمرات ولون الحبال ولون الناس والدواب والأنعام.
5 ـ ثم تختم قيمة الإختلاف بفاصلة الآية المزدوجة : فاصلة أولى تقرر حقيقة حصرية قصرية قوامها أن العلم مقصور على من يخشى الله. تركيب قصري حصري يملأ الفاصلة القرآنية. يريد أن يقول : لو حدثتم يوما أن للخشية مصدر آخر عدا العلم فلا تصدقوا. إنما يخشى الله من عباده العلماء فحسب.
6 ـ العلماء بماذا؟ هذا هو بيت الآية ولبها المحكم. من سأل هذا السؤال فقد فقه ومن تنكبه أو تجاهله أو أعرض عنه فلا حظ له من فقه أبدا. السؤال هو : العلماء بم؟ السياق يجيبك بأن مخ العلم الذي يرفع صاحبه إلى الخشية ـ خشية الله سبحانه ـ إنما هو العلم بقانون الإختلاف وسنة التعدد وناموس التنوع. هذا مفتاح من أكبر مفاتح القرآن الكريم. وفي مبسوط الأمل أن أكتب في مفاتح القرآن بحوله سبحانه.
7 ـ ثم تتلوها الفاصلة الأخرى بلا تردد : إن الله عزيز غفور لتقول لك أن الله سبحانه عزيز يشيد كونه وخلقه على قانون الإزدواج ـ أو الزوجية الذي هو أقوى قانون كوني خلقي عمراني طرا مطلقا وبلا أي خلاف ـ إذ لا يتوازن الكون ولا يعتدل حراكه إلا بذلك القانون. تلك عزته سبحانه وهو يهبها علما ـ لا خلقا ـ لمن آمن بعزته وأبصر هذا القانون المطرد الذي لا يتخلف. ومع عزته الموحية بالقوة تعتدل أسماؤه بالمغفرة هنا. لو كان عزيزا بهذا المشيد العظيم فحسب لأنسحق الإنسان وأسنت الحياة بل هو مع عزة وقوة وحول وطول غفور. يستقبل كونه وخلقه وعمرانه عزته ليستد توازنا بناموس التعدد بمثل ما يستقبل الإنسان ـ الذي يجري عليه القانون نفسه كما ورد في الآية نفسها ـ مغفرته. الجبال السود الغرابيب تتحمل عزته أما الإنسان فتليق به مغفرته.
خلاصات :
1 ـ لا تساس الحياة إلا بالعلم ورأس العلم العلم بقانون التعدد. تعلمنا ونحن أطفال يافعون أن رأس الحكمة مخافة الله وأن رأس العلم خشية الله. هذا صحيح . ولكن من أين تأتي الخشية والحكمة؟ الآية تخبرنا أن مصدر الخشية هو العلم بهذا الناموس الماضي المطرد أي التنوع في كل شيء والتعدد في كل شيء والإختلاف في كل شيء.
2 ـ يحدث إضطراب فكري هنا إذ تربى الناس على غير هذا. لا ننكر أننا تربينا ومازال الناس يتربون اليوم على غير هذا. تربينا على عقدة دينية فاسدة قوامها أن الله لنا وحدنا والقرآن لنا وحدنا والرسول لنا وحدنا والأرض لنا وحدنا والهداية لنا وحدنا. ليس هناك سوانا في هذا الكون. لم يسأل أحدنا لم يرزق الله قوما كفروا به؟ هل ننكر أن غياب وعينا بهذا القانون الذي يحيل على الحرية والكرامة والعدل هو المسؤول عن تخلفنا وإنحطاطنا؟ ألم ننحط متى غفلنا عن هذا الناموس الماضي؟
3 ـ دعني أخلص إلى أكبر ثمرتين من هذا القانون العظيم بل هو أعظم قانون إلهي :
ــ الثمرة الأولى هي أن كل شيء متعدد مختلف متنوع وبلا أي إستثناء ليظل الله وحده سبحانه مفارقا لذلك إذ ليس كمثله شيء فهو الواحد الأحد الذي لا يختلف ولا يتعدد ولا يتنوع. المغزى من ذلك هو أن قانون التنوع ـ أقوى قانون وأعظم ناموس ـ يخدم عقيدة الإسلام ودين التوحيد. الأمر طبيعي جدا إذ يحيلك إلى أن كل شيء مخلوق ـ وكل شيء مخلوق ـ يشترك مع غيره في المصدرية الواحدية أي الله سبحانه. ولو كان ذلك غير كذلك لسعى بعضهم إلى ذي العرش أو لإختصما من يقود سفينة الكون ومن يدبر أمرها.
ــ الثمرة الثانية هي أن كل شيء خلق متعددا مختلفا حتى الدين ـ أجل. حتى الدين ـ لخدمة غرض آخر قوامه أن الحياة هي ثمرة الحركة وأن الحركة هي ثمرة تدافع وأن التدافع لا يكون إلا من لدن مشتركين ومختلفين معا وبتعالجهما يكون التدافع فالحركة فالحياة فتحقق إرادته سبحانه. المغزى من ذلك هو أن يدفع الناس دفعا إلى إستثمار قانون التعدد لتوليد الحركة التي لا تولد إلا بالبحث والإجتهاد والعلوم والمعارف ولذلك كانت إكتشافات وإختراعات سبق أسلافنا إليها يوما إذ فقهوا المقصد الأسنى من قانون التعدد.
يخدم قانون الأختلاف إذن الدين والدنيا معا. يخدم الدين ليكون الله واحدا أحدا ليس كمثله شيء ويكون الإنسان بذا مستوي الحياة العقدية ويخدم الدنيا لتكون الحياة مخبر تجارب للناس العلماء يحركون المختلفات ليكون تدافع فتولد حركة وحياة.
أما آن لنا أن نصحح قيمة العلم وماهية العلماء؟
العلم بالجزئيات شأن الصغار والأطفال.
العلم بالكليات العظمى شأن الكبار أي شأن العلماء.
العلم بأعظم قانون كوني خلقي عمراني في الوجود والحياة هو العلم الذي يحتاجه الإنسان وبه يكون عالما بشهادة العليم الخبير سبحانه.
متى نعي هذا؟
بعدما يدمر بعضنا بعضا؟
إذا كتبنا على أنفسنا تجاهل القرآن الذي يهدينا فقه الحياة أفلا نتواضع للغربيين الذين فقهوا هذه السنة من دون وازع ديني بل ببحث عقلي فأسسوا حضارة هي التي تقصفنا بثمرات قانون التنوع؟
العجب العجاب هو أن نتجاهل لب العلم في كتابنا وفي الآن نفسه نتجاهل كبرا في الحالين منجزات الآخرين فلا نقيم بذا لا دينا قوامه العلمي الأعظم قانون التعدد ولا نقيم دنيا.
والله أعلم