الفصل السابع : العلم بالسنن أس العمران
أس المشكلة : غربتنا عن الكتاب حرفه قبل حده
ربما كان في خلد صاحب الكشاف والمتأثر به جدا صاحب التحرير والتنوير أن إخراج تفسير بلاغي بياني يساهم في إعادة ربط الناس بالكتاب حرفا أوّلا إذ الحرف هو أبو الكلمة وهذه تصنع جملتها والسياق. ومن هنا يتصحح الفهم بمرجعه الأوّل أي اللسان العربي. كانت فرائد لأصحابها إذ جمعت أوابد ندت ولما خلفت خلوف سمعت بأذني هاتين من يثلب في السفر العاشوري أنه متين لا يوغل. قلت له : أجل. إقترف إبن عاشور الجريمة العظمى في التفسير وكان عليه أن يخطه باللهجة المحلية التونسية أو بالصينية. خذ إليك كلمة سنة مثلا. وسل من يليك الآن : ما معنى السنة؟ ستجاب أنها الحديث. وماهي بذلك في السفر الذي عده أهله ـ حتى من الكافرين به ـ ديوان اللسان. هي هناك : القانون. لما ظفر بهذا نحرير مثل إبن خلدون أنجز فريدة الإسلام التي لم ينجزها غيره : علم الإجتماع السياسي. ولما نددنا عنها كدنا نصدق ـ بل صدقنا ـ رويبضة يدعي أن الخمر ليست حراما لأنها لم ترتبط بلحمة التحريم لبنة إنما بالإجتناب.
ما هي السنن :
هي القوانين المطردة الماضية التي أودعها سبحانه كونه وعمران خلقه. هي سنن مادية أورى منها إشارات علمية لأولي الألباب تكون لهم النطفة الحية الأولى التي منها يخلّقون العلوم والمعارف. وهي سنن معنوية إحتلت من سفر البشرية الأعظم ـ القرآن الكريم ـ نصيبا كبيرا. دعا المرحوم الشيخ الغزالي إلى مقاربة تفسير إجتماعي سنني سببي أن يرمى القرآن أنه كتاب حلال وحرام لا يفترق كثيرا عن الإنجيل والتوراة. دعوات الكبار لا يعقلها الصغار إذ دعا إبن عاشور نفسه إلى إجتراح أصول مقاصدية تعضد الأصول الفقهية ودعا آخر إلى تدوين فقهي جديد يصوغ الحكم في ثوبه المقاصدي القشيب بما هو أدعى للحوار والدعوة … نحن جيل الخيبة إبداعا فكريا وإجتهادا إنشائيا.
أمثلة من السنن التي ألح عليها القرآن الكريم :
1 ـ قانون التدرج سواء خلقا كونيا أو بعدا إجتماعيا أو شرطا تشريعيا. ما أخبرنا سبحانه عن مراحل خلق الكون وخلق الإنسان في بطن أمه وبعض مراحل التشريعات من مثل الخمر والربا وغيرهما كثير سوى ليحقننا بمصل التدرج في التدين والإلتزام والدعوة صبرا على أنفسنا وصبرا على الناس وصبرا على التوازنات حتى تنضج وترشد وتتهيأ للتعديل. أليس هذا قانون عمراني أهملناه اليوم وما وعيناه أصلا ومن ذا ظللنا نرفع عقائرنا بتطبيق الشريعة مثلا أو بإستعجال الثمرة السياسية أو قهرا نسلطه على الطفل ظنا سفيها منا أن القهر يصنع منه ملتزما.
2 ـ قانون الزوجية ومن مناسباته اللبنية والروحية معا أنه ذكر في القرآن زوجا كذلك أي مرتين ولا تعني الزوجية عددا بل تعني مفارقة للأحادية الألهية. هل سألنا لم خلق الله من كل شيء طرا مطلقا ودون أي إستثناء زوجين وليس أحدا أو واحدا؟ أي علاقة لهذا بقوانين الحركة والحياة والتدافع والإصطفاء؟ أي علاقة لهذا بالأحادية الإلهية؟ قانون الزوجية يريد أن يحقننا به بحقنة عمرانية عنوانها أن الحياة لا تولد إلا من رحم حركة وأن الحركة لا تولد إلا من رحم تدافع وأن التدافع لا يولد إلا من رحم إختلاف زوجي ولذلك كانت زوجية الأسرة. أليس هذا درسا بليغا أن قبول المثلية الجنسية يعني ـ بل لا يعني عداها شيئا ـ إعدام الإنسان إذ لا يولد إنسان من سحاق ولا من لواط. وأمثلة أخرى لا تحصى على ضرورة فقه الزوجية.
3 ـ قانون التقدير. هذا القانون مازال يتيما فقيرا بورا إذ لم يكتب فيه. هو قانون عام مطرد ماض في القرآن الكريم ومعناه أن كل شيء في الدنيا والحياة كونا وخلقا بقدر أي بجرعة تؤدي الغرض فلا تزيد ولا تنقص. أكثر الناس ـ بل كلهم ـ ذهبوا إلى الجانب الإعجازي في التقدير إذ هو من عند الله. هذا الجانب مهم عقديا ولكنه لا يكفي لأن قانون التقدير يحقننا ـ أو يجب أن نحقن بذلك لو وعينا ـ بقيم الضبط والعدل والحساب والدقة ويكون ذلك في كل ما يلينا من كلام وكتابة وتصرف ويشتد الأمر في المختبرات العلمية حيث يكون تنكب التقدير قاتلا. قانون التقدير ربما إلتزم به الأطباء والصيادلة وفرسان العلوم الكونية أكثر من غيرهم إذ أن أي قطرة زائدة أو ناقصة عن القدر المطلوب يخرج عن دائرة القسط والعدل فيكون ضارا قاتلا. أليس بقانون التقدير وطأ الإنسان القمر بقدميه وكان عند العرب تشبه بها المرأة الحسناء الجميلة؟
4 ـ قانون ظهور الدين وحفظ الذكر. هذا قانون يهم المسلمين فحسب وبخاصة الدعاة منهم إذ أنه يحقننا بحقنة عنوانها ألا خوف على الدين ـ الدين وليس الحياة ـ فهو محفوظ من صاحبه بل محكوم له بالظهور والغلبة. ألا ترى اليوم أن أكثر الدعاة يمتلأ خطابهم بالخوف على الدين وعلى القرآن الكريم نفسه أحيانا؟ أليسا حريا بالخطاب الديني أن يتوجه إلى التخويف من مكانة المرء في الدين وليس من مكانة الدين في الخلق؟ كلما أراد بعضهم تفزيعنا ـ كما يفزع قطيع بذئب ـ قال إن الجهة الفلانية أخرجت مصحفا جديدا فنقع في فخ التفزيع ونفزع وربما كنا قبل دقائق نقرأ وعده بحفظ ذكره في سورة الحجر. المشكلة التي علينا عبئها هي حفظ الإسلام وليس حفظ الدين أي حفظ الحياة مغذوة بالدين وموجهة به. لو حررت المسألة في كلمة واحدة قلت : الله تكفل بحفظ الدين وكفّلنا حفظ الإسلام أي صنع الحياة بتعليماته. حفظ لنا الجذر المغذي وأوكل إلينا حفظ الجذوع والأغصان والثمرات.
5 ـ قانون الفطرة البشرية. يسمى كذلك قانون الغريزة والجبلة والأصل والطبيعة. أليس قمينا بنا أن نجمع مواقع الإنسان في القرآن إستجماعا لأصول الإنسان فطرة أما أصوله مادة فقد تكفل بها الأطباء. نحتاج إلى تفسير الإنسان قبل تفسير القرآن. الإنسان مفسر في القرآن أي موصوف لنا وصفا تاما فطرة وغريزة وجبلة وطبيعة. الجهل بقانون الفطرة يجعلنا نصنع بأيدينا أصناما بشرية جديدة نعبدها. ألا ترى كم يقدس الناس الصالحون اليوم الصالحين. ألا ترى كم يرذل الإنسان الإنسان لصغيرة أو لمم؟ لن نصنع حياة ونحن نجهل الإنسان. نحتاج إلى كتاب جديد بعنوان : الإنسان ذلك المجهول لصاحبه الطبيب النمساوي إلكسيس كاريل ولكن نبحث جهلنا به معنويا وليس ماديا. مازال الإنسان مجهولا عندنا.
خلاصات :
ليس غرضي إحصاء السنن وقد جمعت من القرآن الكريم منها أربعين عسى أن يلم الله شعثها يوما في كراس. غرضي هو التنبيه إلى أن التدين بجهل السنن تدين مسدود المآل.
1 ـ ليس العلم بالسنن حكرا على المصلحين فحسب بل إن المسلم العادي يحتاج فقه سنة الإنسان مثلا فطرة وجبلة حتى يعرف كيف يتصرف مع نفسه في الإصابة وفي الخطإ ومع أهل بيته في النجاح وفي الإخفاق. أما المعالجون للشأن العام في كل حقوله فلا مناص لهم من فقه السنن العمرانية فقها صحيحا وإلا غدوا كساع إلى الهيجاء بدون سلاح.
2 ـ القرآن الكريم كتاب سنني سببي عمراني إجتماعي بإمتياز شديد وما عليك سوى أن تجرب الأمر بنفسك لتكون أوثق به. العلم بهذه السنن اليوم أوكد لأننا نسحق ونقهر ونظلم فمنا من يتعلق بالمؤامرة ومنا من يتعلق بالقضاء والقدر ومنا من يتعلق بالرؤى المنامية ومنا ومنا .. وعند البحث في سفر حياتك تجده يأخذ بيدك برفق ولطف ليقول لك أن التغيير من حال لحال ـ بغض النظر عن إختلاف إتجاهات الحال ـ لا يفعله الله إلا بعد أن تفعله أنت بنفسك. إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم. وكررها بالحرف مرتين.
3 ـ ظني كبير أن مما يعوق الناس عن الإسلام أنه لم ينته إليهم أن سفر الحياة فيه كتاب يعالج قضايا التطور والتقدم والنهضة والإصلاح والتخلف والتقهقر والإرتكاس. ظني أنهم يعتقدون أنه كتاب قانوني ككل كتاب أي يقصر إهتمامه على بيان الحلال والحرام شأنه شأن الإنجيل والتوراة. مثقفو الغرب وفلاسفته لا يقبلون على كتاب هذا شأنه سيما أن أتون المعركة الدينية عندهم مازال حاميا.
4 ـ ظني كبير أنه لو نجحنا في إخراج بيان سنني سبيي علمي عمراني إجتماعي للقرآن الكريم وترجم ذلك إلى لغاتهم ـ أما نحن .. فالصمت أولى ـ فإنهم لا يترددون في إعتناق دين هذا الكتاب إذ يدهشهم حقا كما أدهش المرحوم قارودي أكبر فيلسوف غربي معاصر وآني ماري شمل وسغريد هونكه ومراد هوفمان وهم في قمة الفلسفة الغربية.
نصيحتي إلى تلاء سفر الحياة أن يتوقفوا طويلا تلبثا ومكثا كلما مروا على آية سننية سببية عمرانية إذ هي علامة حمراء قانية تسطر قانونا إجتماعيا ما سلكه قوم إلا قاموا حتى لو كانوا في أحض الحضيض. نصيحتي لهم أن يعيدوا تكوين عقولهم على أن القرآن الكريم كتاب فيه ذكرهم الحضاري أي مكانتهم السياسية والمالية في الأرض.
والله أعلم