بنى حزب النهضة خياره التخصصي السياسي الأخير على مسلمتين ربما آن الأوان لإمتحانهما. المسلمة الأولى هي أن الحزب لم يعد يسعه التمدد الأفقي قاضما من كل حقل كفلا خاصة بصورة مباشرة إذ أن صورة الحزب الديمقراطي المعاصر لا تقوم على مثل هذا. مع تضمين هذا ما يتعرض له الحزب محليا وإقليميا ودوليا من إكراهات تقايضه على إعادة رسم تخومه في مقابل القبول به. المسلمة الثانية هي أن الثورة أتاحت للمجتمع فرصة سانحة لمعالجة هويته العربية الإسلامية بما يناسبها ويناسبه إذ أن الثورة حطمت السجن الكبير الذي شيده المخلوع بن علي حائلا دون التونسي ودون التعامل مع هويته بالصورة التي يريد. المسلمة الأولى مفهومة ومقبولة حتى دون إعتبار الإكراهات فما بالك وهي قائمة بكبر وبطش سيما من بعد النجاح في إجهاض الثورات العربية المجاورة. أما المسلمة الثانية فلا. إذ أن الرياح لم تجر كما هو مأمول بسبب دحر تلك الثورات و بسبب تقدم التوازنات المحلية في تونس ثقافيا وفي الساحات التابعة والمتاخمة للسوق الثقافي لصالح خصوم الهوية العربية والإسلامية وربما تتكفل السطور الآتية بتحليل ضاف
التاريخ يصنعه الأفراد
أحمل تحفظات على تركيز كثير منا على قضية المأسسة والعمل الجماعي والديمقراطية وما إلى هذه القيم دون الإهتمام الكافي بالتمييز بين الوسيلة وبين الغاية. ما ذكر ومثله كثير هي وسائل لا غاية منها سوى صناعة التوافق المطلوب بين الدولة وبين المجتمع بما يرص الصف الواحد ويفتح مساحات الفعل إنمائيا في كل الحقول في وجوه الناس. أعني من هذا أن المجتمع التونسي الذي لتوّه تخلص من سجن الكبت في أردإ صوره التاريخية لا يمكنه أن يقوم بمعالجة هويته المنكوبة على إمتداد نصف قرن وأزيد بدون أمرين لا بد منهما : أولهما فترة مرحلية تأهيلية يحتاجها كل مريض خرج لتوّه من العملية الجراحية أو سجين قضى في السجن الإنفرداي عقودا. وثاني الأمرين هو وجود الرواحل أو العدول بالتعبير النبوي العربي القح أي القيادات والزعامات بتعبيرنا المعاصر وليس المجتمع وهو كتلة فيها التجانس وفيها التضارب مؤهلا تأهيلا مباشرا وبدون قيادة إلى إستئناف حياته بعد شغب طويل ومضن خلف ضحايا وأشلاء منهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر. مركزية دور الفرد في صناعة التاريخ ليس مثار جدل في أصل الفكرة أما القيادة الجماعية فحسبها فشلا أنها تسير في الإتجاه المضاد لحركة التاريخ وعمران المجموعات من الأسرة إلى الدولة
ضحايا الحرب السلفية أكثر من ضحايا الحرب السياسية
مجتمعنا التونسي منكوب بأقدار معتبرة إذ لم يتعرض شعب عربي ولا مسلم مثله ـ عدا تركيا التي لعقت جراحها ـ لحرب شرسة طاحنة ضد هويته وعلى إمتداد نصف قرن وأزيد تارة بقلم المعلم ـ حاشا المعلم ـ في العهد البورقيبي وتارة بعصا البوليس ـ حاشا البوليس الصالح ـ في عهد المخلوع بن علي. ومما زاد النكبة نكبة أن ظهرت السلفية وخاصة منذ 2006 وما بعدها ولئن كانت رد فعل أعمى على تطرف عالماني شنيع يصفي ما عفا عنه بورقيبة من مقررات دراسية من أي لون من ألوان الولاء للعروبة والإسلام حتى إسم فلسطين فإن تلك السلفية بذراعيها المدخلي والجهادي خاصة ـ دون تهوين من الدور السلبي للسلفية العلمية وبقية أذرع السلفية ـ وجدت نفسها بالمحصلة ـ أو أوجدت دون وعي منها ـ خادمة للقيم التي تطعن في المجتمع التونسي وخاصة فيما يتعلق بتفريق الناس وفرض تدين هجين يوحي بالقسوة والعنف والإرهاب والإكراه والشدة والشكلانية وضمور العلم والمعرفة وتنجيس المرأة وتبخيس الحرية. وبذلك تحالفت بوعي أو بلا وعي مع الآلة الجهنمية للحرب المشنونة ضد الحريات بما فيها الدينية الخاصة في الملبس والمظهر. فكانت الضحايا بالآلاف والأشلاء بمثلها إذ تعرض التونسيون في سنوات الجمر الحامية إلى حربين تدكانهم : إستبداد بطعم عالماني متطرف جدا وتكفير سلفي بنكهة حنظلية مرة
الحصيلة : مجتمع حزبي سياسي وفراغ ثقافي
لك أن تقول أن الكلام سابق لأوانه وعمر الثورة بضع سنين وتخلص النهضة من حمولتها الثقافية بضعة عشر شهرا. ولكن لا خلاف عليه أن الحصيلة اليوم هي فراغ ثقافي في الحقل الديني يملأ بغلواء عالمانية متطرفة جدا يغذيه الإعلام الفضائي من جانب وتفوت فيه الدولة تفويتا كاملا لطاقم من الأئمة الموظفين لديها وعفوا من حمل الهم الإسلامي بمعناه الرسالي الجامع بين إعادة تثبيت الأصول وتطعيمها بالتجديدات والتطويرات أي سيادة التدين التقليدي الأدنى إلى الأسطورية والخرافية قضيته الأولى هي السحر والجن وفتنة المرأة ومدح محمد عليه الصلاة والسلام وإلى جانبه تدين سلفي مغشوش مزيف تديره أجندة معلومة ليكون حربا ضد ” الترويكا ” وسلما مع غيرها وتوسع لتدين لبرالي عالماني يبث الإستهلاك قيمة ضاربة في العائلة التونسية وتدين حكومي رسمي تصل رداءته إلى حد قوله وزيرة المرأة أن معالجة ” الهجرة إلى إيطاليا تكون بالموسيقي ورياضة اليوقا. لا جدال في دور الموسيقى و اليوقا ولكن أغذيتنا الروحية أولى بمعالجة اليأس بل هي ما جاءت سوى لمعالجة اليأس وتقحم الحياة. فراغ ثقافي خلفته ” النهضة ” ولو عزوا إلى دورها التاريخي بسبب إنقطاع دام عقدين كاملين. هل يملأه المجتمع في ظل تغول للمد العالماني المتطرف ونأي من الدولة عن إدارة التدافع بما يناسبه بل بإنحياز مشهود منها لعالمانية ربما ترقب حالة إلتحامها مجددا بالإستبداد لتكون الثورة في مهب رياح الماضي. هل إستعجلت ” النهضة ” تخصصها؟ هل أخطأت التقدير؟ مصير الثورات العربية وإدارة التوافق التونسي نفسه : أليس يحددان أهلية المجتمع للقيام بمسؤوليته حيال هويته؟ أسئلة أظن أنها جديرة بالمعالجة من أن ينتظر الغيورون على هوية البلاد ـ مسلكا حياتيا توجهه العقيدة وليس عقيدة باردة تقطن الأفئدة ـ عقودا أخرى قد تطول حتى تبسط ” النهضة ” سلطانها على مفاتح التغيير في البلاد ونترحم على
صاحب الحكمة : إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن
مسلمة للإمتحان
هذه المسلمة هي أن هوية التونسي إنتصرت على حرب دامت نصف قرن كامل وأزيد وأنه آن الأوان بالثورة لتأميمها مجتمعيا ولتظل الأحزاب منها ـ وحزب النهضة بصفة خاصة ـ على مسافة واحدة. نحتاج هنا إلى تحرير المشكلة وحد الهوية. المشكلة هي أن أبواب التقدم والنهضة والعمارة في البلاد رهينة تفعيل الهوية الدينية التي تدفع نحو إحلال العدل وترسيخ الحرية ورص الصف وبعث الأمل فهي جذر النماء الجامع المتوازن كجذر الشجرة الذي يغذيها أو تموت بموته. أما حد الهوية فهو يحمل إختلافا إذ أن الهوية في حقيقتها هي المكون الفكري الذي يختاره الإنسان ليكون موجها لحياته ومغذيا لمسلكه وفيصلا في معاركه. مظنة الإختلاف هنا هي أن الهوية عند بعضنا رسم أو وسم أو شكل وصورة لتكون حية بكثرة المصلين مثلا. هذا حد ضروري حتى نتخاطب بلسان واحد. إمتحاني لهذه المسلمة أوحى إلي أن أصل الهوية أي جذرها الأصيل متحقق دون ريب والقول بأن حربا شعواء على إمتداد نصف قرن أخفقت في نزعه قول صحيح صحة كاملة. سوى أن ذلك الجذر تأثر تأثرا كبيرا بتلك الحرب إذ تعطلت قواه العملية وأخترقت مسالكه تدينات هجينة منها السلفي المغشوش ومنها الخرافي الأسطوري ومنها الصوفي السلبي الفارّ ومنها اللبرالي المتسيب وظلت دائرة العدل فيه صغيرة وكان لـ” النهضة ” كسب كبير مقدر في مراجعة الهوية في إتجاه تفعليها إيجابيا فلما إنخرطت في المواجهات أو دفعت إليها أو فرضت عليها خلا المناخ للمكونات الأخرى وساد ظلام أشد سوادا مما كنا عليه في الستينات والسبعينات. فإما أن يكون تأميم ” النهضة ” مؤصلا واقعا وليس دينا لأن الدين يحتمل هذا وذاك وإما أن تكون العاقبة سيما مع التطورات المتعاقبة السيئة سيئة .
الهادي بريك ـ ألمانيا
brikhedi@yahoo.de