الفصل الحادي عشر : أركان الأمة الخمسة.
كلمة : أركان .. لفظ مستحدث إذ لم يرد بمعناه المستخدم لا في القرآن ولا في السنة. الركن هو الشيء الذي يحتمى به ويلجأ إليه . ” أو آوي إلى ركن شديد “. ” ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار “. ودرج المدونون على صياغات من مثل : أركان الإيمان أو أركان الإسلام.. التعبير النبوي أصح وأدق إذ قال : بني الإسلام على خمس … الركن غير البناء في الحقيقة. صحيح أنه لا مشاحة في المصطلح وأن العبرة بالمقصد ولكن الأصح من ذلك هو إحسان إختيار اللفظ حرصا على دقة المعنى. لسانا عربيا ليس الركن هو البناء ولا البناء هو الركن. يشتركان ويختلفان ويتكاملان. لم أبهر بشيء في هذا الكتاب العزيز بهري بدقة تراكيبه دقة عجيبة أدهشت أرباب القحاحة. هذا كتاب يعلمك الأدب وفنونه بمثل ما يعلمك التشريع فمن جفا عن ذلك فلن يتذوق طعما أشهى من العسل المصفى.
للإيمان أركان وللإسلام أركان وللأمة أركان كذلك :
أفضل كلمة : أبنية بدلا من أركان .. ولكن دعنا من هذا الآن. الإيمان فكرة وليس هذا تهوينا منه ولكن رغبة في الإيضاح اللازم والإسلام عمل أو موقف في الحياة. كلاهما لا رصيد له في الحياة عدا إذا ظفرت به أمة من الناس ومن ذا شدد القرآن على قيمة الأمة إذ هي الحقل البشري العملي الميداني الذي يستقبل ذلك الإيمان وذاك الإسلام فيحولهما إلى حياة فيها السعادة والرغد. الإنسان هو مستودع الإيمان وحاضن الإسلام. ولذلك لم يعرف القرآن الكريم الإيمان الذي هو مخ رسالته ولو مرة واحدة وظل يشيد بآثاره في الحياة وفي النفس.
أركان الحياة هي :
1 ـ الإنسان
2 ـ الإيمان
3 ـ الإسلام
أي أن الحياة لا يمكن أن تسمى حياة وليس معيشة حتى يتوفر لها الإنسان المؤمن المسلم. الإيمان وحده أو الإسلام لا يبنيان حياة. الإنسان وحده كذلك لا تبنى به حياة.
كان أملي أن تتركب مقرراتنا الدراسية في البيت والبيئات الأخرى من أدناها حتى أعلاها من تعليم تلك الأركان الثلاثة للحياة : أي أركان الأمة وأركان الإيمان وأركان الإسلام وبذلك يلتحق النظري بالعملي ويلتحم التصور بالإنسان فتولد الحياة. فينا زهد عجيب في فقه الإنسان والقرآن الكريم مليء به حتى إنه خصص له سورة مدنية كاملة. القرآن الكريم كتاب الإنسان بكل ما في الكلمة من معان وقيم.
أركان الأمة :
1 ـ العلم.
دليلي على ذلك سورتا القلم والرحمان وكلاهما مكيتان. فخري لا يقاس بفخر عندما علمت أن في الكتاب الهادي سورة كاملة عنوانها القلم. كيف لا وأول كلمة نزلت من السماء إلى الأرض هي كلمة : إقرأ. القراءة هي الجمع. إسم السورة يحيلك إلى موضوعها مباشرة ويجعلك في إتجاه حقلها بالضرورة. ولذلك كان الإسم موقوفا وليس إجتهادا. عندما أراد سبحانه أن يرفع العلم بما هو معرفة وإجتهاد وبحث ودراسة وصناعة فكرية إلى أعلى المستويات خصص له سورة تحمل إسمه الأفضل والأكبر بعد إسمه العلم أي الرحمان. الرحمان إسم خاص به وبه سمى سورة هي سورة العلم في الحقيقة إذ بدأها بقوله : الرحمان علم القرآن. خلق الإنسان. علمه البيان. والرسالة هي : لا قيمة للإنسان المخلوق إلا بقيمة العلم الذي معه فهو رصيده وإلا فإن الخلق سابق عن التعليم بوجهة ما وليس مطلقا. لست في حاجة إلى تأكيد العلم ركنا أعظم من أركان الأمة ولست بحاجة لأدلل على ذلك من النقل أصلا والواقع يخبرنا أن أهل العلم تقدموا وأن أهل الجهل تخلفوا. والتاريخ مثل ذلك.
2 ـ الصف.
لنا في الكتاب العزيز سورة مدنية تحمل إسم الصف والرسالة هي أن الأمة الإسلامية لا بد أن تكون ذات صف واحد مهما تنوعت وتعددت وإختلفت وهذه إرادته هو سبحانه. هذا أمر كذلك لا يحتاج فيه المرء إلى نقل إذ أنه أمر عقلي مجرب فمن وحد صفه اليوم تقدم وغلب ومن تفرق صفه إنهزم وإندحر. عبر عنه في مواضع أخرى بالإعتصام والوحدة وغير ذلك. المقصود بالصف هو أحادية الرأس القيادي وليس تعدد الرؤوس القيادية لأن الكون منتظم ضمن شبكة من السنن القهارة منها أنه لا يسير سائر ولا يطير طائر إلا برأس واحد أما تعدد الرؤوس فهو المهلكة والمحرقة. تتعدد الأجنحة والأطراف أما الرأس فإما واحد أو هو الغرق.
3 ـ الشورى لحسم التعدد.
لنا كذلك في الكتاب العزيز سورة مكية عنوانها الشورى والرسالة هي أن الله عندما خلقكم مختلفين متعددين متنوعين فإنه يريد أن يبتليكم بذلك هل توظفون ذلك لتوحيده فهو الذي لا يتعدد ولا يختلف ولا يتنوع وهل توظفون ذلك لحسمه بالحوار صونا للصف الواحد أن تنخره الإختلافات ولضمان جرعات لا بد منها لكرامة الإنسان ولحريته. تلك هي فلسفة الشورى في الشريعة الإسلام أي ضمان الصف الواحد وفي الآن نفسه تعزيرها بإنسان حر كريم يقول رأيه في كل شيء متى شاء وكيفما شاء دون تهيب من حاكم أو قوي أو غني بل يعد ذلك فريضة من فرائض حياته. نجح الغربيون في هذا وفشل العرب والمسلمون فشلا ذريعا ومنذ العقود الأولى من موته عليه الصلاة والسلام. قالة لا أتفق معها البتة : تاريخنا مفترى عليه. لا. تاريخنا غير مفترى عليه وإذا كان مفترى عليه فليس المفتري سوانا.
4 ـ الحديد.
لنا سورة كذلك عنوانها الحديد ورسالتها أن الأمة لا يمكن أن تظل مهابة الجانب إلا بالحديد وهو رمز القوة العسكرية ولا يمكن أن تظل قوية تعمر الأرض إلا بالحديد وهو القوة العمرانية السلمية ولا يمكن أن تتهيأ لأداء الشهادة على الناس إلا بالحديد وهو القوة التي تدحر المعتدي وتنصر المستضعف. حدد مقصد الحديد بإقامة القسط ورسالة الأمة هي إقامة القسط فيها وفيما يليها. كل ذلك وسيلته الحديد. وإلا فإني لا أفهم البتة كيف يحتوي القرآن الكريم كتاب الهدى والوعظ والتربية سورة عنوانها الحديد إذ الحديد مادة غليظة جافة لا تتساوق مع رسالته. عرف الغربيون هذا فصنعوا الحديد حضارة وصدروها إلينا وأصل المادة من أرضنا بمقايضات مجحفة وصنعوه أسلحة فتاكة وقصفونا بها. لكم أفخر وأبكي معا. أفخر بإحتواء كتابي الحديد رمز القوة وأبكي عندما أعلم أن الحديد صناعة غربية لا وجود لها في كتبهم وبها يحتلون أرضنا ويقصفون عمارتنا وإنساننا.
5 ـ الإصلاح.
المقصود بالإصلاح هو الحيلولة دون سقوط صف الأمة بسبب الحريات الفردية أو الجماعية. هي إشكالية فلسفية في الحقيقة عنوانها علاقة الحرية بالمسؤولية أو الفردية بالجماعية. عالجها الغرب المعاصر أولا علاجا دينيا إذ أعدم الحرية الفردية وأعلى من شأن المسؤولية الجماعية وكان ذلك في المناخات الدينية الغربية قبل ظهور الثورة ضد الدين كما كان ذلك من بعد ذلك في التجربة الشيوعية الماركسية. ثم عالجها معالجة عقلانية إذ حاول إدراجهما معا ـ الحرية والمسؤولية ـ في بوتقة واحدة فكانت الدولة الغربية المعاصرة ولكن يبدو ـ والله أعلم ـ أن معالجة الحرية الفردية ستطغى ولن يكون طغيانها على حساب الدولة التي تضمن المسؤولية الجماعية ولكن بدا طغيانها جليا واضحا معزرا بالأرقام والصيحات أصلا في الأسرة. دعنا من هذا الآن.
الإصلاح فقرة قرآنية راسخة بل لك أن تقول أن سورة العصر نفسها هي سورة الإصلاح إذ رهنت الفلاح وهو ضد الخسران في العمل الجماعي الذي يؤمّن الإصلاح تواصيا بالحق وتواصيا بالصبر من بعد أديم الإيمان والعمل الصالح المتفق عليه وليس عليه جدال.
حفل الإسلام بالإصلاح أن تنقض عرى وحدة الأمة بإسم الحريات الفردية والفئوية والمذهبية وغيرها حفلا كبير إذ أنه دعا الأمة جمعاء قاطبة إلى قتال الفئة الباغية التي لا تخضع للإصلاح ولو كان ذلك الإصلاح يخصم بعضا من حقها. ورد ذلك في سورة الحجرات.
حرصه على الإصلاح نابع من كون الإنسان وهو يعالج الحرية مع المسؤولية قد ينزلق إلى تغليب الحرية على المسؤولية فينشق المجتمع وتندك الأمة أو تغليب المسؤولية على الحرية فيهان الإنسان وتداس كرامته وبذلك تتعطل إمكانيات العمارة والعبادة وإقامة العدل أي رسالته.
خلاصات :
1 ـ يؤلمني ألا يتعلم الناشئة في محاضنهم الأولى أركان الأمة التي لا بد منها لقيام الأمة. أما الإستغناء عن ذلك بدعوى تعليمهم أركان الإيمان وأركان الإسلام فحسب فهذا جهل لأن كليهما فكرة لا رصيد لها في الواقع إلا بالإنسان. أظن أن غياب أركان الأمة إهتماما وتعليما وتفعيلا مسؤول عن جزء مهم من تخلفنا وإنحدارنا.
2 ـ أركان الإيمان والإسلام تعلمنا النظرية وأركان الأمة تعلمنا التطبيق. أركان الإيمان خاصة بالإنسان الفرد وأركان الإسلام كذلك مع تصرف صغير. أما أركان الأمة فهي تعلمنا الإهتمام بما يصلح الأمة ويقويها أو يضعفها. لست أجد أن مكان الأمة في الإسلام صغير أو مؤخر حتى نعزف عن هذا.
3 ـ ترجم الأصوليون لذلك بلسان آخر إذ عدوا المصالح الضرورية والمقاصد الكلية هي الإنسان حفظا أو رعاية لنفسه أي حياته وماله وعقله ودينه وعرضه ونسله وغير ذلك. ولكن الفقهاء لم يترجموا ذلك. لازلت أؤمن أن التدوين مع حسناته جلب سيئات كثيرة.
4 ـ لا قيام للأمة نقلا وعقلا إلا :
ــ بإيمان مصنعه العلم ومخبره البحث ولحمته الإجتهاد نظرا في الكون.
ــ بصف واحد يكون أكبر عناوين القوة.
ــ تشاور وتراض وتحاور لحسم الخلافات بالحوار والحسم ليس الإزالة بل التوظيف الحسن.
ــ بحديد يضمن القوة الحضارية لرغد العيش والقوة العسكرية لأمن الذئاب ونصرة المستضعفين من غيرنا.
ــ بحركة إصلاحية تكون كالملح في الطعام أو تضمن المناعة الذاتية الداخلية بلسان الأطباء.
5 ـ العجيب أن كل تلك الأركان ـ أركان الأمة ـ مذكورة في القرآن الكريم بأسماء سور:
ــ القلم للعلم والعلم هو الذي ينشئ الإيمان وليس التقليد أو الجهل أو الإتباع الأعمى.
ــ الصف
ــ الشورى
ــ الحديد
ـ العصر أو الحجرات لركن الإصلاح
والله أعلم .