فصول في ترشيد التفكير الديني ( 12 )

الفصل الثاني عشر : الإسلام دين متشدد في حقوق الإنسان.

نبتت فينا نابتة خبيثة عنوانها أن كل قيمة يتغنى بها الآخر ما ينبغي لنا سوى هجائها لأنها صدرت عنه وليس عنا. خطة خبيثة وقعنا في شراكها إذ عندما يتغنى الغرب بحقوق الإنسان ـ أعلم أن جزء كبيرا منه نفاقا ـ يجب علينا أن نحقق المفاصلة لنقول ألا وجود لحقوق الإنسان في الإسلام وقس على ذلك المرأة والطفل والعجوز الشيخ والبيئة. بيسر يقع تجريدنا من قيمنا التي يفخر بها ديننا والسبب هو أن الآخر الذي يقصفنا تغنى بها.
لو كان هذا الإتجاه صحيحا لم أشاد عليه الصلاة والسلام بأمور جدت في الجاهلية وشارك هو من مثل حلف الفضول أو حلف الطيبيين وقال : لو دعيت به في الإسلام لأجبت؟
لو كان هذا الإتجاه صحيحا لم قدم سفيره إلى الحبشة جعفر الطيار الأمور المشتركة بين الإسلام وبين المسيحية أي نبوة عيسى عليه السلام وذكر الأخلاق العامة المشتركة من مثل عدم أكل الميتة والإحسان إلى الجار وغير ذلك؟ لم قدم ذلك وأخر سورة الكافرون؟ ألم يكن يحفظ سورة الكافرون؟ لم إختار من سورة مريم وليس من سورة الكافرون؟
السفهاء اليوم يقولون أنكم تجاملون الغرب وتحابون خطابه وتطلبون وده وتنشدون رضاه.

وفي مقابل ذلك فينا من لا يرى في الإسلام أي تشدد أو تغليظ وفي كل حقل. من يدرس الإسلام يدرك بيسر أن الإسلام متشدد في أمرين كبيرين : الأمر الأول يتشدد فيه ويظل تشدده بينه وبين العبد وهو حقل التوحيد أن تشوبه أي شائبة. الأمر الثاني يتشدد فيه وينشر هذا التشدد بين الناس حتى يستوعبوا رسالته. الأمر الثاني الذي تشدد فيه الإسلام هو حقوق الإنسان ولذلك أحاطها بعقوبات بدنية قاسية مغلظة. هي فعلا عقوبات بدنية قاسية ومغلظة ولكن الأعور ـ أو الأحول حولا فكريا وقيميا لا بدنيا ـ يراها بعين واحدة أي يرى تشددها وقسوتها وغلظتها ولا يرى لم هي كذلك؟. هي كذلك قاسية مغلظة مشددة لأنها تعالج جرائم مغلظة مشددة قاسية تنهب الإنسان وتغصبه في نفسه وحياته وماله وعرضه وأهله ووطنه. ألم تقل العرب قبل الإسلام في حكمة بالغة : القتل أنفى للقتل؟ لم لم يواجهوا بأنهم متشددون وغلاة وقساة وأجلاف لأنهم يقتلون القاتل؟ هل غابت عنهم هذه الكلمات وهم أرباب اللسان؟

لكم صدق القائل : تضيع الحقيقة دوما توسطا وأعتدالا وتوازنا بين غلوين. وكلما نبت هنا غلو قوبل بغلو مثله مساو له في الدرجة مخالف له في الإتجاه كما يقول علماء الإجتماع.

شريعة الإسلام حتى بجانبها الجزائي خير حام لحقوق الإنسان :

لسان عصرنا هو عصر حقوق الإنسان الذي به الأرض تلهج وبه تحتل دول بل تزال من فوق الخارطة وبه تساس الأرض كلها اليوم. شريعة الإسلام لمن يدركها بحق تعالج كل عصر بالتحدي الذي يحمله فإن عالج المسلمون عصرا بغير التحدي الذي يحمله فقد خرجوا من خريطة الزمان والمكان. عصرنا هو عصر حقوق الإنسان وما على العلماء والفقهاء والدعاة والخطباء والكتاب سوى أن ينتبهوا لذلك ويعدوا له عدته الفكرية والقيمية لأن الإسلام رحم ولاد أعشر كلما نبت في عصر تحد تصدى له وما غلب الإسلام يوما أبدا ـ ولن يغلب ـ في أي معركة فكرية ولكنه غلب ويغلب في المعارك العسكرية. يغلب عسكريا ولكنه لا يهزم.

ما هي حقوق الإنسان :

حقوق الإنسان هي حقه في الحياة سليما في بدنه معافى في أطرافه وحقه في العيش الكريم وفي العمل وفي العلم وفي صون عرضه وبيته ووطنه ودينه. حقوق الإنسان هي التي عبر عنها الأصوليون أنها الكليات الخمس العظمى أو الضرورات الكبرى أي : حق الإنسان في نفسه وحياته ودينه وعقله وماله وعرضه ونسله. كلها تدور حول الإنسان إذ تتعلق كلها بالإنسان مادة ومعنى وفردا وأسرة ووطنا. لو كان هؤلاء أحياء يعيشون معنا لما ترددوا في تسميتها حقوق الإنسان وليس الكليات أو الضرورات. ولكن ماتوا ومات معهم لسانهم ورفعنا شعار الموت : ليس في الإمكان أحسن مما كان أو ما ترك الأولون لآخرين شيئا أو غلق باب الإجتهاد.

كيف حمى الإسلام حقوق الإنسان وكيف كان متشددا فيها :

1 ـ حق الحياة :

رتب الإسلام لحماية حق الحياة الإنسانية الموت على الموت أي عقوبة القصاص وهي شريعة عربية لم يستحدثها هو بل أقرها لما فيه من صلاح ونفع. قالت العرب : الموت أنفى للموت. أي من يقتل يقتل وبذا لن يقتل أحد أحدا. وإنما تفوق الإسلام على شريعة العرب بعد أن لونها بلونها وأقرها بأن منح الولي حق العفو وأخذ الدية لعل القاتل يتوب. وبذلك أضاف للإنسان حقا آخر إسمه : حق العفو وإستبدال القصاص بالدية.

2 ـ حق السلامة البدنية :

رتب عليها ما يسمى في الفقه بالأروش أي القصاص الجزئي كما ورد عينا بالعين وأذنا بالأذن وسنا بسن والجروح قصاص وهي كذلك شريعة يهودية سابقة إستوردها الإسلام لما فيها من صلاحية ونفع. ومنح الإنسان مرة أخرى حق العفو فقال : فمن تصدق به فهو كفارة له.

3 ـ حق الدين :

رتب حفظا لحق الدين أمورا كثيرة منها نفي الإكراه وليس مجرد النهي عنه. النهي قد ينتهك ولذلك نفاه مطلقا ومن إنتهك النفي تعجل عقوبته وتغلظ آجلا. ليس هناك نظير للإسلام وهو ينهى الصحابة الأنصار أن يكرهوا فلذات أكبادهم على الإسلام وقد إختاروا التنصر. تصور أن الله نفسه الذي خلقك ورزقك فهو يملكك ملكية تامة لا يكرهك عليه فإن عبدته كارها فأنت منافق وتعاقب على ذلك. حفظا لحق الإنسان في الدين لم يرتب على الردة الفردية السلمية التي لا تعرض المجتمع والدين إلى الصرم والهزء شيئا.

4 ـ حق الوطن :

رتب الإسلام لحق الوطن الجهاد مقاومة ودفعا وفي هذه الحالة فحسب قدم الدين ـ رأسمال الوطن ـ على النفس فحرض على قتل النفس والإقدام على الموت وهو شاق ” كره لكم ” ليكون الوطن بمن فيه من بعد ذلك كريما سعيدا يقرر مصيره دون وصاية أجنبية. نحن لا نفقه إلى اليوم كلمة في سبيل الله. في سبيل الله تعني في سبيل كل سبيل يجعل الإنسان حرا كريما فهي في سبيل الوطن وفي سبيل الإنسان وفي سبيل المجتمع وفي سبيل كل قيمة يأمر الله بها أو لا ينهى عنها على الأقل. وردت الكلمة عامة لتظل عامة حتى عندما تتغير الصور. لو قصرناها على الصورة القديمة يجب أن نقول أنه لا مكان لسبيل الله اليوم. فمن يقاتل في سبيل الوطن فهو يقاتل تحت راية جاهلية وعمية عصبية.

6 ـ حق المال :

رتب الإسلام عقوبة مغلظة مشددة قاسية على سرقة المال والنهب والسلب والعدوان على أمتعة الناس بكل طريق. هي عقوبة القطع. يجب أن تقتنع أنها عقوبة قاسية وهي فعلا كذلك ولكن القسوة التي تعالج قسوة مثلها أو أشد منها تسمى رحمة عند العقلاء. لا تكن أحول البصيرة أو أعور الفؤاد لترى مشهد القطع وتتجاهل أو تغفل عن مشهد النهب والسلب من لدن جائر يستقوي بجنده أو دولته أو جيشه أو حيلته على أموال المستضعفين. ماذا يأكل الإنسان عندما ينهب ماله؟ يأكلك أنت؟ ترضى أن يظل هو من بعد غنى صاحب اليد السفلى ولا ترضى أن تقطع يد الناهب السالب الذي فعل ذلك تكثرا وعدوانا وليس حاجة إلى أكل أو شرب؟ لولا قداسة الإنسان وقداسة المال في الشريعة الأسلامية لما كان هذا العقاب قاسيا مغلظا مشددا.

7 ـ حق العقل :

رتب الإسلام حفظا للعقل عدم الإكراه على الدين وحرم السحر لأجل ذلك لأنه يحيل إلى الخزعبلات والأساطير والخرافات فيخلد الناس إليه ويأكل بعضهم مال بعض جورا وعدوانا. كما حرم إحتساء الخمر وكل مسكر لأجل كرامة الإنسان بعقله وقدرته على التفكير وحرض على النظر والتدبر لأجل إنماء العقل وإستمثاره في الخير بل رهن الإيمان على رصيد الإنسان من رساميل النظر والتفكر والتدبر والتأمل في الكون وفي التاريخ. رتب الجلد ـ تعزيرا لا حدا ـ على شارب الخمر حفظا لملكة العقل التي يغيب بغيابها الإنسان عن الشهود والشهادة ليظل دابة ترعى وتعلف.

8 ـ حق العرض :

رتب الإسلام حدا من أقسى الحدود ـ هو الجلد وليس الرجم ـ حماية لحق الإنسان في عرضه رجلا كان أو إمرأة . رتب حد ثمانين جلدة على العابث بحق الإنسان في عرضه راميا له بالفاحشة ورتب مائة جلدة على العابث بحق الإنسان في عرضه عندما يزنى. أليس ذلك حفظا لكرامة الإنسان وخاصة المرأة أن تظل ألعوبة أو دمية أو جارية أو بهيمة تقضى منها الشهوات وبها اللذات بمقابل ظهور أو بروز أو مال أو سمعة أو ذكر أو إسم أو عنوان أو أي شيء يجعلها متاعا. أليست المرأة اليوم متاعا رخيصا تستخدم بالتمام والكمال كما يستخدم الرجل في بيته طعما ريحه شهي وفيه السم الزعاف يلتقط به الفئران؟ أليس مهينا للمرأة أن تكون طعما يجلب الزبائن حتى والأمر يتعلق بإشهار موسى حلاقة يستخدمه الرجل وليس المرأة؟ لا تتأفف أو تضجر من قولك أن الشريعة قاسية هنا أي كلما تعلق الأمر بحق من حقوق الإنسان. ذاك هو التصور الصحيح وذلك هو التفكير الأصح. من لا يرضى ذلك يرضى لأمه أن تكون في هذا الموضع المهين أو لأخته أو لزوجه.

9 ـ حق الأمن :

رتب الإسلام حد الحرابة وهو أشد حد فيه إذ أمر فيه بالقتل أو بالصلب أو بقطع الأطراف بخلاف. لم كل هذا التشدد؟ لحماية حق الناس في الأمن والسلام والعيش المطمئن. كيف نضجر من إنعدام الأمن الذي به نحيا ونعيش ونعمل ونتعلم فإذا جاء الحديث عن حد الحرابة وهذه العقوبات البدنية المشددة المغلظة عددنا ذلك تخلفا ورجعية وظلامية. لنبق إذن في الفوضى والعدوان والإضطراب وكما نقول باللهجة العامية : حوت ياكل حوت وقليل الجهد يموت “. ألم يعد الإسلام الفساد في الأرض حربا ضد الله ورسوله؟ أي أن من ينشئ فسادا ـ والفساد هو العدوان على حق الإنسان في الحياة والسلامة وغير ذلك ـ فهو يعاقب في الدنيا عقوبة من حارب الله ورسوله. أي أن العدوان على الإنسان عدوان على رب الإنسان.

خلاصات :

1 ـ علينا إنجاز خطاب ديني جديد عنوانه أن الإسلام بتشريعاته القاسية جدا والمغلظة المتشددة كلما تعلق الأمر بالإنسان هو خير حام لحقوق الإنسان وهو خير ضامن للأمن الإجتماعي والسلم السياسي والسكينة الزوجية والتعامل مع الآخرين المخالفين. أما عندما نوافق الذين لا يعلمون أن القسوة التي تنفي العدوان على الإنسان هي تشدد في غير محله نكون قد ظلمنا أنفسنا وأسأنا إلى الإسلام نفسه.

2 ـ التي سماها الإسلام كبائر وهي زهاء مائة يتعلق ثلثاها بالدولة في علاقاتها الخارجية خاصة والباقي منها تتعلق بنا أفرادا وأسرا .. تلك الكبائر التي رتب عليها عقوبات بدنية ومعنوية قاسية مغلظة مشددة هي التي يمكن أن نوفر لها عنوانا أنسب لعصرنا : أي حقوق الإنسان. الوجه المعاصر للكبائر هي حقوق الإنسان. لم لا نخاطب الناس بما يفهمون؟ أليس الرسل مكلفين بذلك ” إلا بلسان قومه ليبين لهم “. أليس العلماء ورثة الأنبياء؟ أليسوا هم إذن مكلفين بتجديد في الخطاب بحيث يفهمه الناس ولا عبرة بالمصطلح؟

3 ـ ألسنا مطالبين بتحري الحكمة ونبذ الصور والأشكال والمباني حرصا على تقديم دعوة إسلامية صحيحة تحتفظ بالمقاصد وتنبذ الأشكال وتقدم إضافة الإسلام إلى الناس. إضافة الإسلام إلى الناس اليوم وهم بالعلم مغرورون وبالقوة مفتونون هي : الإسلام خير ضامن لحقوق الإنسان بكل تشريعاته وقبل ذلك بعقائده وتصوراته. عندها يطمئن الناس إلى الإسلام. أما عندما يرون فيه حملا ثقيلا وعبئا كبيرا على الحضارة والتقدم والنهضة والمرأة والطفل والعلم والمعرفة والإنسان فمن المعقول جدا أن يناصبوه العداء.

والله أعلم

شاهد أيضاً

قصة يونس عليه السلام

هو يونس إبن متى عليه السلام أحد الأنبياء المرسلين المذكورين في القرآن الكريم وحملت سورة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *