الفصل الثالث عشر : أسعار الحسنات مختلفة ومثلها أسعار السيئات فكن تاجرا.
ربما يضيق بعض الناس بالقول أن خير طريق لفهم الدين هو فهم الدنيا ولكني وجدت ذلك أيسر طريق وأكثره أمنا إذ أن المشكاة واحدة والقانون واحد والإختلاف بينهما في أمور معلومة. معنى ذلك هو أن أجزية الآخرة ثوابا وعقابا هي أجزية متوافقة مع الأعمال خيرا وشرا. في موضوعنا هذا وجدت أن أعمال الدنيا لها أجور مختلفة فلا تستوي مادة الرياضيات مثلا لدى التلاميذ والطلبة مع مادة الموسيقى سيما في الجذع المشترك. لكل مادة أجرها ولكل جريمة سعرها كذلك في القانون الوضعي. الدين محكوم بالقانون ذاته أي أنه لا يحتفظ بأجر واحد لكل حسنة ولا بعقاب واحد لكل سيئة. فإذا كانت الأجور يوم القيامة مختلفة من عمل لآخر وكانت العقوبات بمثل ذلك من جريمة لأخرى أفليس حريا بالعامل أن يكون تاجرا يفعل كما يفعل تاجر الدنيا بالتمام والكمال ودون حاجة إلى تقعرات كثيرة من المنسوبين إلى الدين والدعوة؟ ألم يحرضنا الإسلام نفسه على التجارة إذ قال : هل أدلكم على تجارة … أو عندما قال : يرجون تجارة لن تبور .. أو قال عن المنافقين : فما ربحت تجارتهم؟ ذلك يعني أن الإنسان تاجر بالضرورة سوى أنه يشعر بأنه كذلك في الدنيا ولكنه يغفل عن ذلك في التجارة مع الله.
تلك هي الحياة الدينية والدنيوية معا لا تستقيم لأحد إلا بالتجارة سيما في زماننا حيث إشتبكت المصالح وتعددت المنافع ومثلها المفاسد وقصر الزمان كما يقولون وأصبح الناس كلهم فوق البسيطة يلهثون وراء الزمن يغالبونه فيصرعهم.
ما معنى أن تكون تاجرا في الدين ؟
هو أن تكون بمثل ذلك في الدنيا. أي تعرف ما هي الحسنات وما هي أثمانها وتعرف ما هي السيئات وما هي أسعارها ثم تعد نفسك لفعل الحسنة الأكثر سعرا إذ أن فعل كل الحسنات لا يمكن وتتجنب في المقابل أكثر السيئات سعرا حتى لو وقعت في ما دونها سعرا لأن هذا يكفر ذاك. ذلك هو معنى أن تكون تاجرا في الدين مع ربك سبحانه. التجارة في الدين تتطلب ما تتطلبه التجارة في الدنيا أي : رأسمال ينافس في السوق + عامل أو عمال تتعاون معهم + مسك حسابات للربح والخسارة + محاسبة دورية لتعديل ميزان التجارة وتوقي الإفلاس + ذكاء تجاري به تعلم أكثر الأسواق رواجا وأكثرها زبونا إلى آخر ذلك مما يفعله تجار الدنيا بالتمام والكمال.
هل في الإسلام أثمان محددة وأسعار منصوصة ؟
أجل. ذكر القرآن أن سعر الحسنة مطلقا هو عشر أمثالها وهو الحد الأدنى وأكد الحديث النبوي الصحيح ذلك. ذلك هو المعيار الأدنى أو المقياس القاعدي الذي تبنى عليه الحسابات من بعد ذلك. كما ذكر أثمانا من فوق ذلك منها أن الإنفاق في سبيل الله سبحانه يكون سعره سبعمائة ضعف على الأقل إذ أكد أن الزيادة على ذلك ممكنة ” والله يضاعف لمن يشاء “.
لم يحدد القرآن الكريم غير ذينك السعرين تحديدا بالنص والعدد نص كما يعلم ذلك طلبة أصول الفقه إلا أن يكون في محل المبالغة والتكثير وليس هنا محلهما.
أعمال خارجة عن نطاق الجدول الرسمي العام :
كما يفعل المؤجرون اليوم ـ ولله المثل الأعلى سبحانه ـ فإن هناك أعمالا لا تخضع للجدول الرسمي العام الذي أثبته الله سبحانه نفسه وكشف عنه. منها : الصبر الذي أخرجه من الحساب العام فقال عنه أن أهله يوفون أجرهم ” بغير حساب “. وأكدت السنة أعمالا أخرى من مثل : الجهاد في سبيل الله سبحانه والشهادة في سبيله سبحانه. وكل ذلك على سبيل الذكر وليس الحصر أن ينداح هذا الفصل وغرضه الإشارة وليس الحصر.
أكثر الحسنات سعرا :
1 ـ الإيمان بالله سبحانه إيمانا صحيحا يتحول مع الأيام إلى يقين واليقين ذاته درجات. بعض المتدينين عندما لا يفقهون ذلك يستعجبون أن يبشر عليه الصلاة والسلام من مات على شهادة التوحيد بالجنة مغفورا له ما أتى من عمل حتى لو سرق وزنى. سبب ذلك الإستغراب الذي تقرأه في العيون هو أن فقهنا للإيمان ليس فقها صحيحا لأننا نخلطه مع التصديق وليس الإيمان هو التصديق فحسب لأنك تصدق رجلا عرف بالصدق مثلا. مسألة أخرى نحن لا نفقهها حق الفقه وهي أن الإيمان الذي يتحول إلى يقين فيحيل قلب صاحبه إلى فؤاد معلق بالله وبالآخرة يحول دونه ودون الوقوع في الكبائر ومن وقي الكبائر مبشر في سورة النساء بغفران السيئات. لذلك يظل الإيمان يحتاج دوما إلى أمرين : أولهما أن يقتنى من مظانه وهي الكون والتاريخ وليس الكتب عدا الكتاب الخالد أما إقتناء الإيمان من عقيدة فلان أو فلان على قدر فلان وفلان فهو مضيعة وقت. ثاني الأمرين هو أن يتجدد الإيمان إذ هو رأسمال يتعرض لكل ما يتعرض له أي رأسمال لا يستثمر.
2 ـ العبادات بصفة عامة وخاصة الصلاة المكتوبة وإنما خصت لأنها الأعسر مواظبة ومحافظة ومداومة إذ هي تغشى المؤمن كل أربع ساعات ونيف على مدار حياته. ولذلك كانت مكفرات لما بينها جميعا من الصلاة إلى الصلاة ومن الجمعة إلى الجمعة ومن رمضان إلى رمضان ومن العمرة إلى العمرة وأن الصدقة ـ ومنها الزكاة ـ تطفئ غضب الرحمان.
3 ـ حياة القلب الذي يسمى ذكرا. وليس كعبادة الذكر ظلما فينا إذ أننا نجهلها جهلا كبيرا وذلك عندما نظن أن الذكر حركة لسان أو شفتين أو هي كلمات تردد حتى مع حضور القلب ولذلك قال العلماء بحق أن أفضل الذكر القرآن وما ذلك سوى لأنه يحيل إلى أحب ذكر عند الله وهو النظر والتفكر والتدبر والتأمل ومن ذا يكون السؤال والحوار بينك وبين الكون وبينك وبين التاريخ ومن ذا يكون لك الذكر بهذا المعنى الإيجابي سجية وخلقا وتنصهر في الكون العابد. أما عندما يكون الذكر وجبة ككل وجبة من العبادات فلن يحقق مقصده وهو حضور القلب الذي هو أشبه شيء بمرمى فإن تجهز حارسه حماه وإن غفل عنه طرفة عين وكان الشيطان ماهرا ـ وهو ماهر دوما ـ رماه. أرجع إلى الحديث الصحيح فيه وكيف أنه أفضل من الجهاد والنصر وإنفاق الذهب. الذكر عبادة صامتة وحركة جنان.
4 ـ الخلق الحسن مع كل الدوائر البشرية وخاصة : الأسرة والرحم والجوار بكل صنوفه. نخطئ كثيرا عندما ندون الخلق مشربا مستقلا من مشارب الدين فنخصص له حقلا كما للعقيدة أو العبادة أو المعاملة. الحقيقة أن الخلق هو إكسير الحياة وماء العبادة فليس هناك عمل عقدي أو تعبدي أو ميداني إلا وهو مفعم بالخلق الطيب فهو خالص وصحيح وإلا فهو نفاق وكذب ورياء. مع الوالدين أولا ومع الزوج والولد ثم مع الرحم الأولى نسبا فالأولى ومن الرحم الصهر ثم مع الجار الأقرب فالأقرب بكل أنواع القرب فإذا إستووا فالحاجة هي معيار القرب. لك أن تعود إلى آية النساء المسماة عندهم بحق آية الحقوق العشرة إذ هي تبدأ بتقرير الإحسان للوالدين ثم تسحب ذلك حتى الجار الجنب والصاحب بالجنب وكثيرا ما يكون هؤلاء غير مسلمين. عنوان الخلق هو : الحلم والأناة.
5 ـ الإحسان أو العدل مع بقية الدوائر البشرية إذ الإحسان أولى وخاصة مع الضعيف والظالم إلا في حالات عامة تخص الأمة أو ما في مثلها تقدر بقدرها فإن عجزت عن الإحسان وهو أعسر عبادة حقا وفعلا وصدقا فالعدل لا تنازل عنه إذ أن التنازل عنه يعني الظلم والكيل صاعا بصاعين كما تقول جاهلية العرب الغابرة والحاضرة. عماد ذلك هو البشرية وليس الإنسانية أي أن الناس كلهم لك في الخلق نظير كما قال الإمام علي. عدا المحارب فيعالج بما هو له أهل. وفي حربه كذلك خلق إسلامي عظيم.
أكثر السيئات وزرا :
1 ـ الشرك بالله سبحانه سيما الشرك الحقيقي الأعظم والشرك ليس صورة بل خلجة قلب ولك أن تمتحن نفسك بنفسك فإذا ذكر الله فوجل قلبك فأنت على خير كبير وإذا وجل لذكر غيره فليس بينك وبين الشرك في الحقيقة مثقال ذرة إلا الخوف الغريزي فهو يصيب الأنبياء والمرسلين ” فأوجس في نفسه خيفة موسى “ّ.
2 ـ الكبائر وهي كل ما ورد في القرآن الكريم مشفوعا في فاصلة الآية بوعيد في الدنيا أو الآخرة أو بحد في الدنيا أو بفاصلة غضب أو لعن أو بفاصلة عزة وقوة أو بفاصلة علم وخبرة. لك أن تحصي نفسك ذلك بنفسك أن تقول سمعت من يقول كذا وكذا. فعلت هذا بنفسي وألفيت أنها زهاء التسعين ثلثاها تخص الدولة وحكامها والثلث الأخير يخص كل واحد منا تقريبا مع أختلاف درجات المسؤولية. الكبائر صنفان كبيران : جرائم في حق الله وهي جرائم الشرك فحسب أو جرائم في حق الإنسان وهي كل الكبائر الأخرى وجرائم أخرى في حق النفس حرمانا من الزكاة والطهر ولكنها محدودة العدد. من سجد لله وحده ووقي ظلم الناس كل الناس في أنفسهم وأموالهم وأعراضهم فقد وقي الكبائر وظفر بالوعد الأعظم : إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم
أي حسنة أعظم سعرا في زماننا وأي سيئة أثقل وزرا :
1 ـ أكثر الحسنات اليوم أجرا بعد الجذع المشترك إيمانا وعبادة وخلقا هي المساهمة في توحيد صف الأمة مهما بدا ذلك بعيدا لأنك مسؤول عن العمل وليس عن النتيجة. كلام يبدو في ظاهر سهل ويسير ولكنه ثقيل في العمل وهو في الميزان أثقل.
2 ـ كسب العلوم والمعارف الدينية والكونية التي تؤهل صاحبها للإرتقاء إلى أفضل مقامين ينشدهما عليه الصلاة والسلام : العدل والراحلة. ومن جهة أخرى ليتأهل صاحبها لفتح مجالات للحوار مع الناس إبتغاء هدايتهم ودعوتهم.
3 ـ أكثر السيئات وزرا وسعرا يوم القيامة هي دون ريب وبعد الشرك بالله سبحانه هي العدوان على حقوق الإنسان ـ كل إنسان ما لم يكن محاربا ـ سواء كان عدوانا بدنيا أو معنويا أو ماليا أو دينيا.
والله أعلم