الفصل الرابع عشر : الجهاد يسيل لعاب الشباب المسلم بمثل ما يسيل لعاب العدو.
الجهاد ذروة سنام الإسلام :
الإسلام مركب هندسي هو الجمال تنظيما والكمال ترتيبا والجلال هيبة. كيف لا ومنزله وصف نفسه بأنه جميل يحب الجمال. قال فيه نبيه عليه الصلاة والسلام أنه ذروة سنام الإسلام ولا يصل المرء إلى الذروة إلا بعد المرور بمراحل قبل ذلك. هو ذروة ووجه الشبه أن البعير يختزن قوته في ذروته فيصبر على الطعام والشراب أياما طويلة وأسابيع. هو ذروة ووجه الشبه النتوء البارز. هو ذروة لأنه باق بقاء الإسلام إذ قال عليه الصلاة والسلام : الجهاد ماض إلى يوم القيامة.
الجهاد والقتال والتمييز الضروري :
المؤمن مجاهد أو لا يكون إذ خلقنا لغرض واحد لا ثاني له وهو غرض الإبتلاء والإبتلاء يحيل على الجهد وفي الجهد بعض العنت والشق . نظن أن الجهاد في سبيل الله بالنفس لا يكون إلا بالطريق التقليدية القديمة أي حضور رجل بسلاحه في ساحة وغى. هذا التصور الطفولي لا ينسجم مع الإسلام إذ أن الله سبحانه تعهد بإختبار كل مخلوق في الحياة هل يجاهد أم يقعد. الجهاد في سبيل الله بالنفس يعني كل مؤمن وكل مؤمنة وهو بذل الجهد البدني والنفسي لأجل إقامة الحد الذي يليه من الدين وبذلك يكون كل مؤمن مجاهدا في سبيل الله بنفسه ومثله كل مؤمنة أما حصر الجهاد في سبيل الله بالنفس في الصورة النمطية القديمة فذلك يعني أن الجهاد منسوخ وأن الأولين حباهم الله به وحرم الآخرين منه. مثل ذلك قوله : جاهد الكافرين والمنافقين .. هل جاهد عليه الصلاة والسلام المنافقين بنفسه أي ببدنه؟ طبعا لا. هل عصى ربه في هذا؟ طبعا لا. ما هو المخرج من هذه الورطة إذن؟ المخرج هو أن الجهاد بالنفس في سبيل الله ـ عدا الجهاد بالمال ـ هو بذل أي جهد بدني أو نفسي أو فكري لأجل طاعة الله سبحانه وإقامة دينه بحسب ما تيسر للمرء بما هو مشروع ومناسب.
مثله الخلط الشنيع الذي نأتيه بين الجهاد والقتال. ولو كانا شيئا واحدا لما إحتاج النظم القرآني إلى تسمية هذا جهادا والآخر قتالا. لا علاقة بين الأمرين أصلا ولست أقول أن القتال نوع من أنواع الجهاد. الجهاد وجبة يومية يحتسيها كل مؤمن وكل مؤمنة. أما القتال فلا يكون أوّلا إلا بعد قتل ولذلك سمي قتالا ولم يسم قتلا. ولا يكون ثانيا إلا مع عدو ولو كان مسلما إذ العداوة الكبرى في نظر الإسلام هي عداوة الحريات إذ بعداوة الحريات يقع العدوان على الدين بالضرورة. ولذلك قال سبحانه في الجهاد : والذين جاهدوا فينا .. أي جاهدوا أنفسهم. ولعل إبن القيم هو خير من قسم الجهاد فليراجع لمن شاء.
أصل الجهاد الثابت هو جهاد بالقرآن الكريم :
لكل شيء أصل. أصل الجهاد هو قوله : وجاهدهم به جهادا كبيرا. أي جاهد يا محمد المشركين به أي بالقرآن الكريم وعندما تفعل ذلك يكون جهادك جهادا كبيرا. أي أن الجهاد لا يكون إلا جهادا فكريا معنويا ثقافيا مدنيا سلميا إذ لا يقول عاقل أن الجهاد بالقرآن الكريم هو جمع المصاحف وقذف الكفار بذلك أو سحرهم به. وأن أفضل عمل بعد الجذع العام المشترك بين المؤمنين هو الجهاد ـ وقد ورد هذا في الحديث الصحيح لمن يسأل عن أفضل العمل ـ وأن أفضل جهاد هو الجهاد الفكري الثقافي أي الجهاد بالكلمة التي لا تنضب صور الجهاد بها فنيا ومعرفيا وتنظيميا وسياسيا وأن ذلك الجهاد منضبط بالقرآن الكريم فهو أصله.
ضابطان آخران للجهاد : الإخلاص + الأحقية
مناط ذلك قوله في آخر الحج : وجاهدوا في الله حق جهاده. أي أن الجهاد ـ الذي هو وجبة المؤمن اليومية لا تنفك عنه إبتلاء ـ لا يكون إلا خالصا لله سبحانه وحده أو هو وثنية وصنمية وعبادة للذات أو تقديس لما لا يجب أن يقدس. كما لا يكون الجهاد الخالص نفسه إلا بحق أي من أهله وليس من الدخلاء عليه والمتطفلين وفي أهله أي المحاربين حربا مدنية. وسيأتي الكلام عن الحرب العسكرية. تحصل لدينا إذن أن للجهاد ضوابط ثلاثة حددها القرآن الكريم نفسه وهي :
ــ أن يكون الجهاد خالصا لله وحده.
ــ أن يكون بحق وليس بظلم فلا يجاهد إلا من حقه الجهاد ولا يجاهد إلا أهل الجهاد
ــ أن يكون بالقرآن الكريم أي بما حواه وهل حوى غير التصورات والمعالجات؟
ما محل السيف إذن والقوة العسكرية ؟
الحقيقة التي وقفت عليها بنفسي إحصاء هي أن محمدا عليه الصلاة والسلام وهو الموكل إليه تطبيق شريعة الجهاد لم يبدأ إنسيا واحدا بالقتال أبدا طرا مطلقا بل ظل طول حياته يدعو بالحكمة والموعظة الحسنة ويصبر على الظلم حتى إذا تمكن في المدينة لم يرد الصاع بمثله ولا بعشر معشار مثله بل ظل مرابطا في مدينته يستكشف ويستعلم ويستخبر بسراياه خشية أن يداهم غيلة فإذا هجم عليه المشركون في بدر دافع عن نفسه وفعل ذلك من بعد ذلك في كل الواقعات من أحد حتى الخنذق ومن فتح مكة السلمي حتى حنين ولم يبدأ مشركا بقتال أبدا إلا مقاوما دون نفسه ودون من إستأمنوه ومثل ذلك مع الجبهة الإسرائيلية التي عقد معها جميعا دستور المدينة فما قاتلهم حتى خانوه غيلة في بني النضير ثم في بني قريظة وبينهما خانوه في حرمة إمرأة كشفوا عورتها وفعل الأمر نفسه مع الجبهة الرومية إذ ظل يراقب حدوده فإذا شعر بخيانة منهم سار إليهم إستباقا وما قاتل روميا إبتداء أبدا. بل ظل يلتزم السلم والأمن ويحاول أن يفكك الأحلاف بالمال ـ ثلث الميزانية مثلا لغطفان في الخندق ـ ويبعث بالسفراء محملين بالكتب المختومة لا يدعوهم سوى إلى حقه في بث دعوته بين شعوبهم سلميا فلا يكره أحدا على دينه ولا يحال دونه ودون كلمته وتلك شريعة بشرية معروفة لم يخترعها هو. كما إلتزم شرائع من قبله من مثل عدم قتل البرد أي الرسل إلخ .. ذلك أن الإسلام لا يحتاج لسيف ينشره أو لقوة تحمله عدا سيف الكلمة وقوة الحجة.
إلى جهاد العصر أيها الشباب :
الجهاد فريضة كل مؤمن ومؤمنة ووجبته اليومية لا تنفك عنه فلا يكون المؤمن إلا مجاهدا. أما القتال ـ وليس القتل ـ فلا يضطر إليه إلا دفاعا عن نفسه أو أرضه ووطنه وقومه أو المستضعفين من غيره إن إستطاع. ثورة الإتصالات اليوم نسخت جهاد الطلب أو الفتح بالتعبير القديم وأبقت على جهاد المقاومة فهو لا ينسخ إذ المقاومة غريزة سبقت الإسلام نفسه.
جهاد العصر هو الجهاد بالكلمة وللكلمة ما لا يمكن حصره أبدا من الصور إذ هي عنوان كل جهد يباشر كل حقل وبكل وسيلة عدا وسيلة القوة المادية فهي الكتابة وهي الخطابة وهي التصوير وهي الفنون وهي التنظيمات والأحزاب والجمعيات والمنظمات وهي الترجمات وهي الثورات وهي الإعتصامات والمعارضات والمقاطعات والتكتلات والإضرابات. إذا كان هدف جهاد الفتح أو الطلب هو التعريف بالإسلام وتبليغه للناس فإن الكلمة اليوم هي فارس ذلك الجهاد وذلك هو معنى أنها نسخت جهاد الفتح بصورته التقليدية المعروفة أي تجييش الجيوش وتسييرها إلى المكان الفلاني.
الإعلامي اليوم فضائيا أو إلكترونيا هو المجاهد في سبيل الله بنفسه وهو أفضل جهاد.
المجاهد بماله لتكون الكلمة بكل صورها آلة الجهاد الحديثة هو المجاهد في سبيل الله.
السياسي الذي يجاهد لتحرير الأوطان أو الإنسان هو المجاهد في سبيل الله.
طالب العلم ـ أي علم ينفع البشرية ـ هو المجاهد في سبيل الله. ومثله باث العلم إختراعا وإكتشافا ومنظرا. بناء الأسر على قواعد صحيحة جهاد في سبيل الله في زمن تصدعت فيه الروابط الإجتماعية وغزينا فيه من لدن الزواج المثلي وشذوذات أخرى.
فلنكن في ساحة جهاد تضمن لنا الغلبة وليس حقل تجارب أو إختراق :
من شروط القتال القديمة ألا يكون إلا من خلف أمير وهو كلام معقول ومقبول يعبر عن وحدة الصف إذ ليس كالفوضى عدوا للقتال. وضع الأمة اليوم بهستيرية التمزق التي تستفحل فيها ليس وضع قتال عدا في الأرض المحتلة وهو قتال مقاومة بل إن حكام الأمة اليوم هم أوّل من يتصدى للإسلام دحرا وتأخيرا ولذا تعفى الأمة بسبب إنعدام القيادة الواحدة من القتال إلا مقاومة وتظل تحبس نفسها وينذر شبابها أنفسهم على جهاد العصر أي في ساحة تضمن لنا الغلبة والتفوق أي جهاد الكلمة الذي خصه عليه الصلاة والسلام بالأفضلة المطلقة في قوله : أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر. وما عداها من الساحات إنما تسيل لعاب العدو ليجرب فيها أسلحته أو ليخترق فيها الصفوف ويجندها لأغراضه وما تنظيم ” داعش ” إلا خير دليل فضلا على أن الغلبة هنا له هو عدلا من الله سبحانه لأن العدو يقاتل بأسباب القتال أي العلم العسكري والتقدم الجوي وله فينا ومنا عيون ظاهرة هي عيون الدولة وعيون أخرى الله يعلمها ولا نعلمها.
والله أعلم