أم يوم علمتنا الصبر؟
علمتنا يا نبي الصابرين كيف نصبر ولم نصبر وعم نصبر ومتى نصبر؟ علمتنا فقه الصبر يا رسول الإنسان الصابر. علمتنا أن الحياة صبر أو لا تكون.
علمتنا الصبر يا سيد الصبارين عندما كنت تسجد لربك حول الكعبة وبين الأوثان فيجيء إليك الشقي ويلقي عليك سلا جزور كله دم وأخلاط فتظل ساجدا لا تنقطع عن ربك ولا تأبه بالسفهاء حتى تنزعه عنك بؤبؤ عينك فاطمة عليها الرحمة والرضوان.
علمتنا الصبر يا أمير الصابرين عندما يعضك الجوع بنابه الثخين وقد حيزت لك الدنيا بحذافير حذافيرها لو شئت ـ ولك الخمس منها والخمس كثير ـ فتدخل على زوجك وتسأل هل من أكل فتجاب بالنفي فتقول أنا صائم إذن. حيّر أمرك الناس يا نبي الناس. قال قائلهم : صام لأنه لم يجد ما يأكل وقال الآخر : صام والشمس في كبد السماء؟ ولا نقول نحن إلا أنك علمتنا عظائم الخلق الكريم كله في مشهد واحد : علمتنا خلق التواضع وعلمتنا خلق اليسر ونبذ التكلف والتصنع وعلمتنا خلق الصبر وعلمتنا خلق الزوج في بيته ومع زوجه. ذلك من دلائل نبوتك أنك تعلم الناس الخلق العظيم كله في مشهد واحد.
علمتنا الصبر يا حبيب الصبر عندما فقدت الولد ـ إبراهيم الذي لم يبلغ الحنث ـ فما ولولت وما يئست وما سخطت ولكن جمعت بين محمد الإنسان وبين محمد النبي المعلم إذ كنت إنسانا فطريا جبليا كامل الإنسانية فبكيت وذرفت عينك حرى الدمع على فلذة كبدك وبذا علمتنا كيف يكون الإنسان إنسانا لا صخرا. كما كنت محمدا النبي إذ علمتنا كيف نصبر صبرا لا ينافي حزن القلب ولا دمع العين ولا قولا بمثل قولك : وإنا عليك يا إبراهيم لمحزونون ولا نقول إلا ما يرضي ربنا … علمتنا ألا نكون بهائم ساخطين إذ قلت : ثتنان في أمتي هم بهما كفر : النياحة على الميت والطعن في الأنساب… علمتنا الصبر على المصيبة
علمتنا الصبر يا نقيب الأنبياء الصبارين الشكارين إذ روى عنك الأصحاب أنك كنت تقوم الليل حتى تتفطر قدماك الشريفتان دما ينبع. يرون ذلك فتأخذهم بك الرأفة قائلين : أنى وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ فتقول بلسان الصبار الشكار : أفلا أكون إذن عبدا شكورا؟
علمتنا أن الصبر والشكر وجهان لقيمة أخلاقية واحدة فلا يكون المرء صابرا حتى يكون شاكرا ولا يكون شاكرا حتى يكون صابرا وإلا فهو كذاب أفن ينبهر به السذج والتفه.
علمتنا الصبر يا نبي الصبر عندما يخنقك المشرك الجلف الغليظ حتى تحمر صفحة عنقك يطلب دينا له من بني هاشم فتقضي له بدينه المستحق وتقول معلما ومؤدبا : رحم الله إمرء سمحا إذا باع سمحا إذا إبتاع سمحا إذا قضى سمحا إذا إقتضى. إذ الصبر سماحة أو لا يكون.
علمتنا الصبر على الناس عندما يؤخذ بيدك أو مناجاة كما يفعل كثير منهم يظن كل واحد منهم كما يروون هم أنفسهم أنه الأدنى إليك لفرط عدلك بينهم في لينك وعطفك ورحمتك ورأفتك وسماحتك .. لله درك ورب محمد يا محمد .. لله درك والله.. هذه وحدها دوختني . كيف تكون مع الناس أجمعين هينا لينا صبارا شكارا حتى يظن كل واحد منهم أنه الأقرب إليك والأحب .. تصبر على أحاديثهم الطويلة وكثير منها فارغ لا قيمة له ولكن تشعره أنه صاحب قضية فتستمع له وفي رأسك ما لا يحصى من الهموم …
علمنا الكتاب الذي جئت به إلينا أن الصبر أربعة : صبر وتصبر ومصابرة وإصطبار. جمعت كل ذلك إليك في صدرك يا نبي الصبر. علمتنا أن الدنيا دار عمل لا جزاء فيها فلا بد أن تكون دار عمل وصبر وإلا إستحالت دار نزهة كما نريدها نحن فلا تستحيل لنا كذلك. علمتنا أن الصبر هو زينة الحياة فلا يدرك المرء ـ بغض النظر عن دينه ـ بغية إلا بالصبر.
يكون الصبر عملا فرديا في مشهد فردي كما يكون التصبر تفعيلا لذلك الصبر مرة من بعد مرة حتى يكون خلقا مخلقا في الفؤاد وسجية. كما تكون المصابرة عملا مزودجا بين الصابرين وتطويلا لنفس الصبر والتصبر في الحياة وفي كل مشهد وبذا ينقطع الصبر ويضعف التصبر ولكن المصابرة لا تنفد. أما الإصطبار فيكون زيادة على الصبر في ما يغشى المرء غشيانا لا ينفد في مثل الصلاة التي تتطلب إصطبارا لا صبرا فحسب ولا تصبرا وفي مثل الزوج التاركة للصلاة التي تتطلب مثل ذلك كذلك .,.
علمنا كتابك الذي جئت به إلينا من ربك يا محمد أن خير ثواب هو ثواب الصابرين إذ قرأنا فيه : إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب. ولأن الصبر أشق عبادة على الإنسان فإن أجره يخرج من الجدول المسعر المثمن الذي أمددت به الملائكة الذين يتولون حساب الأعمال. الصبر كالصوم من ثوابك أنت الخاص دون خضوع للجدول السعري الذي وضعته أنت بنفسك يا الله.
بقيت كلمة واحدة
إذا كنت قد تعلمت بالضرورة وفقه الحياة ألا ينال شيء أبدا طرا مطلقا إلا بالصبر فلا تكن أحمق زيادة عن اللزوم لتظن عجرفة وغرورا أن هداية الناس وإستقامتهم هي العمل الوحيد الذي يمكن أن يكون دون صبر منك عليهم.
إختبر نفسك فإن صبرت على الناس صبرا لا حدود له حتى تفنى أنت ولا يفنى هو فأنت هاد مهدي وإن ضقت بهم ذرعا ففررت أو سئمت أو عنفت أو أرهبت فلا صلة لك بحقل الدعوة والهداية والحوار والأصلح لك أن تلج حقلا آخر.
والله أعلم .