لا بدّ لنا من هذا السؤال : ما هي القطعيات؟ والطريق الممهّد إلى هذا السؤال هو : أي معايير معتمدة تحدّد بها القطعيات؟ ولا بدّ لنا كذلك من تفصيل ترتيبي في القطعيات
إختلاف العنوان هل يؤثر على المفهوم؟
جناحان لا مناص منهما : أولهما أن العبرة بالمقاصد لا بالمباني من جهة والثاني هو أن اللسان ليس ساعي بريد فحسب أو حمّال خطاب فحسب ولو كان ذلك كذلك لنزل القرآن الكريم بأي لسان ولظلت ترجماته تسمى قرآنا وتأخذ أحكام القرآن وهذا معلوم عند المهتمين باللسانيات عموما وباللسان العربي بصفة خاصة. لا بد من الجمع بين الجناحين فلا مشاحة في المصطلح ولكن المصطلح القرآني أولى لأنه لا يحمل الخطاب المنطوق فحسب ولكنه يحمل معه الشحنة الروحية. فيما نحن بصدده فإن القرآن الكريم سمّاه محكما والمحكم فيه ضربان : محكم مصدري إذ قال سبحانه ( كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير). ولكنه عاد في آخر التنزيل ـ سورة آل عمران ـ ليعطينا قيمة أخرى مضافة للإحكام فقال في أولها ( هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أمّ الكتاب وأخر متشابهات ). هما إذا إحكامان. إحكام ( مكي ) يقصد به تثبيت المصدرية القرآنية وهي معركة مكة في تلك الأيام. وإحكام ( مدني ) يقصد به تفصيل التشريع مستويات أن يلغى فيها بغير علم. هناك تفصيل في هذا ولكن محله محور قابل بإذنه سبحانه. ثم جاء التدوين الفقهي المتأخر فإستبدل الإحكام بالقطع أي قال أن هناك آيات قطعية وأخرى ظنية ومنهم من سمّاها صريحة أي في دلالتها. من حيث التسمية لا مجال في الطعن في أنه لا مشاحة في المصطلح وأن العبرة بالمعنى لا بالمبنى. ولكن عندما تثور الجدالات وتمور فإن الأيلولة إلى أصل العنوان عامل يساعد على تحرير المفهوم بمنطوقه الذي أنزل به. فهل يعني ذلك أن المحكم غير القطعي؟ في الأصل : لا. ولكن المحكم هو على وجه الحصر والقصر كل ما ورد وحيا ـ لا إجتهادا ـ وهو حاكم على ما سواه لأن صفة الإحكام تستولي على صفتي القوة التي بها يكون الحكم والحكمة التي بها يكون العدل ولذلك سمّى نفسه سبحانه حكيما وهي تفيد أنه حاكم بقهره وقوته وهو في الآن نفسه حكيم بعلمه وخبرته وعدله وغير ذلك. الإحكام في القرآن الكريم من الحكم والحكمة معا وذلك لأن القرآن الكريم يبيّن بعضه بعضا فإن لم يكن ذلك كذلك وقعنا في التناقض مرات ومرات تربو عن المئين قطعا. الآيات المحكمات إذن هي النصوص القرآنية التي تجمع بين قوة الحكم وعدل الحكم وهي كذلك لوفائها لأمرين هما : الفطرة البشرية التي جاءت الشريعة تلبيها بما يليق بالإنسانية لا بالبشرية فحسب والسنن المبثوثة في الكون والخلق. وأي تشريع ـ ولو أرضي إفتراضا عقليا فحسب ـ يكون أحكم قوة ونفاذا وعدلا بقدر وفائه للإنسان ـ وليس لجانبه البشري فحسب ـ وللقوانين الحاكمة التي يشعر بها كل إنسان دون حاجة إلى بيان. هل يتوفر هذا في القطعي أو الصريح بالتعبير الفقهي التراثي؟ لا يتوفر بالوجه الذي يتوفر في الإحكام وإنما جاءت هذه التعبيرات في ظل الحرب المستعرة في العقود الأخيرة ـ وربما القرون ـ بين الفريق المنبهر بالعلمنة والفريق الإسلامي
معايير الإحكام في الشريعة
لذلك سأستخدم مصطلح الإحكام والتشابه وليس القطع والظن أو الصراحة وعدم الصراحة لسبب آخر مهم عنوانه أن الإحكام لا يقطع الصلة بينه وبين التشابه كما يفعل القطع بالظن ولو عملا إستقر في الأذهان وليست تلك جريرة الذين وضعوا المصطلحات الجديدة. ومن الأساليب العلمية والتربوية معا عند إختلاط الجدالات أن تقول كما قال عليه الصلاة والسلام في حادثة ما : كيف وقد قيل؟ أي إذا شاعت القالة في الناس شاع الإختلاط وعندها لا بد من العودة إلى الجذر المصطلحي الأوّل فهو كفيل بالتصحيح
المحكمات أمّ الكتاب
للكتاب أمّان : أمّ عليا هي قوله ( وإنه في أمّ الكتاب لدينا لعلي حكيم). وهو الكتاب المحفوظ هنا الذي فيه القرآن الكريم. وأم دنيا وهي قوله السابق سبحانه في أوّل آل عمران إذ أخبر أن محكمات الكتاب هنّ أمّ الكتاب. ولم يحظ شيء عداها بهذه الصفة العليا. أمّ القرآن الكريم هي تلك الأيات المحكمات الجامعة بين الحكمة والحكم معا فهي قاهرة فكرا فلا يؤتى بمثلها وهي مقبولة بإعتدالها بين الناس لما توفره من عدل وقسط وغير ذلك. هي أمّ الكتاب أي قلبه الذي يضخ الدماء إلى بقية الأعضاء فتكفل الحياة. فمن فارق أمّ الكتاب أي محكماته فقد فارق أمه الروحية وأصله الفكري وهو ساقط لا محالة مهما نجم وعلا. القارئ الإيجابي يطرح على نفسه هذا السؤال الصحيح العظيم بلا تردد : ما هي هذه الآيات المحكمات التي هي أمّ الكتاب. إذ من تشبث بها هدي ومن ضل عنها ضلّ
المعايير اللفظية للإحكام
أوّلا : الأسماء سواء كانت أعلاما أو رمزية من مثل ( محمد وزيد وعيسى ) أو ( جبل وكتاب وقمر ) وما شابه ذلك
ثانيا : الأعداد وكسورها من مثل ( إله واحد وعشرة أيام والربع والثمن ) وما شابه ذلك
ثالثا : الأزمنة من مثل ( رمضان والجمعة ) وما شابه ذلك
رابعا : الأمكنة والجهات من مثل مكة والمدينة والمسجد الأقصى ومصر وما شابه ذلك
خامسا : الهيئات من مثل الركوع والسجود والقيام وما شابه ذلك
سادسا : الأقوال المقصودة لذاتها من مثل سورة الفاتحة في الصلاة أو الأذكار في الركوع والسجود وما شابه ذلك
المعايير اللفظية للإحكام لا خلاف عليها أبدا البتة لأنها أمّ اللسان العربي وما ورد من معايير متعلقة بالأسماء والأزمنة والأمكنة
والهيئات والأقوال والأعداد فهو قطعي صريح بلا جدال إذ لا يثور حولها أي سؤال على إمتداد الزمان والمكان ولا تخضع لأي تأويل لأنها مسلمات بدهيات إستقرت في العقل بعد تداول الخطاب بها بين الناس
المعايير الشرعية الوضعية للإحكام
أوّلا : ما ورد به التشديد صريحا والنكير على ضده براحا من مثل التوحيد الإلهي وما سمّيت بعد ذلك في التدوين أركان الإيمان وليس فروعه ومن مثل مباني الإسلام الخمسة بالتعبير النبوي ومن مثل كثير من أبنية الأسرة مما ورد محرّما بأي صيغة من صيغ التحريم كالأجتناب والنهي وعدم الإذن بالحلّ وغير ذلك مما لا يحصى هنا وهو معلوم مسطور في الكتاب ومن مثل كثير من المبادئ العامة التي سمّيت من بعد ذلك في التدوين كليات أو أدلة جزئية أو كلية أو عامة كلزوم الشورى والعدل والقسط والإعتصام بالله وبالجماعة أي جماعة الأمة وكرامة الإنسان وما نسبه إلى نفسه بالأمر وبلحم الأمر وشحمه كقوله ( إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها ) وما شابه ذلك
ثانيا : ما ورد على صورة كبيرة وهي لغة قرآنية وآيتها محكمة في سورة النساء ورغم الإختلاف في الكبيرة أي في معيارها فإن الكبيرة على وجه التحقيق هي كل معصية ورد فيها وعيد بأي صورة من صور العذاب في الآخرة ( الردة الفردية السلمية مثلا ) أو ورد فيها عذاب ـ أي عقاب ـ على الأمة بطريق هيئتها التمثيلية إيقاعه على الجاني ( وهي التي سمّيت في التدوين حدودا كحد السرقة والزنى والحرابة والقذف ) . وما لم يرد فيه شيء من وعيد لاحق أو عقاب حاضر ـ لا قصاصا ولا حدا ـ فالأجدر ألا يعد كبيرة وهنا مساحة معروفة فيها فاصلات مغلظة مشددة ترد بصيغة التهديد من مثل ذكر أنه عليم خبير مثلا سبحانه أو ما إصطلح عليه في التدوين والعمل تعزيرا سيما ممن توسع فيه خارج دائرة شرب الخمر مثلا وهي دائرة متاح إلحاقها بالكبيرة للمتوسعين ومتاح إرجاعها إلى السيئة ـ الصغيرة بالتعبير التدويني ـ للمتشددين. ولكن الشريعة هنا متشوفة إلى التشدد أي التضييق في إيقاع العقوبات في الدنيا والآخرة معا ولكن تظل مساحة خلافية على كل حال
ثالثا : ما تكون عموم البلوى به ـ بحسب التعبير التدويني القديم ـ أكبر وهي المعبر عنها بالواجبات الكفائية التي تكون وظيفتها حفظ الأمة بتعبير المقاصدي الكبير الإمام إبن عاشور عليه الرحمة ولا حفظ للأمة ـ أي أمة ـ إلا بحفظ أصولها الفكرية ومحط إجتماعها العمراني إذ لا عمران إلا بإشتراك ولذلك برزت العنصريات القومية وكانت دوما بارزة في الحقيقة بسبب أنها الإنتماء الثاني مباشرة بعد غلبة الإنتماء الديني الذي لا يفوقه إنتماء شعورا قبل أن يكون تشريعا. ذلك أن النيل من حق الأمة ـ الذي سمّي في التدوين حق الله وفيه حديث صحيح كذلك بهذا التعبير نفسه ـ أعظم أثر على الإنسان كله من أثره على الإنسان الفرد والحقيقة أن من يقرأ القرآن الكريم مرة واحدة وبتعجل إن شاء يدرك بيسر أن الخطاب منصب بشدة على حق الناس أكثر من إنصبابه على حق الفرد ولكنه يشدد في الآن نفسه على تزكية الإنسان الفرد لنفسه بحسبانه عضوا في الجماعة الإنسانية الواسعة ولذلك لم يرد الخطاب ولو مرة واحدة بصيغة الإفراد إلا جنسا أو مبنى يخصصه المعنى. الذين تروعهم العقوبات البدنية القاسية ـ وهي قاسية فعلا ـ كجريمة الحرابة والسرقة والزنى والقذف يقعون في حرج إذ يقصرون نظرهم على البعد الفردي فحسب ولو فقهوا أن الشريعة جاءت للجماعة البشرية وأن حق هذه مقدم على حق الفرد نفسه ولكن في تواصل لا إنفصام فيه لما روّعوا أو روّعوا أنفسهم
يتحصل لدينا إذن أن معايير الإحكام بالميزان الشرعي الوضعي ـ الوضعي أي الموضوع وقفا ـ تتلخص في حماية حق الإنسان بحسبانه إنسانا مركب التكوين ومزدوج الصناعة وليس بشرا فحسب وأن ذلك الحق تشدد فيها فكان فريضة أو واجبا لا يطاله التنازل إلا في حالات فردية محدودة ( كالدية مثلا بدلا عن القصاص ) وأنه حق جامع يبدأ من حقه في تزكية نفسه بدين ما ولذلك جاءت الصلة فكرية وعملية بين الدين السماوي الثلاثي المعروف ويمرّ بحقه في عدم إرهاق نفسه بما لا يطيق وينتهي عند حق الإنسان الآخر المختلف مهما كان الإختلاف شاسعا واسعا بعيدا ليكون الولاء للإنسان المكرم بالنفخة الإلهية هو الولاء الذي لا يوطؤ . وجاءت تلك المعايير الشرعية الوضعية لحماية الإنسان من نفسه أوّلا حتى يقوم برسالة العمارة كما جاءت مصونة بالمعايير اللفظية المعروفة بين الناس مما أشير أليه آنفا
يمكن لك إن شئت التعبير عنها بما هو معروف في التدوين أي : الحقل العقدي الفكري التصوري حقا لله سبحانه وحقا للإنسان نفسه أن تسترقه الآلهة والأرباب والحقل التعبدي في أصوله الأخلاقية ومبانيه العملية والحقل الأسري بناء ومعالجة وميراثا والحقل الجماعي الذي نظم بكليات عامة. يمكن ذلك دون ريب ولكنه تقسيم مدرسي يصلح للأطفال وليس لمن يستعيد الصورة الجامعة الموضوعية المقاصدية لدينه ورسالته
وإلى لقاء قريب بحوله سبحانه في الجزء الثالث أستودعك قراءة نقدية سداها العلم ولحمتها الحكمة
الهادي بريك ـ ألمانيا
brikhedi@yahoo.de