نحو فقه إقتصادي إنتقالي يستوعب التحديات الجديدة
( المشهد الربوي نموذجا)
مساهمتي في الملتقى الثقافي الخامس لجمعية خالد بوخوم ألمانيا
الإربعاء 26 ديمسبر 2018
الجزء الأول
خطة المساهمة
أوّلا : مقدمات ضرورية عامة
ثانيا : معطيات تمهيدية خصوصية
ثالثا : المشهد الربوي المعاصر
رابعا : خلاصات راجحة
مقدمات ضرورية عامة
أوّلا : لم تأت الشريعة الإسلامية بنظام مالي تفصيلي مثل فعلها في الحقل الأسري ويعزى ذلك إلى أنها إختارت إرساء تعليمات أخلاقية عامة وسنّ كليات تشريعية تضمن الثبات على الصراط المستقيم مبتغاها الأعظم وتفتح للناس سبل ترتيب حياتهم المالية أفرادا وأسرا وجماعات بحسب ما يتسنّى لهم تحت سقف تلك الضوابط العليا وبما ييسر لهم الحياة عمارة وعدلا وهو شأنها نفسه في الحقل السياسي وفي كل الشؤون العامة التي لا بدّ فيها من تكافل الناس. وترتب على ذلك أن يتولى العدول في الأمة إستنباط ما يحلّ من المعاملات وما يحرم وما تفرضه الضرورات والحاجات على أساس عملية علمية عمادها النص الثابت من الوحي قطعا من جهة وإعمال مقصده الذي لأجله نزل من جهة أخرى ورسم صورة لذلك المآل من جهة ثالثة
ثانيا: كما بنت الشريعة الإسلامية الحقل المالي ـ ومثله السياسي وما في حكمهما ـ على أساس التفاعل بين المصلحة والمفسدة أو بين مصلحة راجحة وأخرى مرجوحة ومثلها مفسدة. ذلك أن الحق المطلق الكامل في المعاملات المالية والسياسية عسير المنال إذ لا بدّ أن يختلط في هذه الحقول حق بباطل ومصلحة بمفسدة وخير بشر. كذلك شيّد الله كونه وخلقه إبتلاء وحكمة. ومن ذا كان الإجتهاد لتحرير ما أمكن من الحق والخير والمصلحة في كل معاملة معقولة المعنى مهمة الأمة إستنباطا من أهل العلم فيها ولعل خير آية تفيدنا هذا المعنى الإستصلاحي هو قوله سبحانه في سورة البقرة : يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما(1). أنظر الهامش
ثالثا : تواضعت كلمة الباحثين المعاصرين على أن الضمور الإجتهادي حالة عامة طبعت حقلنا السياسي والمالي بصفة خاصة والحقل الإجتماعي العام بصفة عامة إذ تورمت الحقول العقدية ومثلها التعبدية في إثر الإنقلاب الأموي فيما سمّي عام الجماعة أي 40 هجرية ضد الخلافة الراشدة وسياستها العامة للدولة والأمة وقد شهد لها الحديث النبوي ( عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين).(2). وذلك بأثر من عزوف الفقهاء ( ومنهم صحابة مثل إبن عباس ) عن مقاومة ذلك الإنقلاب على الشرعية الشورية وخاصة من خلال مخرجات المواجهات بين آخرين منهم وبين الدولة الأموية والعباسية ( عبد الله إبن الزبير والحسين إبن علي وغيرهما ) وتفرغ أكثر الفقهاء إلى حفظ المجتمع الإسلامي دون التعرض للفقه السياسي والمالي معالجات واقعية معاصرة. وقد أحسن أحدهم إذ عبر عن ذلك تعبيرا وفيّا قال فيه أنهم رعوا السياسة الشرعية ولكنهم لم يرعوا الشرعية السياسية لأسباب سياسية معروفة. والحصيلة هي ضمور شائن في مدونتنا الفقهية ماليا وسياسيا ودستوريا إذ لم تعرف الأمة بشيء من التجوز مؤلفا ماليا على إمتداد قرون طويلة عدا كتاب الخراج لأحد صاحبي أبي حنيفة وهو أبويوسف. ذلك الضمور الشائن خلف إنعكاسات سيئة ذهب بعضها إلى حد إعتبار أن المسائل السياسية والمالية وغيرها من الشأن العام ليست من أولويات الإسلام بل أثمر ذلك متكافلا مع معطيات أخرى ضربا من العلمانية سواء مسلكا عمليا بأثر من الجهل أو بفرض رسمي حكومي بأثر من التبعية للآخر الغربي. ومن ذلك كذلك أن مدونتنا التاريخية في هذه الحقول لم تعد تسعفنا في كثير من القضايا المالية والمسائل السياسية بسبب تطورات كبيرة وكثيرة فرضتها العقود الأخيرة ولعل العولمة آخر عنوان لتلك التطورات ومن ذا ثمرة لضمور شائن وعدم إسعافية من لدن مدونتنا وتبدل صور التبايع بكل معانيه تبدلا كبيرا فإن من أبرز صور الجهاد في سبيل الله اليوم هو الإجتهاد الفكري من أهله وفي محله الضامر لإنتاج فقه مالي يستوعب التحديات الجديدة منطلقا من شريعة إسلامية واضحة المعالم في هذا الصدد ومراعية للضرورات والحاجات والطارئات
رابعا : شرعية الإجتهاد وفريضة التجديد أمران راسخان في الشريعة الإسلامية إما بالقوة بتعبير الفلاسفة إذ أن المعنى الأوّل لسياسة الشريعة لمثل هذه الحقول بآليات الكليات العامة فحسب دون التفصيل هو الدعوة إلى التفصيل. أو بالفعل إذ لم يتردد عدول الأمة في مباشرة الإجتهاد طلبا للأجرين أصالة ولا في معانقة التجديد الذي هو إرادة إلهية أن يبعث لهذه الأمة من يجدد لها دينها على رأس كل مائة عام.(3). من الأمثلة على ذلك في الحقل السياسي تبني الديمقراطية توسلا إلى مقصد التشاور والتراضي وتحديد مدة الحكم بسنوات معلومات والفصل بين السلط لضمان إستقلال القضاء ومن الأمثلة على ذلك في الحقل الإجتماعي إستصحاب شرعية عقد الزواج عندما تسلم الزوجة وهي في عصمة زوج غير مسلم عملا بالقاعدة الأصولية الشهيرة ( يغفر في الإنتهاء ما لا يغفر في الإبتداء ) والتسوية في دية الإنسان بقطع النظر عن جنسه ودينه وقصر عقوبة القتل أو القتال على معنى الحرابة وليس الردة الفردية الصامتة أو شبه الصامتة التي لا تسيء إلى الأمة ومقدساتها ومن ذلك كذلك إعتبار الإجزاء المادي في الأضحية وليس السنّ فحسب. وبمثل ذلك التمشي الإجتهادي التجديدي من أهله وفي محاله الضامرة تنسحب المراجعات المعاصرة المطلوبة على الحقل المالي. ولك أن تراجع أسباب تلك المراجعات الفقهية وغيرها في أعمال المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث سيما في مجلته العلمية الموسمية الصادرة بعد كل إجتماع دوري له أو في الكتاب المتضمن لتلك القرارات والفتاوى
معطيات تمهيدية خصوصية
أوّلا : من نحن وما هي رسالتنا وما هي أكبر تحدياتنا وفي أي مرحلة نحن؟ تلك أسئلة إبتدائية ضرورية توسلا إلى تحرير وزننا ورسالتنا ومنهجنا إذ من عرف نفسه وزمانه عرف منهج عمله. نحن أقلية مسلمة تعيش حياة المواطنة واجبات وحقوقا في أروبا خاصة والغرب عامة ومن هنا نشأ فينا الإنتماء المزدوج وليس هو بدعا إذ سرى هذا على بعض الصحابة من مثل جعفر وصحبه في الحبشة وعلى دويلة أبي بصير من بعد صلح الحديبية وغير ذلك من منعرجات التاريخ وضرورات الجغرافيا. ننتمي إلى الأمة الإسلامية تحت سقف إنتمائنا إلى البشرية جمعاء والإنسانية قاطبة إنتماء دينيا له واجباته وحقوقه عدا أن ظروف الإنقسام الشائن لسقف الأمة سيما منذ بدايات القرن الميلادي المنصرم صرّم كثيرا من حبال ذلك الإنتماء فيما يتصل بالحقوق والواجبات وفي الآن نفسه ننتمي إلى أوطاننا الحقيقية الفعلية بالمعنى الجغرافي ( ألمانيا مثلا ) ومحكومون بالمواثيق الدولية النافذة التي تخضع لها كل الدول والحكومات في الأرض كلها من جهة وبالدستور الألماني من جهة أخرى وبذا تكون علينا إلتزامات دينية لا سبيل إلا سبيل الوفاء لها وخاصة فيما يتعلق بصفة الحرمة الدينية عندما تكون قطعية محكمة لا خلاف عليها ولا جدال فيها وإلتزامات مثلها حيال وطننا ومجتمعنا في مقابل تمتعنا بحقوقنا مثلنا في ذلك مثل أي مواطن ألماني وفاء بفريضة الوفاء بالعقود موضوع سورة المائدة المدنية. هذا الوجود المسلم في أروبا المتحدة يمسح اليوم خمسا وعشرين مليون نسمة مسلمة وهو يشكل جزءا من عشرين جزءا من الوجود الأروبي أي 5 بالمائة. والجدير بالذكر أنه وجود مسلم متطور كمّا من سنة لأخرى لأسباب ثقافية معروفة بل مرشح لمثل ذلك بسبب الهجرات المتلاحقة وهو وجود مسلم تغلب عليه الصفة الشبابية في حين أن الإتجاه العام في أوربا هي حالة الشيخوخة بما يعلي من صيحات الفزع من لدن الصناديق الإجتماعية بمختلف المعالجات المعروفة وهو وجود مسلم يعيش اليوم أجياله الثالثة والرابعة بما يعني أن الجيل الأوّل والثاني فارق الحياة أو هو في الطريق السريع إلى ذلك وهو من جهة أخيرة ربما هنا لضيق المساحة فحسب يمتلأ بالكفاءات المغمورة والمقموعة بسبب الإلتزام الديني وخاصة في صنف النساء ويتخلص شيئا فشيئا من أثقال الإنتماء المزدوج فهو أروبي قح كابرا عن كابر
ثانيا : رسالتنا لئن إنطلقت مع الجيل الأول وما بعده قليلا من الحفاظ على الهوية الإسلامية أن تذوب في المسيحية أو العلمانية فإنها اليوم تتحصن بأقدار كبيرة. ظني أن رسالة الحفاظ على الهوية إستنفدت حظها وأكملت عملها في العموم الأغلب وأنه علينا أن نجترح لوجودنا المسلم الأوربي رسالة جديدة أظن أن خير عنوان لها هو المشاركة الملتزمة فلا يسعنا الإعتزال ولا هو ممكن أصلا في زمن العولمة الطاحنة ولا يسعنا الذوبان الذي لم يفلح أهله فيه وصمد دونه هذا الوجود صمودا كبيرا. إنما السبيل الثالث هو سبيل المشاركة الملتزمة بأمرين : الإلتزام بثوابت الدين ومحكماته وقطعياته حيلولة دون الذوبان والإلتزام بالوطن أداء للواجبات وتمتعا بالحقوق. تلك هي الرسالة العامة ولكن دونها تحديات كبيرة أظن أن أولها هي مواصلة العمل لرص الصف الواحد لهذا الوجود المسلم الأروبي ـ ولو على مستوى كل بلد أروبي إبتداء ـ مع الإحتفاظ قطعا بحق التنوع وقانون التعدد في كل إتجاه وبأي معنى ما خدم ذلك سقف صف واحد لا مناص منه تأهلا لخدمة رسالة المشاركة الملتزمة آنفة الذكر ذلك أن وجودنا المسلم في أروبا مازال صفه منصرما بولاءات جانبية كثيرة تحول دون عافيته المطلوبة. تحديات أخرى لا يخلو منه وجود ولا فائدة في ذكرها بل إن وجودنا قطع فيها مسافات معتبرة من مثل الوعي والعلم والمعرفة والمواطنة والهوية وغير ذلك. أظن أننا في المرحلة الأخيرة لمسيرة هذا الوجود وهي مرحلة الإلتحام التشاركي الملتزم أو مرحلة إستكمال شروط المواطنة الفعلية ولكن للخيار عوارضه ومصاعبه منها الإسلاموفوبيا وظهور الإرهاب والسلفية المزيفة ولكنها نتوءات سيطويها الزمان إن شاء الله
ثالثا : الحالة الأقلية حالة إنتقالية. معلوم بالضرورة أن الشريعة الإسلامية صرح عظيم يوفر المرافق المعيشية والحياتية للناس ولكنه في الآن نفسه يسلّح بناءه بما يسميه الألمان في تصميماتهم العمرانية ( مخارج الطوارئ ). وهو المعبر عنه في الشريعة نفسها بالضرورات التي ورد تأكيدها مرات في الكتاب العزيز وسنة النبي محمد عليه الصلاة والسلام. وهو الأمر الذي دوّن فيه الفقهاء بعنوان الضرورات والحاجات ورعاية القصورات وغير ذلك ولا تعنينا التوصيفات والأسماء ولكن يعنينا أن الشريعة مصممة على أساس رعاية مخارج الطوارئ عند نشوء الإستثناءات سواء على الفرد أو الأسرة أو الجماعة . وصنو هذا الإتجاه التشريعي هو ما يمكن أن نطلق عليه إسم رعاية الحالات الإنتقالية. والإتجاهان يتكافلان ليصمما في النهاية شريعة ترعى الحالات الطارئة فمن الصفة الإنتقالية التي رعتها الشريعة عندما كانت عنصر ضغط على المسلمين إباحة نكاح المتعة إعترافا بحق الإنسان وتيسيرا لأمانات الجهاد والهجرة وبث العلم وعمارة الأرض وغير ذلك. ومن الأمثلة كذلك أن بعض التشريعات ظلت معلقة لم تتنزل ترقب الحال الجديدة التي تضمن الترحيب بها والإلتزام وهو ما عرف في الفقه من بعد ذلك تدوينا بإسم توفر المحل أو المآل ومن يراجع السيرة السياسية للخلافة الفاروقية يدرك ذلك بجلاء. ومنها أن الربا لم تتنزل حرمته القطعية إلا قبيل إكمال الدين بمدة ومثله شرب الخمر و وجوب ستر بعض المواضع في جسم المرأة وهو المعروف بالإختمار أو الضرب على الجيوب ومن ذلك كذلك منع الرق إذ بدأت الشريعة بتجفيف منابعه دعوة إلى التحرير وتكفيرا به عن بعض المعاصي وبذلك ضمنت الشريعة مسارا تدريجيا رعى الحالات الإنتقالية التي لا يتعسف عليها المشرع الحكيم بل يوفر شروط التحول عنها. وفي المستوى الأول أي مستوى رعاية الضرورات والحاجات في معاملات الناس معلوم أنه عليه الصلاة والسلام أباح كثيرا من العقود التجارية التي أصلها محرم ولو حرمة وسائلية لا مقاصدية ومن ذلك أنه أباح بيع السلم ( حضور الثمن وغياب المثمون ) وظهر بعد ذلك ما يكون في إتجاهه المعاكس أي بيع الأجل وهو حضور المثمون وغياب الثمن كما أباح عقود الإجارة وهو مخالف للقياس لأنه عقد على معدوم وفيه غرر ومثله عقد الإستصناع الذي ضمّن الإمام علي في خلافته صنّاعه في حال التلف وهو كذلك خلاف الأولى وعقود الجعالة والحوالة. ومن ذلك عقد التورق الذي بحث في السنوات الأخيرة فأبيح ما لم يكن فيه تواطؤ بين طرفي العقد تحايلا على الربا ومنع الآخر ولكن فيهما خلاف معروف في مثل هذه التطبيقات لطالب العلم ومثل ذلك بيع العرايا وفيه خرص وغرر . المقصود من كل ذلك هو أن الشريعة ـ وهي راسخة ولذلك جاءت عامة غير مفصلة في الأعم الأغلب ـ تسلحت بمخارج الطوارئ تلبية لحاجات الناس التي لا يمكن لأي كان أن يستقرأ تطوراتها وما نزلت الشريعة إبتداء إلا لتحرير الإنسان من الحالات الضارة والأعراف الخانقة حتى يتمكن من أداء فرائض العمارة وإقامة العدل وكما رأينا فهي لم تقتصر على تلك المخارج بل راعت الحالات العامة للأمة تدرجا بها من حال أكثر عسرا إلى حال أدنى يسرا
رابعا : ويترتب على ذلك أن وضع وجودنا المسلم في اروبا بوصفه أقلية دينية تريد الإلتزام بدينها بمثل الإلتزام بوطنها الأروبي هو وضع إنتقالي ولا ضير على الصفة الإنتقالية أن تستهلك أجيالا وأجيالا كلما كان الأمر خارجا عن نطاق الإستطاعة. ذكر كل من الإمام القرضاوي والدكتور بن بية في دراستين لهما في المجلة العلمية للمجلس الأوربي للإفتاء والبحوث أن حالة الأقلية حالة تستوجب مراعاة الضرورة والحاجة وبمثل ذلك كتب الدكتور عبد الله الجديع ( المنتخب أخيرا رئيسا لذلك المجلس خلفا للإمام القرضاوي ) ما نصه في المجلة نفسها ( الواقع يتطلب رفع الحرج في المعاملات المالية في أبواب كثيرة يزاولها الناس في الغرب وغيره لكن لا على مصادمة القطعي وإنما إستثناء منه بسبب الحرج ). فالحاصل أن حال الأقلية حال ضرورة وحاجة
وإستثناء لا إستحلال
نظرة على بعض المعالجات النبوية لحالات الإستثناء
لا بدّ من التذكير بمبدإ ثابت عنوانه أن التوجيه القرآني إنما ورد عاما مطلقا مجملا قلّما ينحو في إتجاه التفصيل وذلك لضمان إستيعابه للزمان والمكان والحال والعرف. والشريعة فوق الزمان وفوق المكان في حين أن مهمة التفصيل ـ بيانا لمجمل أو تخصيصا لعام أو تقييدا لمطلق أو إجتراحا لآليات التنزيل أقيسة وإستصلاحات وإستحسانات ـ أنيطت بعهدة النبوة ( لتبيّن للناس ما نزّل إليهم ).(4) ومن يليه من العلماء إذ هم ( ورثة الأنبياء ).(5). هذا يحيلنا إلى مبحث مهم ولكن لا مجال له الآن وهو إستقلال السنة بالتشريع وهل هو إستقلال وظيفي خاص مقيد ومحدد أم هو غير ذلك أم لا إستقلال أصلا. كما يحيلنا إلى علم آخر إندرس فينا ويا للأسف الشديد وهو مظنة رسوخ في العلم وتبوإ في الفقه وهو فقه مقامات المشرع وآخر من كتب في ذلك تفصيلا يحتاج اليوم إلى إنفصال وظيفي كامل هو الإمام إبن عاشور في مقاصده ولكن لا مناص من كبت ذلك الآن لحاجة الإقتضاب. ودعنا مع بعض مشاهد النبوة وهي تنزل التعليمات على الأرض مراعية للضرورات والحاجات والطارئات
آلية الذريعة فتحا وسدّا
من مظاهر الضمور في مدونتنا الفقهية على ما فيها من مفاخر لا تحصى أنها في زمن غلبة التقليد هرعت إلى الذريعة سدّا بكثرة وهي ملاحظة ذكية لا تعدمها عند فقهاء العصر المجددين. و أكثر الحقول تضررا من ذلك السدّ الذي عادة ما يعمل بإسم تجنب الفتنة هو حقل المرأة والأسرة والحقل السياسي. الذريعة معناها السبيل والوسيلة وليست هي مصدرا من مصادر التشريع في الأصل ولكن يلجأ إليها إعمالا حيولة دون الوقوع في الحرام من مثل نهيه عليه الصلاة والسلام عن الجلوس فوق مائدة يدار فوقها الخمر أو فتحا لمصلحة لا تدرك إلا بإقتراف ما هو خلاف الأولى وتلك هي الحياة في منقلباتها فلا يتمحض خير إلا بشيء من الشر ولا يتمحض فساد إلا بشيء من الصلاح صبغة الله سبحانه. علّمنا عليه الصلاة السلام فتح الذريعة طلبا للخير حتى مع إقتراف بعض النقص وذلك في حادثة إقتراحه على الأنصار أن ترشى غطفان ( كان الصحابة يقولون كنا نرشى بعض الأعراب لأجل السؤال ) ثمنا على فكّ تحالفهم الآثم مع قريش ضد المدينة في واقعة الخندق بثلث تمر المدينة وهو القائل في موضع آخر في شأن الوصية ( والثلث كثير).(6). وبمثل ذلك علّمنا الفتح الذرائعي نفسه عندما سأله أهل ثقيف التنازل لهم عن أسراهم وما غنمه منهم وهو كثير وكبير فإستجاب من بعد توافق النقباء والعرفاء على ذلك وهو خلاف الأولى سيما أنه لم يعط الأنصار من ذلك شيئا مما أوقع في نفوسهم وجدا. فكانت ذريعة إلى الخير جاءت بها بإذن الله ثقيف مسلمة وبذلك علّمنا أنه بالمال والدنيا نشتري القيم وأن الإنسان تأليفا لقلبه ـ وهو سهم ثابت في الزكاة ـ أغلى من لعالة دنيا مهما كانت الحاجة إليها أو كانت تلك اللعاعة كثيرة. وأمثلة أخرى كثيرة من المعالجات النبوية فتحا للذريعة ولا ينفي هذا أنه سد الذريعة عندما يغلب على الظن أو يخشى أن تفضي إلى معصية ولكن الغالب عند من يستقرأ النظام التشريعي الإسلامي أنه في حق الأمة تفتح الذريعة لأن مصلحة الأمة أولى بالإعتبار من مصلحة الفرد. ومن ذلك أنك لا تجد اليوم ربما دولة مسلمة واحدة مهما كان إلتزام حكامها بالإسلام صادقا إلا وهي مكرهة على التعامل الربوي فهي تستقرض بالربا عرفا معروفا وإكراها مكرها في مثل هذه الحالة الإنتقالية الإستثنائية التي دامت عقودا وعقود أخرى مثلها في الإنتظار . المهم هو إعمال المبدإ الذرائعي إحسانا عندما يكون الفتح في حق الفرد أو حق الأمة ومثله عندما يكون السد في موضعه الحائل دون المعصية. سوى أن الذي وقع فيه الإتجاه العام لفقهنا الخالي هو تغليب السد على الفتح وهو مخالف للإتجاه النبوي وخاصة في حق الأمة
الأيسر وليس الأحوط
ومما وقع فيه فقهنا الخالي على ما فيه من حسنات مباركات جنوحه نحو الأحوط وتغليبه على الأيسر. و معلوم أن الشريعة مبنية على اليسر والبشر بناء قويما لا خلاف عليه. وليس اليسر كما يتوهم كثير من الشباب المتدين اليوم تفلت من عزمات الشريعة. إنما اليسر أصله ما ورد من الصحابة في حاله عليه الصلاة والسلام إذ أنه (ما خيّر بين أمرين إلا إختار أيسرهما ما لم يكن إثما) وفي رواية( أوسطهما).(7). ولا حرج إذ لا يكون الأوسط إلا يسرا . لنا هنا مثال رائع في توخي النبوة الأيسر لا الأحوط ولكن في مشهد تعبدي. والعبرة هنا أنه إذا كان الأيسر هو محط النبوة في العبادة فإنه يكون في المعاملات التي أصلها التهذيب وليس الإنشاء أعمل. ولا عبرة باختلاف الحقول هنا. من ذلك أنه عليه الصلاة والسلام قال لرجل أدركته الصلاة فأداها تيمما إذ أعوزه الماء ولم يعدها لما وجد الماء ولم يخرج وقتها ( أصبت السنة وأجزأتك صلاتك ) في حين أنه قال لصاحبه الذي أعادها متوضئا ( لك الأجر مرتين ).(8). ولا شك أن شهادة الشكر التي ضمخ بها هامة الرجل الأول أعلى قدرا ناهيك أنه أصاب السنة ولكن لعلو قدره الأخلاقي عليه الصلاة والسلام ولأنه يعلمنا المجاملة الطيبة المباركة في موضعها المناسب فإنه أثاب المجتهد الآخر بأن له الأجر مرتين
تطويق موضع الحرمة وتحديد تخومها
هذا ضرب آخر من ضروب الفقه الذي نتعلمه من المعلم الأول محمد عليه الصلاة والسلام إذ قبل هدية من إمرأة أخبرته أنه تصدّق عليها بها فقال لها ( هي لك صدقة ولنا نحن هدية).ذلك أنه لا يقبل الهدية عليه السلام بمقامه النبوي.(9). كما أخبر عنه صحابته أنه أكل صيد البر وهو محرم.(10). يفيد ذلك أن الحرام لا يتعلق بذمتين كما يقول الفقهاء في تدويناتهم وهو باب من أبواب اليسر في الشريعة ومثال على تطويق الشريعة لموضع الحرام فلا يسأل المرء عن المال إلا في آخر محطاته ولا شأن له بالمسار الذي إتخذه ذلك المال الذي قد تتداوله أيد خبيثة قبل أن يقر قراره في يدك أنت وبمثل ذلك لا يسأل المرء عن مسار ذلك المال إلا في أول محطة بعد خروجه من يده. ولو سئلت عنه لأصابك الحرج الشديد وما أحصيت مساره لا قبلا ولا بعدا
العفو عمّا سلف وليس إقامة محاكم تفتيش مالية
العفو عمّا سلف عنصر من عناصر الشريعة الإسلامية ورد ذكره مرات يسرا من الله الحكيم سبحانه. وتنزيلا لذلك لم يطلب عليه الصلاة والسلام ولو مرة واحدة من أي مسلم جديد أن يخرج من ماله الذي من المحتمل جدا أنه كان يختلط فيه الحرام بالحلال إختلاطا عجيبا خاصة بسبب الربا المنتشر في تلك الأيام إنتشارا عجيبا إذ هو عملة المال الأولى كما هو في أيامنا هذه طحنا من الموسرين للمعوزين. ولو فعل ذلك ربما تراجعت حركة الإسلام لما يصيب الناس من حرج إذ أن الإسلام عندها يعني الموت جوعا وهل يظل عايشا من يخرج من ماله كله؟ بل وأي إسلام هذا؟ هذا نقمة وليس رحمة . حتى مع عمه العباس لم يصرح عليه الصلاة والسلام بوضع رباه تحت قدميه إلا في خطبة حجة الوداع (11) وهو يودع الدنيا إلا أن يكون مالا معلوما لشخص معلوم غصبا أو غير ذلك خروجا عن تقاليد التجارة ولو بالترابي فهذا ربما يخرج عن قاعدة العفو عن السالف لأنه ممكن بل فيه فضيلة
إستثناء ما لا بد من إستثنائه لضمان الحياة وحفظ الكرامة
الأمثلة كثيرة منها قوله لأمرأة تشكوه شح زوجها الذي لا ينفق عليها ولا على ولدها وهو موسر ( خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف ).(12). الأصل أن ذلك خلاف الأولى ولكن أجيز إستثناء من القاعدة رعاية لأكبر الضرورات وأعلى الكليات أي حفظ الحياة البشرية بل في هذا المشهد حفظ لمؤسسة الأسرة وأولوية الطفولة. وعلى ذلك تقاس أمثلة كثيرة إذ يكفي أن نظفر بمعالجة نبوية صحيحة واحدة ولنا أن نقيس من بعد ذلك عليها في ضوء أسس الشريعة وضرورات الناس وحاجات المجتمع
التشارك المالي مع غير المسلمين
من أمثلة ذلك في المجتمع وسياسة الدولة عقد المغارسة الذي أبرمه عليه الصلاة والسلام مع يهود خيبر من بعد الإنتصار عليهم في الواقعة المعروفة بإسم جهتهم ولا شك في أن ما يفيء على المسلمين من ذلك أموال يختلط أصلها بالحرام إذ هم قوم عرفوا بالإرباء وعرف بهم. ومثل ذلك الدية التي أخذها من مال بني النضير جبرا لضرر قتيل كان عليه وعليهم أداء ديته لأوليائه ومن بعد ذلك وراثة القيم الثابتة (أي غير المنقولة) لبني النضير أنفسهم من بعد إجلائهم ومعلوم أن بعضها ذات أصول محرمة. ومن ذلك أكله طعام أهل الكتاب إذ أكل من النعجة المهدية من عجوز خيبرية وهي المعروفة بالنعجة المسمومة. ومعلوم أنه مات عليه الصلاة والسلام ودرعه مرهونة عند يهودي في شيء من شعير
المشهد الربوي المعاصر وكيف نعالجه
المقصد الأسنى من هذا المحور هو إثارة هذا السؤال : ما هو الربا المحرم قطعا مقطوعا والذي يتهدد صاحبه نذير الله في كتابه أنه في الآخرة من أصحاب النار خالدا فيها وأنه سبحانه في حالة حرب معه كما ورد في السياق نفسه من آخر سورة البــــــــــقرة؟(13). وما هي حالات الرخصة و الضرورة؟
ما هو الربا المحرم قطعا ولم حرم بتلك الصرامة؟
معلوم من الشريعة بالضرورة أن المحرم قطعا مقطوعا في المشهد الربوي ومتاح للعذاب الشديد في الآخرة هو الآكل والدليل على ذلك كاف و منه قوله سبحانه ( الذين يأكلون الربا )(14) ومنه قوله سبحانه ( وذروا ما بقي من الربا ).(15) ولا ريب في أن المدعو إلى الترك بقوله ( ذروا ) هو الآكل وليس المؤكل. ومنه قوله سبحانه ( لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة ).(16) ولا عبرة بوالغ يهرف بأن المحرم هنا هي الأضعاف المضاعفة وإلا لقلنا بإباحة ما لا يسكر من المسكر كثيره كالخمر. ومنه قوله سبحانه عن اليهود أصحاب بدعة الربا في الأرض ( وأخذهم الربا وقد نهوا عنه ).(17). تلك هي مواضع الأكل ومنها الأخذ. وموضع آخر قال فيه سبحانه ( فما آتيتم من ربا ليربو في أموال الناس فلا يربو عند الله ).(18). وأظن أن هذا الموضع بيان لمعنى الربا المحرم الوارد في مواقع الأكل الآنفة بما يفيد أن الربا المحرم قطعا مقطوعا هو أكله الذي ينتهي بزيادة مال المقرض وإنتقاص مال المستقرض ظلما وجورا . وتأكيدا لذلك ورد الحديث المتفق عليه في قوله عليه الصلاة والسلام ( إجتنبوا السبع الموبقات .. وعدّ منها ” أكل الربا ” ).(19). أي بتبيين نبوي إستخدم الكلمة القرآنية نفسها أي الأكل. وهناك إشكال أثير في حديث آخر لجابر في صحيح مسلم وفيه عقوبة اللعن ونعالجه في إبانه بعد هنيهة إن شاء الله.(20). وقبل كل ذلك وبعده فإن الأية المجملة في الربا هي قوله سبحانه في سياق البقرة آنف الذكر ( وأحل الله البيع وحرم الربا ).(21) هذه آية مجملة ذكر فيه الربا جملة لا تفصيلا بين آكل ومؤكل ومن شأن المجمل أن يشمل عناصر المشهد دون تمييز بين تحريم مقاصد وتحريم وسائل. وكما أنف ذكره فإن السنة وظيفتها تبيين ذلك الإجمال وإذ قد فعلت كما رأينا وسنرى فإن القرآن الكريم نفسه وفي السياق نفسه ( سياق سورة البقرة ) بيّن ذلك المجمل في الربا المحرم فذكر الأكل مرة بصيغة الماضي ( يأكلون ) ومرة بصيغة الأمر وموجها حصرا إلى الذين آمنوا بما يجعل الأمر أكثر إلتصاقا بأنه محل تشريع خاص بالذين آمنوا ( لا تأكلوا ) ومرة إخبارا عن اليهود فضلا عن مرة أخرى بصيغة الأمر بالترك ( ذروا ) وهو كذلك نداء موجه إلى الذين آمنوا خاصة. وأشفع ذلك كله بأن علمنا أن الربا المحرم المقصود هو المأكول الذي به يربو مال المقرض ويزيد في حين أن مال المستقرض يغيض وينقص. وفي آخر السياق علمنا علة ذلك التشديد في تحريم المشهد الربوي فقال ( فإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون ).(22). أي أنه حرص هنا على بيان المقصد من حرمة المشهد الربوي كله والتشديد على الأكل بصفة خاصة ذاكرا أنه مشهد ظالم وأن الأولى ألاّ يظلم الإنسان أخاه الإنسان وفاء لعرق الإنسانية قبل الوفاء لعرق الديانة وفي أكل ماله بالباطل ـ أي ترابيا ـ ظلم بيّن وألاّ يسلم نفسه للظلم في قوله ( ولا تظلمون ) أي ببنائها للمجهول والمعنى هو أن يحمي الإنسان نفسه من الذئاب التي تترصده لأكل ماله بالحرام وقهره بالإستعلاء إذ حتى في حالة أنه مؤكل لا آكل فإنه مشارك في المشهد الربوي الممقوت وهو مظلوم والشريعة تدفع الإنسان إلى الإنتصار على البغي ( والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصــــــــــــرون ).(23). الربا له صور كثيرة منها ما سماه بعضهم ربا الجاهلية وسماه بعضهم ربا النسيئة وهما سيّان. إنتصر الإمام إبن عاشور في( تحريره وتنويره ) إلى أن ربا الجاهلية ـ أي ربا النسيئة الذي يقع فيه إنساء الأجل المضروب بثمن زائد ـ هو الربا المقصود في القرآن الكريم كما إنتصر إبن رشيد الفقيه المالكي في (بدايته ونهايته) للأمر نفسه ومعهما الإمام شلتوت في( فتاويه) . فصل الإمام إبن عاشور في صنوف الربا فذكر ربا الجاهلية وهو المعني عنده هو بالقرآن الكريم وذكر ربا الفضل وقسمه إلى قسمين : فضل ناجز وفضل نسيئة وذكر صنفا آخر ربما أخذه من المالكية وهو التحايل على الربا ولعل أبرز صورة له هو بيع العينة وسنذكره بحوله سبحانه في إبانه في موضع قريب. بقية الذين كتبوا قديما وحديثا وبحسب إطلاعي قصروا الصور على ربا نسيئة وهو المقصود بربا الجاهلية عند إبن عاشور وربا فضل وذكروا الحيل طبعا ولا مشاحة في بعض الإختلافات الجزئية في هذا التقسيم إذ الحاصل منه وخاصة بحسب هؤلاء الأئمة الثلاثة ( إبن رشد وشلتوت وإبن عاشور ) أن الربا المحرم تحريما قطعيا ـ وهو المعني بالخلود في العذاب والتجهز لحرب من الله سبحانه ورسوله إذا لم تحصل قبل الممات توبة ـ هو ربا الجاهلية بتعبير إبن عاشور وربا النسيئة وليس الفضل بحسب تعبير الآخرين. والربوان سيّان هنا بما يعزل ربا الفضل بقسيمه الناجز والمنسإ وتظل قضية الحيل محل خلاف كما يعرف
طلبة العلم المطلعين على إختلافات الإجتهادات وأسبابها الأصولية وأصولها الإستدلالية
الربا صورة من صور أكل أموال الناس بالباطل
رغم أن المشهد الربوي حضر بقوة في القرآن وفي الحديث فإن الأصل الحاكم له هو ما عبر عنه القرآن الكريم مرتين بقوله إنه أكل لأموال الناس بالباطل وذلك مرة في سورة البقرة في قوله ( ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقا من أموال الناس بالإثم وأنتم تعلمون ).(24). ولا خلاف هنا أن المقصود به إنما هي الرشوة بالتعبير النبوي . ومرة في سورة النساء وذلك في معرض إنتهى به إلى تمييز الكبيرة عن السيئة بما يفيد أن الكبيرة المقصودة قطعا ودون أي إستقراء أو إجتهادا إنما هي أكل أموال الناس بالباطل إذ قال هناك مخاطبا الذين آمنوا على وجه الخصوص ( يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما ).(25). والتشديد هنا ظاهر إذ أن إيراد قتل النفس في هذا المعرض ودون الفاصلة لا يعني سوى أن أكل أموال الناس بالباطل قتل للنفس وهو قتل معنوي للآكل نفسه إذ أن من أكل مال أخيه الإنسان بالباطل سيئد أخاه وأدا معنويا أوّلا ثم سيئد هو نفسه من بعد ذلك فالنفس واحدة في بعدها الجمعي. ولمّا كان المشهد الربوي في الجاهلية رائجا رواج الرق وعنصرا في النسيج الإجتماعي ثابتا خصه بالتشديد وها هو المشهد الربوي نفسه يعود اليوم بقوة إذ لا وجود لقطعة أرض لا يعالجها الربا بسبب توازنات دولية مالية وسياسية منخرمة وتفرض مقايضاتها على الضعفاء. وذكر مشاهد أخرى تفصيلا لأكل أموال الناس بالباطل من مثل الغلول والغصب والسرقة والخديعة والغش والتطفيف والإحتكار والزور والكذب وما يفضي من قول أو كتابة أو إيماء إلى ذلك ولأجل ذلك كانت أطول آية تحمل موضوع التعامل المالي بين الناس ومثلها آية المائدة في الموضوع ذاته (26). المقصود هنا هو أن المحرم الأصلي الكلي الذي يحضن الفروع ـ ومنه الربا ـ هو أكل أموال الناس ـ كل الناس ـ بالباطل. إذ كلمة الناس عامة لا تخصص ومثلها كلمة الباطل مطلق لا يقيد. وإنما يذكر التشريع أمثلة سواء مما عمت به البلوى مثل الربا أو مما قد ينقدح في الأذهان فيرتاب فيه الناس. تلك هي فلسفة التشريع : تسطير المبدإ وحشد المفردات
وضع المؤكل
إذا تواضعنا بحسب ما تقدم على أن المشهد الربوي كله محرم إبتداء ولكن على أساس أن الربا المحرم لذاته والموعود بالنار والحرب هو ربا الجاهلية أو ربا النسيئة بتعبير الآخرين فإنه لا مناص من التواضع كذلك على أن الآكل هو المعني الأول بذلك الوعيد ذلك أنه لا يكره أحدا على أكل أموال الناس بالباطل شيء إلا شرها مغاليا في حين أن المكرهين على المؤاكلة كثر في القديم والحديث. وهنا لا بد من فتح حوار حول حديث مسلم وهو لجابر رضي الله عنه.(27). حوار فتحه الشيخ الدكتور عبد الله الجديع في أحد بحوثه في المجلة العلمية للمجلس الذي إنتخب أخيرا رئيسا له ومن خلاصته أن هناك في بعض روايات الحديث إدراجا (28). إذ ذكرت عبارة التسوية بين عناصر المشهد الربوي وأن المؤكل واحد منهم مثله مثل الشاهدين والكاتب يكون إثمهم جميعا ومن ثمّ عقابهم واحدا بالتساوي. ذلك من حيث المتن أي أن إعلان التساوي بينهم مدرج لا يصح . ومن حيث فقه الدراية كما يقولون فإن الحديث ما ينبغي له أن يسوي بين مؤكل مضطر وآكل شره. وهل هناك مؤكل يختار إعطاء شيء من ماله لمقرضه حرا مريدا؟ لا أظن. وهو خلاف الدلالة العقلية ولا عبرة بالشاذ إن وجد. فما ينبغي لفقه الحديث أن يسوي بين الآكل والمؤكل على طريقة القرآن الكريم على الأقل وهو الحاكم لا المحكوم والمتبوع لا التابع. ولكن ورد الحديث بذلك إما بغرض التنفير والتشديد والتفظيع والتكريه والتشنيع وتلك هي وظيفة النبوة سدا لذريعة شر مستطير مثل أكل أموال الناس بالباطل والترهيب وظيفة من وظائف النبوة. وإما بغرض آخر لم أعثر على من ذكره وهو أنه عليه الصلاة والسلام قد يكون فعل ذلك أي أوحى بالتسوية بينهما آكلا ومؤكلا بمقام الولاية السياسية والإدارية في تلك الأيام ومن معاني ذلك أنه يريد أن يبني رجالا متشوفين لمعالي الخلق الكريم وعليهم يشيد البناء الإسلامي وقد سمى هذا المقام الإمام إبن عاشور مقام التطلع إلى مكارم الأخلاق ومعالي الشمائل أو فيما معنى ما سماه. والمقامان هنا يردان : مقام الولاية فهو النبي الوالي في تلك الأيام ومقام بناء النفوس الكريمة العالية سيما أنه يريد أن يطمئن على صحابته من بعده وهو مطمئن أن محكم القرآن الكريم لا يشغب عليه بمثل ذلك وقد أفاض في التشديد على الآكل. كل ذلك والإعتبار قائم أن الحديث صحيح وهو في الدرجة الثالثة من سلم الصحة بحسب إبن الصلاح وغيره في مقدمته فلم يتفق عليه الإمامان درجة أولى من السلم ولم ينفرد به البخاري درجة ثانية من السلم وهو في الدرجة الثالثة منه إذ إنفرد به مسلم. فإذا ثبت يوما ما ضد ذلك فنكون في حلّ من إشكال يسير معالجته بمثل ما مرّ بنا أي عدم التسوية بين الآكل والمؤكل إلا إذا كان المؤكل عنصرا حرا مريدا في ذلك المشهد ولا إخاله وبغرض التنفير وسدّ أي ذريعة لهذا المشهد الظالم في الحياة الإجتماعية بين الناس ومؤذن بخلخلة الصف الإسلامي بل الإنساني
السنة وربا الفضل ناجزا أو نسيئة والتحايل على الربا
ذلك هو ما خلصت إليه في شأن المشهد الربوي في القرآن الكريم أي أن التشديد على ربا الجاهيلة أو النسيئة بحسب إختلاف التعبيرات وأن ذلك واقع على الآكل لا على بقية عناصر المشهد وخاصة المؤكل الذي ورد فيه الإشكال . الآن لا بد من السنة لفقه تبيينها الذي به كلفت. أورد الإمام إبن عاشور أحاديث ستة إعتبرها أصل المسألة في ربا الفضل أو التحايل على الربا. حديث لأبي سعيد الخذري وقد ذكر فيه عليه الصلاة والسلام الأصناف الستة المعروفة ( الذهب والفضة والبر والشعير والتمر والملح ). وقال ( يدا بيد فمن زاد أو إزداد فقد أربى).(29). الحديث في ربا الفضل قطعا ولكن هناك مشكلتان : أولاهما أن التفاضل بين الأشياء قضاء مقضي لا مناص منه ولذلك أشار عليه الصلاة والسلام على صحابي آخر بأن يبيع ما لديه ثم يشتري بثمنه ما يريد وليس له أن يستبدل بعضه ببعض دفعا لربا الفضل ذريعة إلى ربا النسيئة بل ذريعة إلى المقصد الذي لأجله شدد على حرمة الربا أي الظلم الواقع بين الناس. المشكلة الثانية هي أن تلك العناصر الستة تغير وضعها اليوم بنسبة كبيرة. بالنسبة للمشكلة الأولى أي التفاضل فإن المعالجة النبوية لم تعد اليوم ممكنة لأن السوق الرائجة اليوم أكثر إكتظاظا وإزدحاما وليس من شأن الناس إلإلتقاء في سوق واحدة حتى يقع تبادل يدا بيد. الوضع التجاري تغير في هذا الصدد تغيرا لا يكاد يخطر على بال حتى دون إعتبار طارئات جديدة من مثل المصفقات ( جمع مصفق أي بورصة ) والتجارة عن طريق الشبكة العنكبوتية وعن طريق المصارف والوكلاء حيث لا يرى تاجر بالجملة خاصة السلعة التي يتاجر بها رأي العين ولا يراها ربما حتى مستخدموه والأمور تصرف بوسائل التواصل المعاصرة وبالورقات المثبتة بأن العملية تمت وتطورات أخرى بعضها لا أعرفها وبعضها يحتاج إلى أسفار للحديث عنها. ومن ذا فإن حاجة الناس إقتضت اليوم إلى تقدير البضاعة المعروضة تقديرا صحيحا دون الحاجة إلى بيعها ومن بعد ذلك إشتراء البضاعة المنشودة مع أنه يتحمل الغرر اليسير في عرف الناس ولكن آلية تقدير البضائع هي المعمول بها وكل ذلك والناس اليوم لا يتعاملون بضاعة ببضاعة فلا تكاد اليوم تجد من يبيع برا ببر أو شعير بشعير إلا قليلا جدا. هذه هي المشكلة الأولى التي عالجتها حاجات الناس بالتقديرات وحاجة الناس أولى بالإعتبار حتى مع وجود الغرر اليسير كما عالج هو نفسه عليه الصلاة والسلام بيع السلم إذ أذن فيه في المدينة لما وجد الناس يتعاملون به ولهم به حاجة ولكن قيده كما هو معلوم بضبط الأجل والكيل والوزن سدا لذريعة الجور والظلم أي تحقيقا للمقصد الذي لأجله شدد في تحريم الربا. المشكلة الثانية هي أن تلك الأصناف الستة المذكورة لم يعد منها اليوم شيء تعاوضا بضاعة ببضاعة في أكثر أرجاء الأرض عدا النقدين أي الذهب والفضة وما يرمز لهما أي العملة. أرجح الأقوال وأنسبها هو أنه عليه الصلاة و السلام إنما عنى أسباب المعيشة التي لا بد منها في تلك الأيام فهي العملة ذهبا وفضة وهي المطعومات أي البر والشعير والملح والتمر. وعندما تتغير تلك المطعومات لتتقدم أخرى ضرورة فإنه لا مناص من تنفيذ هذه القاعدة الأصولية العظمى أي أن الحكم يدور مع علته وجودا وعدما. لنا اليوم مطعومات ضرورية أخرى لا بد من رعاية أسباب معيشة الناس فيها لأن المقصد النبوي هو تأمين المعيشة للناس وسد ذرائع القهر والظلم ولو حصرنا فقهنا في هذه المطعومات الستة فإننا نكون كمن لم يوجب الزكاة المفروضة ـ زكاة المال ـ على الأوراق النقدية أو على سنداتها الإعتبارية وهل يقول بهذا عاقل وهي مال متقوم بل هي أصل المال وسنده القيمي؟ وفي شأن الذهب بالذهب يدا بيد فإن التعامل اليوم يجري بالعملة التي تحمل قيمة ذلك الذهب ولا يكون بيع العملة اليوم إلا بغيرها كاليورو مثلا بالين الياباني أو الدولار بالدينار وغير ذلك. المقصود من كل ذلك هو أن المعاملات التجارية بين الناس تغيرت بصورة كبيرة جدا والأليق بنا أن نعتبر أن المقصد النبوي من هذا الحديث وما في مثله وحكمه من ربا الفضل إنما هو الحيلولة دون حصول الظلم والتظالم بين الناس وخاصة في معايشهم التي بها تتقوم حياتهم وتكون عمارتهم وأن ربا الفضل لا تسلم منه بضاعة ولا تعامل في العادة مهما كانت التقديرات صحيحة وهي في هذا العصر صحيحة إلى أبعد حدود الصحة الممكنة. كل ذلك حرصا على أن ربا النسيئة أو الجاهلية بتعبير إبن عاشور محفوظ حرمته ومحل إجتناب ولو تحايلا. أما في موضوع التحايل على ربا الجاهلية أو نسيئة بتعبير آخرين فإن في السنة حديثا صحيحا وهو للدارقطني وفيه أن إمرأة روت لعائشة أن زيدا في محصلة العملية التجارية إبتاع جارية إلى أجل بثمانمائة ثم باعها بستمائة ناجزة فأخبرتها بعدم جواز ذلك وهو الذي سمّي بيع العينة (30) وهي من صور التحايل على ربا الجاهلية أو ربا النسيئة وفيه حديث صحيح ( إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم أذناب البقر). (31). ولا ريب في أن هناك صورا للتحايل على الربا أي ربا الجاهلية أو النسيئة وليس ربا الفضل لأن ربا الفضل محرم لأجل غيره أي سدا للذريعة أو تحريم
وسائل كما عبر بذلك أحدهم وشأنه مخفف من ناحية ويسقط عند حاجة الناس أو الضرورة .