مقدمة تأطيرية عامة
الشريعة الإسلامية من حيث النظر هي نصوص محكمة حواها القرآن الكريم وتعهّد الله بحفظها أو سنّة قولية وعملية بيّنت ما أجمل من تلك النصوص تقييدا وتخصيصا. تلك هي الشريعة بمعناها الإسلامي وليس التراثي ( ثم جعلناك على شريعة من الأمر). وإنما إنحصرت الشريعة في العقود الأخيرة في الجانب العملي دون العقدي بغرض إدارة المعركة من لدن روّاد النهضة المعاصرين مع الوافد الغربي. الشريعة إذن ثابتة الورود قطعا وكل ما ندّ عن صفة الثبات فيها ـ حتى لو كان من السنة التي تغلب عليها الأحادية لا التواتر ـ فلا يعدّ شريعة عدا عند من يقول بظنية الشريعة في جزء منها والحقيقة أن الشريعة لو طالتها الصفة الظنية فإنها تعرّض نفسها للنيل منها. ولكن الشريعة من حيث العمل تشمل السنة العملية الصحيحة من جهة كما تشمل الإجماع الصحيح المتيقن سيما إجماع الصحابة الكرام ولذلك عدّ الإجماع مصدرا نقليا لا عقليا. ولا بدّ من التمييز بين الشريعة والفقه. إذ الشريعة قطعية ورودا أساسا أوّلا وبسبب إنفتاحها تخضع للإجتهاد في بيان الدلالة وذلك على أساس قويم عنوانه : ردّ الظني إلى القطعي وحاكمية القرآن على السنة والظاهر إلى النص والمتشابه إلى المحكم وغير ذلك مما تتوارد به الصياغات المختلفة وتلتقي عليه الدلالة الواحدة. الشريعة ليست في مستوى واحد من الدلالة على معيّناتها فمنها ما يتربع فوق عرش القطعية بما لا ينازع فيه عاقل وستأتي أمثلة على ذلك ومنها ما تكون دلالات عامة أو كلية أو موضوعية تتسع لما لا يحصى من جديدات الزمان والمكان والحال والعرف وغير ذلك من موجبات تغير الأحكام كما هو مقرر في واحد من أكبر القواعد الأصولية. أما الفقه فهو معالجة العقل الإنساني لتلك الشريعة سواء في دلالاتها الجزئية الخاصة أو الكلية أو العامة الموضوعية وكلّما توجّه العقل إلى أسفل الهرم التشريعي ضاق الإجتهاد إلا إجتهاد تعميق الفهم والكشف عن المقصد وغير ذلك من متطلبات عصرنا هذا وكلّما توخى الإتجاه المعاكس ألفى نفسه في ساحة واحدة مع أحرار البشرية إذ تجمعهم وحدة الفطرة وأصالة الجبلّة. الخلاصة أن الشريعة ثابتة في ورودها بالمقام الأول وخاضعة لضرب من الإجتهاد في تلك المستويات العليا لا الدنيا لعموم لفظها ولصمتها في أحيان كثيرة عن ذكر المقصد المرام وأن الفقه إجتهاد لا يلغى وتحفظ لأهله أقدارهم ولكن يستأنف متجددا لتلبية حاجات جديدة وضرورات جديدة وإصابة منافع جديدة ومصالح جديدة. ذكرت في بداية الفقرة أنها ـ أي الشريعة ـ نصوص محكمة والمقصود هنا هو الإحكام المصدري إذ ورد الإحكام في القرآن الكريم بمعنيي المصدرية ( كتاب فصلت آياته ثم أحكمت ) والدلالية ( منه آيات محكمات هنّ أمّ الكتاب ). وذلك هو المقصود بالإحكام هنا
تحرير المشكلة في إطارها المعاصر
هي مشكلة قديمة حملت في عصرنا عنوان العلاقة بين الوحي والعقل أو بين النص والإجتهاد أو بين الموروث والوافد وغير ذلك من التعبيرات التي تؤول إلى جذر واحد. هي مشكلة كل أمّة في التاريخ إذ تخصّ نفسها بنظرة في الحياة ومعالجة تحدياتها فتشغب عليها ـ إبتلاء غالبا ـ شاغبات النهم والجشع والحب الدفين في الإنسان أي حب الخير الذي ينجب حب الهيمنة وبسط النفوذ ومن ذا جاء الإحتلال بمختلف صوره العتيقة والحديثة وحاول اليونان التسلل إلى الثقافة الإسلامية في العهد العباسي وإنصباغ جزء من حضارتنا الإسلامية في تلك العهود كذلك باللون الساساني ( الحضارة الفارسية ). ولا ريب في أننا نعيش منذ قرون الإشكالية الفكرية ذاتها أي حدود الإحتفاظ وحدود التجاوز. إنما المشكلة الأعمق هي : هل أن هذا التبادل بين الموروث والوافد هو حاجة ذاتية أو هو وليد ضرورات داخلية ضاقت عنها أجهزتنا القيمية أم هو ثمرة ضياع قيمي وتيه حضاري وهزيمة ثقافية على عادة المغلوب مع غالبه كما قال إبن خلدون أي هروعه لتقليده أبدا؟ هي مشكلة إذن ذات وجهين : وجه تاريخي متعلق بقانون الإبتلاء وحركة الحياة المتأبية عن الأسن ووجه ذاتي قيمي
خارطة الشريعة
لا بد من رسم خارطة الشريعة الإسلامية بمعناها الإسلامي ذاته وليس بالمعنى التراثي إذ أن الشريعة تمثيلا هي مدينة ضاربة ذات مداخل رئيسة وأخرى فرعية وذات عواصم كبرى وصغرى وشارعات ونهوج وأزقة وهي مدينة محكومة ـ ككل مدينة ـ بضوابط وقوانين وأعراف إذ كما يحتاج الداخل لأول مرة إلى مدينة عريقة ضاربة إلى دليل جغرافي يحتاج الداخل إلى مدينة الشريعة إلى مثل ذلك عدا أن خارطة الشريعة لا تلفى مرسومة ولكن يعمل العقل على إستنباطها
الدليل الأوّل : الشريعة هي الوحي وليس سوى الوحي سواء من قرآن أو حديث وما زاد عن الوحي أو نسب إليه إحتمالا فهو فقه
الدليل الثاني : الشريعة فكرية هي الإيمان ومختلف الأفكار الكبرى المتفرعة عن مباني الإيمان التي سمّيت في العهد العباسي عقيدة وهي كذلك عملية وهي ثمرات ذلك الإيمان. عبّر عن ذلك الإمام شلتوت في كتابه العمدة : الإسلام عقيدة وشريعة. كلاهما شريعة حتى وهما يختلفان في المستوى التشريعي وطريقته ولزومه
الدليل الثالث : الشريعة تعبدية علّتها الإيمان بالغيب أو الطاعة بالغيب وسمّيت قديما تسمية لا تليق رغم صحتها أي أنها شريعة غير معقولة. أو موقوفة أي كأنّها وقف من صاحب الشريعة لا يوطؤ. وهي كذلك شريعة معللة مقصدة مفهومة معقولة تحمل غايات وأسرارا وحكما فلا ينصلح الإنسان إلا بحملها وفي رحمها عللها ولا ينصلح واقعه إلا بمثل ذلك كذلك
الدليل الرابع : الشريعة وبتعبيرها هي نفسها محكمة ومتشابهة معا ( أوّل سورة آل عمران ). وهو التعبير الذي تأوله بعض الفقهاء في الحديث وليس في القديم بقولهم أنها قطعية وظنية ولا عبرة بإختلاف المصطلح كلّما كان المدلول واحدا عليه تواضع
الدليل الخامس : الشريعة فردية شخصية عينية في جانب منها وهي كذلك وفي الآن نفسه عامة جماعية تكافلية تضامنية تعاونية كفائية بالمعنى القديم وفي رحم ذلك الإزدواج بين الفردية والجماعية ملاحظتان : أوّلهما هو أن العموم فيه مستويات كثيرة لا أرب لنا فيها الآن وهم المعبّر عنهم بأولي الأمر في كل أمر مخصوص. وثاني الملاحظتين هو أن هناك مساحة ثالثة وسطى تسمى في الفلسفة : شبه الشبه. أي فيها الفردي الشخصي وفيها الجماعي التكافلي وهي منطقة الأسرة. وبذلك يمكن بتجوز لا بدّ منه أن نقول أن الشريعة مساحات ثلاث كبرى : مساحة فردية خاصة ومساحة مشتركة ومساحة عامة
الدليل السادس : الشريعة عزائم ورخص وليس معنى ذلك أنها فرائض وسنن أو واجبات ومستحبات إذ أن ذلك خطأ يقع فيه الناس. والمستويان مختلفان. الشريعة لا تعني المستحب بمعناه الديني لأنها قانون بالتعبير المعاصر. المقصود بهذا الدليل هو إحتواء الشريعة على الأصول التكليفية فكرا ومسلكا ولكنها في الآن نفسه تشيّد صرحا تزوّده بمخارج الطوارئ وهي التي سمّتها هي نفسها الضرورات والحاجات ورعاية الإستثناءات من ضعف وقلّة وخوف وغير ذلك
الدليل السابع : الشريعة في مستوى منهج البيان مركّبة كذلك أي أنها تحوي الإخبار فكريا بما لا يتوصل إليه العقل مهما نبغ والإنشاء مسالك للتزكية الجامعة والإقرار لما طاب من أعراف الناس قبل نزولها. تلك مستويات ثلاثة . وهناك مستويان آخران متعلقان بالمنهج العملي للتشريع وهما : مستوى الإجمال ومستوى التفصيل. ومرّة أخرى يمكن إجتراح مستوى ثالث يتميّز عنهما معا وهو مستوى التكليل أي الإتيان بكليات ولذلك جاءت الشريعة كلها إما بأدلة جزئية أو أدلية كلية أو أدلية عامة موضوعية. تلك في المحصلة مستويات خمسة من الشريعة وإن إختلفت حقولها من البيان في مستوى المصدر إلى البيان في مستوى البثّ العملي
الدليل الثامن : الشريعة أبانت عن فلسفتها ومرجعيتها معا. أما فلسفتها فلم تتوان إذ قالت أنها تدعو إلى دار السلام أي سلام الدنيا الذي هو شرط للسلام في دار الآخرة وأنها تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر وتحل الطيبات وتحرم الخبائث وتضع الأغلال والأصرار النفسية والمادية عن الإنسان الجديد بشريعة جديدة بغرض عمران الأرض بالخير والأمن والقوة والحق والعلم والمعرفة. أما مرجعيتها فلم تتردد عن إبانتها إذ عزتها إلى القرآن أوّلا ثم السنة ثانيا ثم الإجتهاد ثالثا. وعزوها مرجعيتها إلى الإجتهاد ( أولي الأمر منكم ) دليل على أنها تحوي مناطق عفو أو فراغ لأسباب لفظية متعمدة أو تعميم مقصود ودليل كذلك على أن صروف الدهر المتقلبة تأبى إلا أن توقع الناس بما أتوا أو أوتوا في أوحال العسر بما يحملهم على الإجتهاد مكافحة لمعاشهم
الدليل التاسع : الشريعة متشوفة للحرية والتعبير للإمام إبن عاشور عليه الرحمة. ومنشأ الحرية عند التحقيق العلمي المنعتق من أسر السلف وضغط الخلف هي فطرة الإنسان وجبّلته المتشوفة دوما إلى نشدان الإنعتاق ونبذ الإستعباد ومن هنا إختلفت الفكرة الطبيعية ـ مرجعية الحقوق الكونية المعاصرة ـ مع الفكرة الشرعية بتعبير إبن خلدون والحقيقة أن الشريعة تزاوج في تناسق عجيب بين الحق الطبيعي وبين الحق العقلي وبين الحق الشرعي. الشريعة إذن خلاصة تناكح بين حاجات الفطرة وأشواق الجبلّة من جهة وبين مودعات القوانين الكونية والسنن العمرانية من جهة أخرى. وهو نكاح أثمر الشريعة المستقوية بالفطرة
الدليل العاشر الأخير : الشريعة لا تتعرض للنسخ فإن تعرضت للنسخ فما هي بشريعة إنما هي ملحقة بها جهلا أو زورا وليس بيان السنة تقييدا لمطلق أو تخصيصا لعام أو تفصيلا لمجمل وهو نادر جدا نسخا حتى لو عبّر عن ذلك الأقدمون مصطلحا لا حقيقة إلا نسخا بين شريعتين كما هو الحال بين اليهودية والإسلام مثلا فلا حديث عن مثل هذا النسخ. في الشريعة صغير وكبير ومقدم ومؤخر ومتعبد به فكرا ومتعبد به عملا ومنطقة فراغ عفو ومنطوق ومفهوم ولكن ليس فيها نسخ البتة إنما هي أحوال مرعية أيام تنزل التشريع أو منافذ للطوارئ أو معالجات مهداة يمكن لعصر ما أن يلجأ إليها
أبرز ملاحظة في المنهج التشريعي الإسلامي
من يدرس الشريعة بتملّ يدرك بيسر أن الشريعة فلسفة مركبة وفكرة عملية. هي فلسفة مركبة أي مزدوجة الأبعاد فهي مجملة ومفصلة معا مثلا. وهي فكرة عملية أي تؤسس الفكر لأجل العمل على إصلاح النفس وإصلاح الواقع وليست فكرة مجردة. السؤال هو ما هي آثار الصفة التركيبية الإزدواجية في الشريعة؟ الجواب هو : الشريعة لا تمنح الإنسان فكرة مجردة تشحنه بها كما يشحن السلاح بالذخيرة إنما تزوّد الإنسان بمؤهلات التفكير ولذلك يصحّ عليها قول القائل : لا تعطني فكرة بل علمني كيف أفكر. مقتضى ذلك هو أن الإجتهاد في الشريعة مطلب الشريعة نفسها إذ الإزدواجية البعدية تعني إسالة لعاب العقل ليفكر سيما أن الشريعة ـ بتعبير فيه العتيق وفيه الحديث ـ تحوي مناطق مؤثثة ملأى وأخرى فارغة عافية. وذلك هو معنى ما تقدم أي أن الشريعة فيها أدلة جزئية صيغت بالظاهر وليس بالنص وأدلة كلية عامة والمستويان من الأدلة يتطلبان الإجتهاد
وحتى لقاء قريب في الجزء الثاني أرجو قراءة نقدية جامعة بين العلم الشرعي والموقف الشرعي معا
الهادي بريك ـ المانيا