رمضان شهر القرءان(27): في وداع ربيع العمر .. ألا ما أصعب الفراق.

رمضان للعبد الفقير ربيع العبادة إذ أني لا أصوم عداه ولا أقوم. رمضان للعبد الفقير ثكنة عسكرية في حالة طوارئ قصوى أقضي فيها شهرا جنديا مطيعا يؤمر فيأتمر وينهى فينتهي حتى عن بعض السيئات التي لا أبالي بها قبله وبعده شقوة و شهوة. سقطت فقرة القيام البارحة وسويعات تلتحق بها فقرة الصيام ومع سقوط كل فقرة أشعر بحزن عميق ولو كنت منفردا لما كففت دمعات حرّى على فراق ربيع العمر بالرغم من أني عصيّ الدمع لا بشيمة صبر كما قال الشاعر ولكن أهرقت مخزون دمعي في السنوات الأولى من التسعينات إذ خرجت لأوّل مرة من وطني مكرها هائما على وجهي لا أملك حيلة ولا أهتدي سبيلا.

رمضان شعيرة مقدسة في العقود الخوالي :

رباني أبي عليه الرحمة على قدسية رمضان وأنا طفل يافع إذ كان ينذرنا أن من لا يصوم يكون جزاؤه يوم العيد أن يوثق بحبل متين في مربط حمارنا ويحرم بالضرورة من الأكل والشرب والفرحة أما الهدايا فالصمت أولى .. لم نترب على ثقافة الهدية. لازلت أذكر أول رمضان صمته وجوبا ببلوغ الحلم وكان ذلك في خريف عام 1970 بل أذكر أول يوم فيه إذ كنت منتظما في صف ينتظر الإذن له بالدخول إلى قاعة درس الإنجليزية مع سيدة أمريكية.

رمضان مدرسة نتعلم فيها كل قيم الحياة :

كلما تفرست في شريعة الرحمان سبحانه إمتلكني عجب شديد لما تحويه هذه الشريعة من إنسجام وإنتظام ووئام وتراكب ساحر سوى أن الناس يهملون عبادة النظر والتدبر فيحرمون لذة العبادة. رمضان مدرسة نتعلم فيها الإنتظام الذي هو شرط لشق دروب الحياة إذ يكسر المرء عاداته وتقاليده في الأكل والشرب والنوم ليتأطر على نظام جديد هو أشبه فعلا بنظام الثكنة العسكرية بل وفي حالة طوارئ قصوى لا مجال فيها لمخالفة الأوامر أن يتسلل الذئب المتربص على التخوم. مدرسة تعلمنا قيمة الإيمان بالغيب والطاعة بالغيب إذ أن المرء يمكنه أن يأكل ويشرب فلا يراه أحد ولكنه لا يفعل إيمانا ويقينا مثل الذي ينفق ماله سيما إيثارا وهو يرقب ضعفه في دار الخلد التي لم نرها ولكن أخبرنا عنها. هذا المعنى هو الذي يجعل للحياة قيمة وهدفا وهو المعنى الذي خلت منه صدور غير المؤمنين وبذلك بنوا تصورهم على أن الدنيا مغازة فيها كل ما لذ وطاب من رياش الدنيا وفجأة إختفى حارسها فهي همل بلا راع وهي فرصة لهم أن ينهشوا منها بلا رقيب ولا حسيب. وقيم أخرى كتبت فيها سابقا نتعلمها من مدرسة رمضان المعظم.

مثار حزني : هل يجدني رمضان القابل أم يقف على أطلالي؟

رمضان ذلك الضيف الخفيف الظريف الذي يعطي فلا يأخذ لي معه وأنا إلى الآخرة أقرب قصة صحبة طويلة تمتد إلى نصف قرن كامل فهو يعرفني وأنا أعرفه. يقدم عليّ فأحدث نفسي بوجس خفيف كيف أصوم وأقوم وكلما داهمني رجوت أن يتوقف الزمن قليلا فإذا أظلني ركنت إليه ثم سرعان ما تنضبط حياتي وفق نظامه الصارم ثم تكون من ذا لذة فإذا إستوت اللذة فاجأني بعزمه على العود من حيث أتى فاحزن ويشق علي ذلك بمثل ما شق عليّ قدومه. أعرف أنه ضيف جاسوس مكلف من ربه سبحانه بأن يحرر فيّ تقريرا مفصلا وهو وثيقة تعتمد رسميا يوم ينادى على إسمي لأمثل متهما أمام المحكمة التعقيبية العليا الأخيرة في ملف الدفاع ولكن يظل وجسي هل تصمد تلك الوثيقة في وجه مغرقات خائنات يظللن يصرخن منادين بقذفي في النار والسلام ( وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا؟ قالوا: أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء ).

بمثل تلك المشاعر أودع ربيع عمري وفي القلب لوعة …
ترى هل يطفى العيد شيئا من تلك اللوعة …
هل تعي الأمة أن الحكمة العظمى من صومها في زمن واحد إنما هي رسالة إليها أن توحد صفها وتجمع شملها أن تلغو فيها عاديات العداء فيذهب الريح ..
رمضان يا حبيبي : إذا سعدت بك ضيفا جديدا في عام جديد فذلك ما أبغي وإن لم يكن فرفقا بعبد يجالد الأهواء فتغتاله ويعاند الشهوات فتجتاله …
سلامي إليك يا ربيعي …
من سواك يعيدني إلى ثكنة عسكرية أكون فيها إلى ربي وربك أقرب؟

شاهد أيضاً

قصة يونس عليه السلام

هو يونس إبن متى عليه السلام أحد الأنبياء المرسلين المذكورين في القرآن الكريم وحملت سورة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *