لا يكمل دينك حتى تتبع سببا (34)

مشاهد من خلق الصادق الأمين.
 
لا يكمل دينك حتى تتبع سببا.
(34)
 
 
أخرج الإمام مسلم في صحيحه عن أبي هريرة عليه الرضوان أنه عليه الصلاة والسلام قال :“ يدخل الجنة أقوام أفئدتهم مثل أفئدة الطير”. أي متوكلون بمثل توكل الطير التي أخبرنا عنها عليه الصلاة والسلام في قوله : „ لو توكلتم على الله حق توكله لرزقتم كما ترزق الطير تغدو خماصا وتروح بطانا”.
 
الهجرة كلها أسباب متكافلة.
 
من ينظر في هجرة محمد عليه الصلاة والسلام من مكة إلى المدينة يلفى أن الرحلة كلها من أولها إلى آخرها أسباب متوالية متكافلة عكف على إتباعها وإعدادها عليه الصلاة والسلامأسباب منها ما نأى عن عيون المشركين الذين يلاحقونه ولكن منها ما إنكشفت لهم بعض خيوطها حتى كادت أن تقع في أيديهمأبلغ درس هنا هو أن ذلك يقع لنبي مرسل وليس لغيره من البشر ممن لا غنى لهم عن إتباع الأسباب.
 
السبب الأول.
 
 مجيئه إلى دار أبي بكر قائلةأي في ساعات القيلولة التي لم يحدث أن جاءه فيها وذلك بسبب أنها أشد الساعات أمنا من عيون المشركين.
 
السبب الثاني.
 
إشراك عدد غير يسير من الناس في أعمال الهجرة رغم إحاطتها بأقصى درجات السرية المطلقةهذه أسماء تهب جزء من نطاقها لحاجة من حاجات الهجرة حتى سميت بذات النطاقينوهي المكلفة ـ من بعد ذلك ـ بتزويد المهاجرين بالأكل والشربوذاك عبدالله إبن أبي بكر مكلف بإلتقاط الأخبار من أندية قريش نهارا وتزويد المهاجرين بها ليلاأي عين من عيون الإسلاموذلك أحد رعاة أبي بكر يكر بحافر غنمه على أقدام أسماء وعبدالله لئلا يقتفي أثرها المشركون فيقبضوا على محمد وصاحبه عليه الصلاة والسلامأعمال تحاط بأعلى درجات السرية المطلقة ولا يمنع ذلك أن تشارك فيها المرأة ولا الشاب.
 
السبب الثالث.
 
إتخاذ الإتجاه المعاكس لإتجاه الهجرةإتجه عليه الصلاة والسلام جنوبا ـ وليس شمالا في إتجاه المدينة ـ ليبدد الجهود المحمومة التي ترصد لها كرائم الأموالفإذا تبددت تلك الجهود خيم اليأس على النفوس التي ستشرئب أعناقها إلى المدينة بسبب ما علموا أن أصحاب محمد عليه الصلاة والسلام ـ ومنهم الفاروق الذي تحداهم جهارا بهارا ـ هاجروا إلى المدينةوإتخذت الأسباب على أساس أن يستأمن لنفسه ورفيق دربه مختفيا في غار ثور حتى إذا هدأ بركان البحث عنه وإستسلم الناس إلى اليأس إنطلق آمنا بإذن من يرعاه سبحانه.
 
السبب الرابع.
 
إستئجار مشرك قائدا لرحلة الهجرة عبد الله إبن أريقط ).وفي المشركين ـ وعموم الكافرين بمختلف أنواعهم عدا المنافق ـ من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك ومنا من إن تأمنه بدينار واحد لا يؤده إليك إلا ما دمت عليه قائماإستئجار مشرك لقيادة أخطر وأعظم رحلة في التاريخ لا ينفك عن دروس وعظات بليغة جدا لا يوحي إبصاره من أي كان بما يدبره بسبب شركه من جهة ومن جهة أخرى فإن الرجل خبير بأشد المسالك أمنا والعبرة هنا بالأمانة الدنيوية ـ وليست الأمانة الدينية ـ وبالقوة إن خير من إستاجرت القوي الأمين ). هذا فضلا عن أن كل أصحابه ـ تقريبا ـ هاجروا من قبله إلى المدينة.
 
السبب الخامس.
 
إصطحاب رفيق درب في طريق طويلة ومحفوفة بالمخاطروردت أحاديث صحيحة عنه عليه الصلاة والسلام في أنه لا يجدر بمن يؤمن بالله واليوم الآخر إلا أن يصطحب رفيقا في دربه كلما كان ذلك ممكنا بل شدد ـ مع ذلك ـ على أن يكون أحدهما أميرا لآخرأجلحتى لو كانا إثنين فحسبدوران ذلك ـ بطبيعة الحال ـ على الخوف والأمنبل أعدا للرحلة الطويلة ناقتين إذا كانتا حلوبتين إنتفعا بظهريهما وضرعيهما معاتقول بعض الروايات أن الرفيق الثالث للرحلة هو زيد عليه الرضوان متبناه حتى ذلك الوقت.
 
السبب السادس.
 
وعد سراقة إبن مالك ـ رضي الله عنه ـ بسوارى كسرى في إثر العثور على المطلوبين للبوليس القرشي الدولي في ذلك الوقت مقابل مائة ناقة وهي جائزة أسالت لعاب كثيرين لفرط ثمنها العالي جداذلك وعد لا يندرج سوى تحت سقف الأسباب التي لم يتوان في إستجماعهاالدليل على ذلك أنه إختار التخذيل عنه من بين خيارات أخرى كثيرة منها أنه لا يعجزه أن يقتل سراقة ثم يدفنه هناك ويستولي على فرسه وهو في أشد الحاجة إلى ظهور الخيلوهل ستقول العرب غير أن سراقة جنى عليه طمعه فإنصرف يطوي الأرض طيا ولم يعد.
 
السبب السابع.
 
قوله لرفيق دربه مطمئنا : „ ما ظنك بإثنين الله ثالثهما”. وهو ما سجله الكتاب العزيز في السورة التي مازالت أحداثها بعيدة عن تلك اللحظة بحوالي عشر سنوات كاملاتسورة التوبة التي يسميها الصحابة الكرام الفاضحة. „ إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني إثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا”. كأنما يريد أن يجعل الأفئدة مشرئبة ـ حتى وهي في أشد ساعات العسرة ـ إلى آفاق رحبة من التوبة والنصر والظهوروإلا فما الذي يجمع بين آية غار ثور وبين الظهور على الروم والمنافقين في سورة براءة ومن قبل ذلك كان الظهور على كل القبائل اليهودية و فتحت مكة وتوجهت رسله بالكتب المختومة إلى أباطرة الروم والفرس والغساسنة داعية إلى رفع الكابوس عن الشعوب والأقوام حتى تستمع إلى كلمة الإسلامتلك صورة أخرى من الأسبابالأسباب الروحية إلى جانب الأسباب المادية وكلاهما لازم للمؤمن والمجاهد والمهاجر.
 
وأسباب أخرى يضيق عنها هذا الحيز الضيق.
 
مبنى الكتاب العزيز على الأسباب.
 
المثال الأول.
 
قوله سبحانه لمريم العذراء البتول وهي تصارع آلام المخاض تحت جذع النخلة وحيدة فريدة بمثل ما تصارع آلاما أخرى هي أشد عليها أي آلام ما ستجده من أهلها : „ قالوا يا مريم لقد جئت شيئا فريا”. قوله سبحانه لها وهو الذي كتب عليها ذاك : „ وهزي إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطبا جنيا”. هل تظن أن هزة مريم بجذع نخلة عتية صلبة بيد ضعيفة وبدن أنهكه المخاض هي التي أسقطت رطبا جنيا؟ طبعا لاجرب ذلك بنفسك ـ أيها الرجل القوي ـ لتدرك أن هز جذع النخلة لا يسقط عليك رطبا جنيافما المقصود إذن؟ المقصود هو درسنا اليومأي كتب سبحانه في نواميس خلقه وسنن كونه أنه لا نوال لشيء أبدا مطلقا إلا بسبب من الإنسان العامل فإذا عانق سببك إرادته سبحانه ولد الحادث الذي كنت ترجو وإن أخطأه ظل غيبا مغيبالو لم يرد سبحانه شدنا في ديننا الجديد إلى الأسباب شدا لا نكوص بعده لمنّ بالرطب الجني على العذراء البتول دون حاجة منها إلى هز ما لا قبل لها بهزه.
 
المثال الثاني.
 
قوله سبحانه لموسى عليه السلام : „ وإذ إستسقى موسى لقومه فقلنا إضرب بعصاك الحجر فانفجرت منه إثنتا عشرة عينا”. هل تظن أن ضربة موسى الحجر بعصاه ـ عليه السلام ـ هي التي فجرت كل تلك العيون التي سقت آلافا مؤلفة من بني إسرائيل؟ طبعا لاوإنما المقصود أنه لا بد لك من توخي سبب ما لتنزل رحمتنارحمتنا تتنزل ـ إن شئنا ـ دون حاجة إلى سببك ولكن كتبنا أنها لا تتنزل إلا بسبب منك.
 
المثال الثالث.
 
قوله سبحانه في شأن موسى مرة أخرى عليه السلام : „ ولقد أوحينا إلى موسى أن أسر بعبادي فاضرب لهم طريقا في البحر يبسا”. هل تظن أن ضربة موسى ـ عليه السلام ـ بعصاه البحر الأحمر هي التي شقت طريقا مستقيما سيارا سريعا يقتفيه بنو إسرائيل مع نبيهم موسى عليه السلام نجاة من فرعون فإذا قاربه فرعون غرق؟ طبعا لاإنما المقصود أن إنجاءنا لك لا يكون إلا بضربة سبب منك قدرا منا مقدورا.
 
حتى المعجزة لا بد لها من سبب بشري يسبقها.
 
أمر هذا الدين عجب عجاب كله ورب الكعبةأمر كرامة الإنسان في هذا الدين هي العجب العجاب ورب الكعبةحتى المعجزات لا بد لها من سبب بشري يسبقهاأليست ضربتا عصا موسى ـ عليه السلام ـ للبحر مرة وللحجر مرة أخرى .. معجزتين؟ أجلأليس من شأن المعجزة أن تأتي بحركة مفاجئة لا سبب للإنسان فيها البتة؟ كلاذلك هو ظننا نحنأما القرآن الكريم فإنه يعلمنا ـ هنا في أطول قصة فيه طرا مطلقا ـ أن السبب لازم حتى لمجيء المعجزاتأجلحتى المعجزات التي لا ينبغي أن تكون إلا لنبي أو لنبي مرسلفما بالك بالكرامات التي قد تكون لولي من أوليائه وليس أولياؤه سوى أولئك الذين وصفهم هو بنفسه في كتابه العزيز بقوله : „ ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون الذين آمنوا وكانوا يتقون “. وأظن أن أمير الأولياء الفاروق عمر عليه الرضوان وأظن أن أميرة الكرامات قوله لسارية المجاهد من فوق منبر الجمعة وهو يبعد عنه آلافا مؤلفة من الأميال : „ يا سارية الجبل”. أما ما ينسب من كرامات لكثير من أدعيائها أو المبهورين بها بسبب ضعف إيمان وقلة يقين وثقة فيه سبحانه يغبرها الشك وتعلوها الريبة .. ما ينسب من ذلك أكثره شغبات شيطان.
 
السبب عبادة الأقوياء كذلك.
 
لا يستغني عن السبب بشر أبدا مطلقالأن السبب إرادة منه سبحانه مرادة وسنة مسنونة وبهما بنى كونه وسوى خلقه وهل يسأل سبحانه عما يفعل؟
 
ذو القرنين وهو في عز قوته إنما يتخول الأسباب.
 
ـ قال عنه سبحانه : „ وآتيناه من كل شيء سببا فأتبع سببا”. ذو القرنين في القرآن الكريم أو في قصصه بالأحرى هو رمز القوة المادية عندما تقع في أيدي المؤمنين فينتفع بها المستضعفون والمحتاجون وبها يقام العدل وينبسط القسط بين الناسحتى ذو القرنين لا بد له من إتباع السبب.( فأتبع سببا).
 
ـ ذو القرنين لا بد له من إتباع السبب سواء غربحتى إذا بلغ مغرب الشمسأو شرقحتى إذا بلغ مطلع الشمس). بل لا بد له من إتباع السبب في كل آن وحين حتى إذا بلغ بين السدين).ولذلك تكرر قوله عنه مادحا : „ فأتبع سببا ـ أو ثم أتبع سببا” .. تكرر ذلك في قصته مرات ثلاثوليس هناك من عبرة إلا ليغرس فينا إتباع السبب في كل آن وأوان يستوي في ذلك أن نكون في قوة ذي القرنين أو في ضعف العذراء البتول عليها السلام.
 
لا يكمل دينك حتى تكون سببا أو سنة أو قدرا.
 
أجللا يكمل دينك ـ مع وجوده بل ربما مع ما ينقذك من النار ويدخلك بإذنه سبحانه الجنة ـ حتى تحسن إستيعاب مثل هذه المسائلمسألة الأسباب التي لا بد منها ـ كما رأيت آنفا ـ للكسب خيره وشرهومسألة السنن التي لا بد منها لحسن تسخير الكون وما فيه لرسالتك من عبادة وعمارة وخلافة وإقامة عدل وقسطومسألة الأقدار الربانية على نحو يكون فيها الخير مقدرا والشر مقدرا وهما يعتلجان في السماء إعتلاجا لا يهدأ وعلى أساس أنه ما من قدر خير إلا وله قدر شر وما من قدر شر إلا وله قدر خير يدفعهأجلى من وضح ذلك وجلاه لنا هو المبعوث رحمة للعالمين عليه الصلاة والسلام في قوله عن الدواء الذي سأله عنه الصحابة إن كان يدفع قدر الله سبحانه :“ هو من قدر الله”. قس الدواء على كل كل قدر خير وقس المرض على كل قدر شربل كن قدر خير من أقدار الرحمان سبحانه يهدي بك من يشاء من عباده فإن أبيت فإنك قدر شر يضل بك من يشاء من عبادهأنت في الحالين قدر لأنك خلق من خلقه ولا تمتاز بشيء عن خلقه سوى بالحرية والإرادة والمسؤولية.
 
أليس إضطرابنا في هذا هو سبب من أكبر أسباب تخلفنا.
 
أجللما إنقلبت عقيدتنا في الدواء وعليه قس أدوية التحرير والعلم والوحدة إلخ..) من أنه قدر من أقداره سبحانه يجب علينا إستجلابه لدفع أقدار المرض إلى أن المرض ضربة لازب علينا فلا سبيل لدفعه ـ لا بالدعاء والدعاء جزء من القدر وليس هو القدر كله ولا بالعمل ـ.. لما إنقلبت منظومة تلك العقيدة الوسطية اليسيرة الواضحة البسيطة عندنا.. آل الأمر إلى ما نحن فيه وربما ما كان فيه بعض أسلافنا المتأخرين أشد وطأة عليهم.
 
حتى يومنا هذا مازلت تلفى من يعتقد أن الشر مكتوب علينا كتبا ولا سبيل لدفعه بأي سبب أو سنة أو قدرحظنا أن نسعى إلى ذلك وليس علينا تحقيق ذلك بالضرورةسعينا لتغيير ما بأنفسنا هو عين إستخدام أقداره سبحانه لنكون جزء منهاأما أن تتصور أن أقداره سبحانه فوقك توشك أن تقع عليك بمثل جبل شاهق وأنت متسمر في مكانك لا تبرحه.. ذاك تصور جاهلي حتى لو كانت تلك الجاهلية معاصرة.
 
خذ إليك عنواني أزمتنا المعاصرة.
 
ـ إحتلال الأرضإحتلال الأرض ـ أي فلسطين ـ قدر شر نفذه الصهاينة واليهود ومن حالفهمقدر الخير المناسب له لدفعه هو المقاومة بكل السبل الممكنةأما الدعاء وحده فهو عبادة السجين المحشور بين جدران زنزانته الصخريةللمسرح عبادتان عبادة الدعاء وعبادة العمل لتحرير الأرض المحتلة.
 
ـ التمزق والتفرق الذي ألم بالأمةتفرق الأمة ـ أي ذهاب ريحها السياسي وقوتها المالية وكلمتها في القضايا الدولية الحيوية ـ قدر شر نفذه بعض منه بأيدينا وبعض منه بأيدي أعدائناقدر الخير المناسب لدفعه هو التوحد والإعتصام لبنة من بعد لبنة.
 
وعلى ذلك قس كل قدر شر ثم إبحث له عن قدر خير يدفعه.
 
ذلك هو معنى قوله سبحانه :“ إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم.
 
والله أعلم.
 
الهادي بريك ـ ألمانيا

شاهد أيضاً

قصة يونس عليه السلام

هو يونس إبن متى عليه السلام أحد الأنبياء المرسلين المذكورين في القرآن الكريم وحملت سورة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *