فرضت علي في الشهور الطويلة الأخيرة حالة جديدة من المتابعة الكثيبة لمساري الثورة والدولة في تونس دون أن ينخرط قلمي في تقليب الأوضاع ونبشها إلا قليلا جدا. كانت حالة التبرم من المسافة التي فرضت علي شديدة حتى شعرت أن سجن الأبدان أدنى ألما من سجن الأقلام بألف مرة ومرة. إقتطفت درسين جديدين من مدرسة الحياة العظمى : درس عنوانه أن الإنخراط في الحديث والكتابة هي خطوة متأخرة وما ينبغي للعاقلين تقديمها إلا بعد الإستيثاق من صحة معطياتها ومعقولية أسبابها وإيجابية أبعادها وتداعياتها. تلك عملية إلجام قسرية نروض عليها أنفسنا لحسن فقه المشهد المعيش وحسن الشعور بنبضه بما يسدد المعالجات. أما الكلام في زمن الكلام المنداح فيحسنه كل أحد ومن منا لا يملك لسانا بتارا أو قلما مهذارا. الدرس الثاني عنوانه أن الكلمة التي يصنعها الناس ضربان كبيران : ضرب يصنع الكلمة المنطوقة بالألسنة والأقلام في شتى فنون التعبير وذلك هو الضرب الذي ينفجر بين الناس بقوة وعنف ليصنع المشاعر والأحاسيس ويجيش العواطف ويبني جدرا سميكة إما للإئتلاف رغم الإختلاف أو للشقاق رغم الإتفاق. ذلك الضرب من الكلمة المنطوقة بشتى تعابيرها الفنية يقتصد فيه أهله كثيرا وما ينبغي لهم ذلك إذ بالكلمة يتعلم الجاهل ويثوب التائه وييقظ الغفلان وبحسب الكلمة فخرا أنها أفضل الجهاد. وضرب يصنع الفعل المتقدم على درب تحقيق أهداف الثورة ولكن بالكلمة البكماء الخرساء التي تتأخر عن وقت الحاجة إلى بيانها. هذه الكلمة المتأخرة لا تؤتي أكلها اليوم إلا أن تعزرها الكلمة المنطوقة. يمكن لها أن تتأخر عندما تستقيم سفينة البلاد فوق دربها المتجه من الثورة إلى الدولة. لم أكن لأجني ذينك الدرسين من مدرسة الحياة العظمى ـ ربما ـ لو لم أخضع للحالة آنفة الذكر. لكم يطلب من العاملين المنخرطين وهم في يم المعركة الساخنة الطاحنة أن يوفروا لأنفسهم بين الفينة والأخرى غيبة صغرى تمكنهم من النظر إلى المشهد الصاخب من مسافة آمنة مطمئنة. ألا يقيلون كما يقيل الناس؟ لتكن تلك قيلولة اليقظان.
هذه معالم المخاض فيما أظن.
المعلم الأول : لا بد من حد فاصل بين الثورة وبين الدولة.
عندما ننادي بتواصل الثورة لا بد لنا من تحديد ذلك النداء أو تصحيح ذلك التصور وذلك على نحو يجعل من الثورة روحا سارية فينا وليس حالة شعبية في الشارع العام تئد الدولة ومؤسساتها الدستورية المنتخبة أن تعمل على تحقيق أهداف تلك الثورة. المناداة بتواصل الثورة يعيق بناء الدولة بأوجه كثيرة من الوجوه المحتملة فضلا عن كونه يلتقي تلبسا مع المناداة بإلغاء تلك المؤسسات الدستورية المنتخبة. تواصل الثورة المطلوب هو التجند من قبلنا جميعا لبناء المشروعيات الدستورية إستباقا لما قد تلده حبالى الأيام من مثل الدستور والقانون الإنتخابي ولجنة الإنتخابات وموعدها وغير ذلك. المعطيات المتجهة نحو إنقشاع البهتة دوليا وعربيا وإقليميا عن القوى المعادية للثورة وإتجاه تلك القوى ـ ومنها القريب منا كثيرا ـ إلى بلورة خطة لتعويق الثورة .. تلك معطيات صحيحة. المد الثوري شهد عربيا ما يشبه التوقف فضلا عن كونه ما زال في سورية المقاومة يصارع أمواجا دولية عاتية جدا وقد لا ينفك من بعض آثارها المدمرة. في اليمن مساحة غير صغيرة من الغموض. مازالت الحالة الليبية تراوح مكانها في التأسيس الدستوري رغم خفوت الإضطرابات نسبيا. ما تتعرض له تونس ومصر داخليا وخارجيا وإقليميا ينبئ بحق أن المعركة الثورية معركة طاحنة قاسية جدا من جهة وهي طويلة المدى من جهة أخرى. ذلك يشعرنا أن التواصل الثوري معناه : تواصل روحي نفسي عقدي في المقام الأول وهو تواصل شعبي ميداني دعما للمؤسسات الدستورية المنتخبة وليس تعويقا لها في المقام الثاني وهو تواصل ينبغي عليه الحذر من توظيفه من لدن أعداء الثورة داخليا وخارجيا في المقام الثالث وذلك بسبب أن المناداة بتواصل الثورة مطلب أصدقاء الثورة وأعدائها سواء بسواء. ومعلوم أنه عندما تلتقي الخطابات يجد الشيطان له في تلك الإلتقاءات مثاوي وثيرة دافئة. المقصود من هذا المعلم الأول هو : تواصل الثورة وبناء الدولة أمران لا يسيران جنبا إلى جنب في صداقة حميمية بل لا بد لهما أن يختصما. فإما أن تتواصل الثورة وتتأجل الدولة وإما أن تبنى الدولة وتجد الثورة لها صيغة أخرى. وأفضل صيغة لثورة جديدة في نظري هي مباشرة الثورة العقلية والذهنية والفكرية والثقافية وذلك من خلال مبادرات وجمعيات ومنظمات وأحزاب وفعاليات وجيش من الدعاة الوسطيين المعتدلين الجامعين بين ثبات الأصل وضرورة العصر. ثورة ثقافية جديدة تبدأ من طريقة الأكل والشرب والتحية وربطة العنق إلى معالجة القضايا السياسية والإجتماعية والدولية. أما ما يعتلج في نفسي يقينا قطعيا إلى حد السخرية ممن يضع ذلك فوق طاولة الحوار فهو أن الثورة الثانية ـ الثورة الثقافية الجامعة ـ هي الضمان الأكبر لتواصل الثورة الأولى ولخدمة أهدافها وتحقيق غاياتها. وما عدا ذلك فهي ترقيعات لا تسد رمقا.
المعلم الثاني : الديمقراطية والتعايش السلمي إمتحانان خطيران.
نحن اليوم في إمتحان حقيقي خطير وكبير. لنتوافق منذ البداية وبتواضع الكبار أن رصيدنا في الديمقراطية والتعايش السلمي وقبول الإختلاف مهما كان عنيفا وشاقا علينا عقديا … هو رصيد لا يبتعد كثيرا عن الصفر. لا علاقة لذلك بالحقيقة الفكرية الراسخة ومؤداها أن الإسلام والديمقراطية لا يختصمان حتى لو لم يكونا من جنس واحد وأن المصالحة بينهما ممكنة. تلك حقيقة ولكنها فكرية. هل شهد تاريخنا الإسلامي الطويل الثر الخصيب تلاقحا بينهما؟ أبدا. لا أتفق كثيرا مع القائلين بأن تاريخنا الإسلامي مفترى عليه كثيرا. أجل. حصلت إفتراءات كثيرة وكبيرة وخطيرة. ولكن تاريخنا الإسلامي ليس ورقة ناصعة بيضاء بل هو ورقة بيضاء إخترمتها من نكبات العدوان على حقوق الإنسان ما إخترمها. تاريخنا الإسلامي حصيلة من المفتريات ومن الشاغبات الشنيعات كذلك ضد أصول الإسلام العظمى فيما يتعلق بمنزلة الإنسان ودوره. فلا هو هذا فحسب ولا هو ذاك فحسب. السؤال الخطير والكبير والمحرج هو هل نؤمن نحن جميعا بالديمقراطية منهاجا إداريا وسياسيا في إدارة شؤون الدولة والحكم والتحزب والمجتمع والمؤسسات من المسجد حتى دار السلطنة العظمى؟ من نحن؟ أصدقاء الثورة أنفسهم والثائرون أنفسهم والذين إنتخبهم الشعب بالأغلبية أنفسهم. لا أرى نجاحا للثورة ولا نجاحا على درب تحقيق أهدافها إلا بإمتحان ذلك الإيمان فينا. دعنا من الفترات التي نجنح فيها إلى الغضب والثورة إذ لا تكون تلك مقياسا صحيحا عاما بسبب سورات الغضب الحالقة التي لا ينفك عنها أحد. إنما أقصد نخل كسوب صدورنا عندما نكون في حالات نفسية طبيعية. ألسنا نشي بعضنا لبعض سرا وعلنا بما يخاصم ذلك الإيمان. الحديث هنا عن أعداء الثورة ـ وهم حقيقة واقعة دون ريب ـ ليس مجديا بسبب أنهم إنما يقومون بأداء دورهم وإلتزام موقفهم وهل ينتظر منهم غير ذلك. إذا كانت إرادة الله سبحانه حكمة ومشيئة في الآن نفسه قضت أنه خلق الكافر والمؤمن .. فأنى لنا أن نستعجب وجود أعداء للثورة وهي دون الإيمان قطعا. وأنى لنا ألا نضع ذلك في حسابنا ومعالجاتنا. أليس حريا بنا أن نلجأ إلى الدرس التاريخي الكبير : „ قل هو من عند أنفسكم “. أليس حريا بنا أن نحكم السنة الإصلاحية الكبيرة : „ إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم”. ما الذي بأنفسنا من نكران عملي حقيقي ـ في كثير منا وليس فينا جميعا ولا في بعضنا فحسب ـ للتعددية حتى في وجهها الديني بله المذهبي والفكري ـ رغم تأكيد ألسنتنا وأقلامنا لنقائض ذلك مرات ومرات ـ .. ذلك هو المسؤول عن توقف المسار الثوري حينا وعن تعرض الدولة ـ دولة الثورة وليس ثورة الدولة ـ من حين لآخر إلى عثرات قوية مربكة. إما أن يكون المعيار غير صحيح وإما أن تكون معالجاتنا غير صحيحة ولا يمكن للعقل أن يستريح إلى الأمرين معا.
ليس يعني ذلك قطعا أن النجاح في المعالجات الديمقراطية والتعايش السلمي رغم الإختلافات العقدية والخلقية والفكرية العميقة جدا .. ليس يعني ذلك أن النجاح في ذلك يجب أن يكون نجاحا مكللا أو بالضربة القاضية. لا. تلك مثالثة حالمة ولا شك أن من أمرضنا الفكرية إلتزامنا مثالية جامحة حالمة لم توجد حتى في خير الناس من قبلنا إلا في بضع عشرات من الرجال والنساء. المثالية الفكرية والتجزئة النظرية داءان وبيلان ينخران المنهاج التفكيري فينا وكثير منا لا يعبأ بذلك أو هو عنه ساه لاه.
إنما يعني ذلك أن نكون على أتم الوعي واليقظة بأننا في قاعة إمتحان كبرى والمادة الرئيسة في الإمتحان هي : الديمقراطية والتعايش السلمي رغم التعدد العقدي والفكري العميق والتقليدي. هل نؤطر أنفسنا عمليا ومؤسسيا ومجتمعيا وحزبيا لتحمل تبعاته وما فيها من تنازلات وحكمة وجمع شمل وتوحيد كلمة وتسديد سفينة وحوار وسل لفتائل الإشتباك والإقتتال .. هل نؤطر أنفسنا ومؤسساتنا على ذلك تأطيرا صارما وجادا وحقيقا أم لا. لا شك أن أولى خطوات التأطير هي خطوات ثقافية فكرية إذ الإنسان إبن بيئته وهو يقاد من عقله ورأسه وقلبه وليس من رقبته أو من بطنه أو من فرسنه كما تقاد العجماوات والبكماوات.
على أصدقاء الثورة أن ينجحوا في الإمتحان وليس على غيرهم. غيرهم إنما يكون نجاحهم في ذلك هو عدم نجاحهم فيه. أي تفكيك المنظومة الديمقراطية الناشئة الوليدة.
لا يعني ذلك أن المعركة غير موجودة ولا هي غير طاحنة ولا قاسية. لا بل هي طاحنة قاسية شديدة جدا. هي معركة أشد سخونة من معارك الوغى بالذخيرة الحية. ولذلك يكون الإنتصار فيها عسيرا. طلقات اللسان والأقلام أسرع كثيرا من طلقات البندقية. هي أسرع وأبقى أثرا وأشنع حصيلة بالتأكيد. هل ألفيت في التاريخ من إقتتلا دون أن يكون ذلك مسبوقا منهما بسلاح الكلمة. أبدا قطعا.
الخلاصة العامة :
لما تستكمل الثورة في تونس سورتها وهيجانها ووهجها حتى نعرضها للتقويمات بالنجاح أو الفشل. ومن جهة أخرى فإن تواصل سورتها لا يساعد على بناء الدولة ومؤسساتها قطعا فلا بد من توفير حدود فاصلة بينهما وهي حدود تبقى على خطوط الإتصال وافدة كذلك. لا شيء في ذهني ـ طرا مطلقا ـ يمكن له أن ينشئ أي علاقة بالوصل لا فصل فيها ولا أي علاقة بالفصل لا وصل فيها. تلك هي العقيدة المنوية اليونانية القديمة. ولذلك فإن المخاض الثوري سيظل يلازمنا بقدر تأخرنا في بناء الدولة ومؤسساتها. الدولة بمؤسساتها هي ثمرة المخاص فإذا أردنا أن نريح الأم من مخاضها فما علينا إلا أن نكفكف من نزوعات الثورة التي يزاولها اليوم من ليسوا من أهلها في أحايين كثيرة. لا يمكن لأم أن تضع وليدها إلا بعد تخلصها من مخاضات الولادة. الأمران لا يتصاحبان بل يسبق أحدهما الآخر. الأمور في الدنيا من مشكاة واحدة لمن إلتزم المعيار التوحيدي أما الإنشطاريون المزدوجون فإنهم يتهافتون. أمامنا خيار واحد وهو التصميم على النجاح في الإمتحان الديمقراطي الجديد علينا وعلى تراثنا وتاريخنا وهو نجاح نبني فيه كل يوم لبنة جديدة وليس كالصبر الإيجابي المفعم بالعمل الصالح المخلص إكسيرا يغذي فينا طموحات النجاح في ذلك الإمتحان الذي تعرضت له ثورات غربية وأروبية كثيرة وهل نحن بدع في الدنيا ليحكمنا قانون آخر غير القانون الإنساني العام؟ هو القانون ذاته : „ كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظورا”. لم تستقر المجتمعات الغربية التي ثارت من قبلنا إلا بعد مخاضات طويلة ولكنها نجحت في الإمتحان الديمقراطي رغم أن الذي يفرقها أكثر مما يفرقنا نحن في تونس وأغلظ منه ألف مرة ومرة. لم تستقر تلك المجتمعات لأنها مؤمنة وما هي بمؤمنة ولم تنجح في إمتحانها لأنها كافرة وما هي بكافرة بالقيم الديمقراطية حتى لو كانت تلك القيم مركزية طائفية لا تحظى بأي تأشيرة عند عبور الحدود.
ومعالم أخرى على درب المخاض الثوري والإمتحان الديمقراطي وكلاهما لازم من لازمات الثورة. معالم أخرى ربما أعود إليها في مقالات أخرى. لا يحبسني عنها الآن سوى ما إستمعت إليه من تنبيهات صارمة من القائمن على هذا الوليد الجديد القديم العائد ( الحوار.نت ) بإلتزام الإيجاز والتركيز. ما إلتزمت إيجازا ولا تركيزا. وعزائي أن الذي حصل لقلمي هو الذي حصل لنا في تونس الثائرة بالضبط والكمال والتمام. ظل التونسيون مكبوتين لأزيد من نصف قرن كامل فلما إنفجرت ثورتهم إحتاجت إلى زمن طويل لتستقر وما زالت تحتاج إلى ذلك بل إلى أضعاف ذلك وليس من تفسير مقبول لذلك سوى التفسير العلمي المعروف ومفاده أن كل حركة رد فعلية إنما تسير في الإتجاه المعاكس ولكن بالقوة ذاتها وبالسرعة ذاتها. أنى لنا أن نقبل إندمال ثورة بجراحاتها الثخينة في فترة زمنية قصيرة والحال أنها إستجابة من إستجابات التحدي لنصف قرن كامل من القهر والقحط والكبت والسلب والنهب. ذلك لا يكون. وليس علينا سوى إستيعابه لأن الحكم عن الشيء فرع عن تصوره فإذا فسد التصور فسد الحكم قطعا. كذلك ظل قلمي مغمودا لشهور قاحطات كالحات فهو اليوم ينفجر بمثل ما تنفجر الثورة. وليس على القائمين على الحوار.نت ـ وربما على القراء الكرماء كذلك ـ إلا تفهم الأسباب.
الهادي بريك ـ المانيا
brikhedi@yahoo.de