” وينو البترول ” جولة جديدة لإستعادة الثورة المغتالة

ترددت الأراء والمواقف بين التونسيين في شأن حملة ” وين البترول ” التي نشأت على ضفات صفحات التواصل الإجتماعي ثم نظمت لها مظاهرة حاشدة في العاصمة وبعض المدن الأخرى. وبهذه المناسبة فإن للعبد الفقير ملاحظاته التالية :

1 ـ شعار الحملة ” وينو البترول ” لا أنسجم معه كثيرا ولكني أؤيده قولا وعملا بقدر الإمكان تأييدا إقتضائيا أي أؤيده لأنه لأجل غيره وليس لأجل نفسه أي أن المقصود ـ في رأيي المتواضع ـ ليس البترول وما في حكمة بصفة خاصة وبالدرجة الأولى فحسب ولكن المقصود هو نشوء حملة أخرى لإنقاذ الثورة المغتالة والتي نجح أهلها في دحر الثورة ـ ثورة الحرية والكرامة 17 ديسمبر 2010 حتى 14 جانفي 2014 ـ إلى آخر مستوياتها الممكنة فهي إذن في حالة فر وتوار من بعد ما كانت في حالة كر وإستعلان. 

2 ـ الذي يهمني في الحملة هو إستغلال أي هبة شعبية سلمية لإستعادة النفس الثوري والوهج الإحتجاجي الذي قد يموت مع الأيام. لو كان مرورنا من الثورة إلى الدولة كان بطريق التفعيل الصحيح ولو بتدرج للعدالة الإنتقالية في إتجاهيها ـ إتجاه مقاضاة المجرمين والسفاحين في العهدين السابقين عهد بورقيبة وعهد المخلوع بن علي سواء ممن تورط في دماء التونسيين أو من تورط في أموالهم وأعراضهم وإتجاه إنصاف المظلومين والمقهورين وليس أعنى من المقاومين فحسب بل ربما من أنباء وبنات الشعب الكادح الكريم قبل أولئك أصلا ـ .. لو كان مرورنا من الثورة إلى الدولة بذلك الطريق الإنصافي العادل ولو بتدرج لعلا للمرء صوت قوامه أن الحكومات التي جاءت بعد الثورة كلها ـ أو بعضها على الأقل ـ لها فسحة من العمل وأريحية من الوقت لتدبير أمرها ووضع عجلات القطار فوق السكة المناسبة وما ينبغي إذن تعريضها لأي هزة .. ولكن والحال بغير ذلك تماما ـ إذ ما جنى المواطن شيئا من الثورة سوى هامشا من الحريات قد يتعرض في أول إمتحان لأكبر عاصفة وليس أمر الحريات هينا ولكن الحريات ليست مقصودة لنفسها ولكنها مقصودة لأجل غيرها من قيم العدالة الإجتماعية وا لكرامة الإنسانية والوحدة الوطنية وغير ذلك من آمال الثورة والثوار .. ولكن والحال بغير ذلك تماما فإن قيم الوطنية والوفاء للثورة ولدماء الشهداء بدء من فرحات حشاد وربما من قبله إلى آخر شهيد من شهداء الثورة وتحقيق مقاصدها وأهدافها .. لا توحي لأي واحد منا سوى تفهم هذه الحملة بل لا توحي له سوى بتعزيرها وفتح الباب على مصراعيه لتكون سلمية ديمقراطية عادلة منصفة في شعاراتها وتنزيلاتها ومآلاتها. 

3 ـ لا أظن أن المقصود بهذه الحملة السيد الحبيب الصيد نفسه رئيس الحكومة ولا حتى نفر غير يسير من أعضاء حكومته ـ وليس كلهم طبعا ـ ولا مجلس نواب الشعب من باب أولى وأحرى ولا حتى رئيس الدولة نفسه. لا أظن ذلك. وعلى كل حال فإن إستهداف أي مؤسسة ـ شخصا كان أو هيئة ـ منتخبة إنتخابا صحيحا إنما يتجه في الإتجاه المضاد للثورة ولا يعني ذلك بطبيعة الحال عدم تعريضه للنقد والإنتقاد والمساءلة وكل الأشكال الإحتجاجية السلمية التي لا تعصف بالدولة وبمؤسساتها المنتخبة إذ في ذلك العصف حتى لو كان غير مقصود هو عصف بالثورة نفسها.
4 ـ أظن أن المقصود بهذه الحملة في مراميها الكبرى وهو ما يجعلني أعزرها وأؤازرها إنما هو قانون العدالة الإنتقالية نفسه أي دعوة سلمية ديمقراطية شعبية إلى تفعيله حتى يأخذ كل واحد منا حقه فما منا إلا سفاح ولغ في الدماء أو شرب من الأموال بغير حق أو أهدر الحرمات أو مقاوم أو صابر محستب ولكل واحد من هؤلاء نصيب في ذلك القانون الذي ” أنزه ” الحكومة الحالية أن ” تلوث ” نفسها بتفعليه ولا حتى بالإقتراب منه بسبب موازنات القوى المنخرمة لصالح الردة ضد الثورة أي لصالح النظام القديم بأجنحته الأمنية والتجمعية والمالية.

5 ـ هناك حسابات سياسية تحضر عند السياسيين طبعا وعدم حضورها لا يعني سوى الغشامة والحماقة إذ ليس الحساب هو الممقوت لا في الدين ولافي الدنيا ولكن المبغوض هو الحساب الحزبي الضيق أو الفئوي أو الطائفي أي الذي لا يولي تونس بدستورها وقيمها وشعبها ومصالحها الأولوية الأولى متقدمة على كل شيء. صحيح أن ذلك في السياسيين نزر يسير بل هو قليل من قليل من قليل ولكنه موجود عند بعضهم. هناك الحساب السياسي الذي يقف من هذه الحملة بمسافة تحفظ الحكومة أن تسقط وهذا حساب معتبر في رأيي لأن سقوطها وخاصة الآن لن يكون إلا ضربة أخرى في خاصرة الثورة وأهدافها ولكن ليس لأهل هذا الحساب أن يغمطوا حق التونسيين في أي عمل سلمي يستعيدون به ثورتهم ويجب أن نقر منذ البداية أن الثورة التي سقط دونها رجال ونساء ليست مهددة بالإغتيال بل هي مغتالة بنسبة كبيرة جدا ومتقدمة جدا وربما لا أبالغ إذا قلت أن الفارق بيننا وبين إغتيال ثورات الربيع العربي رغم أنه كبير وعظيم وكثير فإنه لا يتجاوز أن تلك الثورات إغتيلت بالدم الأحمر بينما إغتيلت ثورتنا بالدم البارد. 
6 ـ وهناك الحساب السياسي الذي يؤز بهذه المبادرة ” وينو البترول ” لإسقاط الحكومة وهي تنهي المائة يوم الأولى من عملها وهذا الحساب إنما يردد بلسان الحال والمقال معا : علي وعلى أعدائي فما دمت لم أفز لا بالحكومة ولا حتى بالعضوية المباشرة فيها ـ وليس يرضيني التمثيل غير المباشر لرجال ونساء يحملون مشروعي الفكري ـ وغريمي التقليدي فيها وهو يدعمها فلن يكون موقفي سوى التقاطع الحاد المعاكس معه ولو كان الثمن هو الثورة أو تونس. هنا تختلط الأوراق حقا وهنا لا بد من حسن الحساب السياسي وتلك هي السياسة لا خير كله فيظهر ولا شر كله فيظهر كذلك ولكنه مزيج من الخير والشر لا بد من حسن الذكاء للتمييز وحسن التمييز. 

7 ـ وهناك الإرادة الشعبية العارمة التي لا تقفو أثر تلك الحسابات كثيرا ولكنها تتحرك بتلقائية وحنق ونقمة على شرذمة من السفاحين السابقين الذين نجحوا في إغتصاب الثورة بل نجحوا نجاحا باهرا ولم ينجح أصحاب الثورة سوى في شيء واحد يميزنا عن سوريا مثلا أو ليبيا وهو ضمان الوحدة وتجنب التقسيم وكذلك مازالت المعركة بيننا بالألسنة والأقلام والمواقع وليس بالدماء. ليس ذلك هينا ولكنه دون المطلوب ودون المأمول بكثير وكثير وكثير وعادة ما لا ينتبه كثير من الناس لذلك. 

8 ـ عندما تحصر الحملة في القضية البترولية فحسب والطاقة وغير ذلك فقد ينجح عدو الثورة مرة أخرى في الإنتصار علينا إذ تضيع المعركة بين دراسات وبحوث وقال وقيل وتصريحات وأرقام وهذا أحط ما فيه أنه يضيع لنا أوقاتا ثمينة. ولكن لندع الحملة حرة طليقة شعبية تلقائية ولكن سلمية ديمقراطية تطالب بحقها وتفرض حقها بالطرق الدستورية المشروعة دون أن نمر بسرعة إلى سقوط الحكومة التي لم نر من رئيسها على الأقل إلى يوم الناس هذا سوى عمل جاد ومثابر ولكن تعرض الرجل إلى ما تعرض له السيدان الجبالي والعريض أي إصرار يساري شديد وعنيف متدثرا بإتحاد الشغل وأحزاب اليسار ولفيف آخر على إسقاط الحكومة حتى لو كان في سقوطها سقوط لجدار من جدر الثورة. 

9 ـ لتكن الحملة إرهاصة جديدة من إرهاصات إستعادة الثورة وإستجلاب العمل على أهدافها وتحقيق مقاصدها وأدنى ما في ذلك تفعيل قانون العدالة الإنتقالية وخاصة في إتجاه مقاضاة الفاسدين والسفاحين والمجرمين السابقين أي لتشفى قلوب طالها النكد لعقود طويلات. لتكن الحملة مؤيدة من الأحزاب التي تدعم الثورة حقا ولكنها تحسب حسابا سياسيا قوامه الحفاظ على الحكومة حتى تستوفي مدة زمنية مقبولة أو حتى تكمل مدتها. 
10 ـ لتكن الحملة بداية ليست على غرار القصبة 1 والقصبة 2 ولكن لتكن محطات ضغط لأجل عمل حكومي صحيح يشعر المواطن أن الثورة مازالت هنا وأن ملفات الفساد حاضرة سيما أن القانون مكتمل ولكن لنكن واعين في مقابل ذلك بالفساد في الأمن وفي القضاء وفي الإدارة وفي المحيط الإقليمي الذي لا يشعر بالود للثورة حتى وهي منهكة مغتالة. 

11 ـ يعني : أجل مليون مرة لأي محطة شعبية إحتجاجية سلمية تعمل تحت هذا السقف : لا لإسقاط الحكومة ـ حكومة الصيد ـ وهي في مهدها إذ في ذلك ظلم للرجل ولتجربته وفوق هذا الأديم : الحراك الإحتجاجي يجب أن يظل متواصلا حتى لا تهدأ قيمة الثورة في النفوس وحتى لا تتدحرج الثورة إلى درجات أخرى متخلفة منحطة ولكن دون المساس بالوحدة الوطنية أو المؤسسات المنتخبة أو الأمن العام الذي يعرض الناس إلى القمع والظلم وخط أحمر أخير إسمه : أحتج بصوت عال وأطالب بحقي بل أموت دونه ولكن لتكن عيني على المحيط من حولي كيف هو وما هو لونه وما هو موقفه وما هو مآل حركتي وغير ذلك من الأسئلة التي يطرحها أهلها ويجيب عليها أهلها.

والله أعلم

الهادي بريك ـ تونس

شاهد أيضاً

قصة يونس عليه السلام

هو يونس إبن متى عليه السلام أحد الأنبياء المرسلين المذكورين في القرآن الكريم وحملت سورة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *