الحديث عن الإنتخابات التشريعية المقبلة في تونس. ويمكن طرح السؤال بصيغة أخرى: هل يمكن أن نمدد لحركة النهضة بفرصة أخرى للحكم.
أنطلق من شبه مسلمة مؤداها أن التونسي عادة ما ينتخب فكرة أو مشروعا أو برنامجا أكثر من إنتخابه لشخص. هي شبه مسلمة نسبية بالضرورة. في هذه المحطة أظنها تكون مسلمة غالبة بسبب أن التونسي اليوم في الأعم الأغلب يسأل نفسه : هل أعيد إنتخاب النهضة وقد جربتها أم لا. و” لا ” هذه قد تقعده في بيته ليلتحق بما يسمى باللهجة المصرية بحزب الكنبة أي الذين طحنهم القهر السياسي حتى يئسوا من السياسة والسياسيين وربما من الناس أجمعين.
في هذه المقالة أحاول معالجة بعض النقاط التي تثار من حين لآخر.
المسألة الأولى :
إيماني بأن المسألة ليست إنتخابات ولكنها معركة حامية الوطيس بين الأحرار وبين العبيد. الحرية لا دين لها ومثلها العبودية لا دين لها. فكم ممن يشار إليهم بسبابات التقوى وهو والغ في الرق الرخيص لطاغية من الطواغي لا يضحي بجلدة واحدة من جلاد ولا بيوم واحد من الحبس في سبيل حريته. تلك هي التقوى المزيفة وذلك هو التدين المغشوش. أجل. نجح المفسدون في الأرض كثيرا وهم يبطشون البطشات الكبرى لا لنهب الأموال وهتك الأعراض فحسب ولكن لتأمين ذلك بصرف الناس عن الإهتمام بالشأن العام فتخلو لهم الساحة ليس فيها من منافس ولا حتى من معارض. إيماني بأن المعركة حول الثورة التي أرادوا أن يخمدوها وهي في أحضاننا رضيعة. إيماني بأن المتخلف عن هذه المعركة شيطان أخرس.
المسألة الثانية :
إيماني بأن الثورة التونسية مازالت مهددة بجد وحق إذ هي شمعة صغيرة في بلد صغير في محيط عربي يسبح إما في الإستبداد السياسي الذي مازال يغط في نوم عميق ليس هناك من يهدده أو في مسار الإنقلاب ضد الثورات وقد نجح المسار نجاحا باهرا جدا. ولم تكن صاعقة اليمن علينا في هذا اليوم إلا نكبة كانت مؤجلة فحان أجلها. لست مقتنعا إلى اليوم بأن القارب التونسي نجا بالحكمة التونسية فحسب. لست مقتنعا بأن الأوراق المتناقضة دوليا وعربيا عابثا بعضها ببعض تكنّ حبا خاصا لتونس. هذا مد شيعي عربي فارسي يناور وينجح وذاك إرهاب عربي غير مسبوق لا يضن علينا بنشر الذبائح البشرية رؤوسا أينعت وقطفت وذلك نظام خليجي يغدق أموال البترول للقضاء المبرم على الإخوان المسلمين في حرب دولية مفتوحة بمثل ما شن بوش الإبن قبل سنوات حربه الدولية السافرة على الإسلام في البلقان الذي بدأ به سلفه ثم في العراق وأفغانستان. ناكية النواكي أن من التونسيين لحما ودما من يعمل إنقلابا على الثورة لسبب واحد أحمق عنوانه : الثورة التي جاءت بالإسلاميين يغدو حكم المخلوع بن علي أولى منها. ليس صحيحا أن إنتقالنا إلى حكومة ” غير مؤقتة ” هو صمام أمان كبير. التحليل الأرشد عندي هو أن المنطقة العربية كلها في حالة مخاض عسير جدا وغير مسبوق والمجنون حقا هو من يغامر بالقول أن هذ المخاض المدلهم الأسود يمكن له أن يتجه إلى هنا أو إلى هناك. بمثل ما كنا لا نرقب ثورة في تونس فإن الكيس الفطن لا يورط نفسه في رقوب أي إحتمال. إحتمالات كثيرة منظورة.
المسألة الثالثة :
حركة النهضة أولى بقيادة البلاد مرة أخرى ضمن إئتلاف حكومي موسع قدر الإمكان على قاعدة الولاء للثورة أوّلا وعلى قاعدة أخرى تراعي ذلك المخاض المخيف وهي مواصلة السعي للم الشمل التونسي مهما بدا مفرقا وبعض أطرافه تهرول نحو المجهول بل نحو المخيف. القارب التونسي وهو يصارع الأمواج العاتية من كل صوب وحدب لا شيء يكفل له النجاة سوى الوحدة الوطنية الواسعة جدا على قاعدة المواطنة أوّلا ثم على قاعدة الثورية ثانيا ثم على قاعدة الديمقراطية التوافقية ثالثا ثم على قاعدة تأمين الجوار قدر الإمكان. ظني أن ” يأجوج ومأجوج ” المندلع في الشرق بصورة غير مسبوقة في تاريخ الأمة لا بد أن يصيبا وباؤه إن قليلا أو كثيرا وإستراتيجيتنا يجب أن تكون وقائية قدر الإمكان أما لو مررنا إلى المعالجة فإن بلادنا قياسا مع سوريا والعراق وغيرهما لن تتحمل عشر معشار ما يجد هناك.
المسألة الرابعة :
أما من حيث الطبيعة المدنية السلمية الديمقراطية للحركة ـ حركة النهضة ـ فلا أظن أن تونسيا واحدا ولا تونسية يجادل فيها. ظلت الحركة زهاء أربعين عاما كاملة ضحية الإقصاء والوأد ولو إنتهجت غير السبيل الإصلاحي الواقعي الحكيم لما كان لها اليوم أي شأن. فلما إنتخبها الناس من بعد غياب عقدين كاملين كانت فيهما ضحية الدجل والبهتان إنكفأ عليها خصومها مهتبلين نجاح الثورات المضادة والصمت الدولي الجبان فإضطروها إلى التخلي عن الحكم مراعاة للخلاف بالتعبير الأصولي أي نشدانا لإلتئام عرى الوحدة الوطنية مرة أخرى. ولكن المشكلة العامة مازالت قائمة وهي المشكلة الوطنية التي تتعدى حدود الحركة. أي مشكلة تونس التي يراد لها إما أن تحكم قهرا لإرادة الناس أو العودة إلى النظام البايد. خياران كلاهما مر مرارة الرق والإستعباد. ذلك هو المقصود من أن المناخ العربي إقليميا ومشرقيا غير ملائم بالمرة لا للديمقراطية الشعبية ولا حتى للديمقراطية التوافقية التي جربتها الحركة فما شفعت فيها. هل هناك من خيار ثالث ينأى بقارب الثورة التونسية عن الأخطار المحدقة؟ أجل. هو خيار الإنحناء الإيجابي للعواصف الهوجاء درء لأكثر ما يمكن من المصائب فهو مقدم قطعا على جلب المصالح. ربما لا يحتمل هذا المقال تفصيلا في هذا. ولكن الإتجاه معروف ومن سلك طريقا صحيحا لا يزعجه أن يتحمل إلتواءاته وكسوراته ومتاعبه.
المسألة الخامسة :
نجحت النهضة وهي تقود الحكومة السابقة في أمور ثلاثة كبرى :
1 ـ مأسسة الحرية والكرامة بإعتبارهما أول أهداف الثورة. أي إنجاز المجلس الوطني التأسيسي والدستور وما يتعلق بالإنتخابات من قوانين وهيئات وهيئات أخرى وتلك هي المأسسة المطلوبة التي تحول دون إستبداد جديد ولو حولانا جزئيا ونسبيا إذ المعركة طويلة وتاريخية بل هي مخ الوجود ولب الحياة ولا حياة بدونها.
2 ـ حماية البلاد والثورة مما آلت إليه البلاد التي ثار أهلها كلها. لو لم يترشح الإسلاميون من بعد الثورة لقيادة البلاد لما كانت الأيلولة سوى الإيلولة ذاتها أي إستلام البلاد من لدن ديناصورات النظام البايد ليواصلوا مؤامرة محمد الغنوشي ومن قبله القلال لعبا بالفصل الدستوري القديم المعروف. ترشح الإسلاميون فكانت المهمة عسيرة جدا وعصيبة جدا وثارت حولهم العواصف هوجاء تترى من كل صوب وحدب بل كانوا في المرمى الخليجي مباشرة. توفقوا في حماية البلاد والثورة معا من مصاير لا فائدة من توصيفها إذ يكفي النظر إلى الحالة المصرية أو الليبية أو غيرها. واليوم ينجح الشيعة في إحداث إختراق جديد ومهم في الصف العربي أي في اليمن. كانت الحماية للبلاد والثورة عن طريق الإئتلاف الحكومي الثلاثي الذي عرضته النهضة ونجحت فيه نجاحا مقدرا ثم كانت عن طريق التخلي عن وزارات السيادة الثلاث دفعة واحدة ثم كانت عن طريق التنحي عن الحكم بالجملة والتفصيل في إثر قبولها ـ من بعد تردد كبير ـ بالحوار الوطني وخارطة الطريق وغير ذلك مما هو معلوم. أي أن الحركة برهنت حقا وبالفعل على تقديم مصلحة البلاد والثورة على مصلحتها الحزبية الخاصة.
3 ـ حفظ الوحدة الوطنية عن طريق معارضة قانون العزل السياسي. هذا الأمر فيه جدل كبير وحق له أن يكون مسرحا لجدل كبير وكثير. القضية يتنازعها المبدأ مع المصلحة شأنها شأن كل مسألة سياسية تقريبا. كاتب هذه السطور لم يكن في البداية إلا منحازا لإنفاذ قانون العزل السياسي من منطلق مبدئي ووفاء للثورة. فلما سمعت كلاما عميقا جدا خلاف رأيي ظللت مع نفسي لأيام أعاود قراءة المشهد ثم إنحزت إلى معارضة قانون العزل السياسي. أيسر شيء عليك أن تتهم غيرك بالخيانة والكفر ولكن الأيسر منه لو دققت وحققت هو نصب ميزان المصالح والمفاسد من جهة ونصب ميزان المحلي والدولي من جهة أخرى ونصب الآني المرحلي والإستراتيجي البعيد من جهة ثالثة أي إكتساب العقل المركب لمعالجة قضية مركبة. عندما يتولى الشعب بنفسه إنفاذ العزل السياسي في إنتخابات نزيهة شفافة ديمقراطية تكون الثورة قد تسلحت بعتاد منيع. أما عندما ينفذ ذلك من لدن حركة إسلامية ظلت في حرب دامية مع ذلك النظام البايد لعقود كالحات طويلات فهو مرحب به عربيا ودوليا وهي مرفوضة..عندئذ يمكن للبلاد بيسر شديد أن تمر إلى الحرب الأهلية سيما أن الحمقى الذين يمتطون صهوات تلك الحرب الأهلية ليسوا قلة عددا وما لهم من الحصافة والرشد حبة خردل.مقاومة النظم البايد شيء مختلف تماما عن مقاومة المحتل. السلاح غير السلاح.
هل أخفقت الحركة في الموضوع الإقتصادي؟
رجلان كانا على خطإ شنيع. أولهما الذي كان يظن أن فوزه في الإنتخابات في تلك الظروف العصيبة جدا ـ والحرائق من حوله تتربص به ـ كفيل بجعل الموضوع الإقتصادي أولوية على أولوية تأمين الثورة من الردة أوّلا. وثانيهما الذي كان ينتظر من حكومة النهضة في تلك الأيام القاسية إيلاء أي إهتمام بالموضوع الإقتصادي. الرجلان تناسيا أمرا مهما جدا وهو أن الثورة إحتضرت قبل وصولها إلى خط النهاية ومن علامات ذلك أن الإستثمارات الإقتصادية التي خطط لها كانت تصطدم بقوانين العهد البايد. ربما ساقنا الغرور أو حبو الأطفال فأطلقنا على الثورة إسم الثورة. ثورة يحكمها قانون الرجل الذي وضع البلاد كلها لخدمة آله وصحبه. عندما يكون بيتك معرضا للنسف في كل آن وأوان لا أظنك تفكر في قوت العيال. لذلك يكون هذا السؤال خاطئا. وعندما نغفل عن الأسئلة الخاطئة فنطرحها لا تكون المعالجة إلا خاطئة بالضرورة.
المرحلة المقبلة لها تحديات ثلاثة كبرى :
التحدي الأول :
مواصلة مشوار تأمين الثورة وقد يكون ذلك أيسر هذه المرة بسبب إخفاق أعدائها في كسر شوكتها في المرة المنصرمة رغم أن الظروف كانت أيسر وقد لا يكون ذلك إلا بجهد إضافي أكبر من الجهد الأول بسبب حالة المخاض العسيرة جدا التي تهز الكيان العربي. تلك هي طبيعة الثورات لا يستقر لها الأمر إلا من بعد تضحيات من فوقها تضحيات ومن بعد سنوات وسنوات.
التحدي الثاني :
معالجة الموضوع الإقتصادي بمستوييه الآني العاجل والإستراتيجي الآجل أي ذات الطابع الإستثماري. عندما نفرغ من مأسسة الحريات وإشاعة الكرامات ثقافة ومقاومة فإن المطلب التالي مباشرة هو مطلب العدالة الإجتماعية. وددت لو وقع الإعلان في الدستور نفسه على أن تونس دولة إجتماعية تكافلية إذ القوانين مهما علت وتعبئ لها فإنها تظل دون العلوية الدستورية. ربما تكون العدالة في إتجاه عمارة المناطق المهمشة سيما في الشمال الغربي ذات أولوية وخاصة في المستوى الإستثماري. مازالت قناعتي مفادها أن لتونس فرص واعدة لتكون محضنا لصناعة فلاحية وزراعية وبحرية متقدمة وقادرة على المنافسة في غضون سنوات.
التحدي الثالث :
تفعيل قانون العدالة الإنتقالية بإختصار شديد جدا. ولكن الأمر مرتبط في فهمي بالأمرين السابقين أي تأمين الثورة أن ينجح أزلام النظام البايد في إغتيالها أو تعويقها من جهة و بعث الأمل في الناس بمعالجة الموضوع الإقتصادي معالجات جدية ومثمرة من جهة أخرى أما دون ذلك فإن تفعيل ذلك القانون قد يكون ضربة أخرى في خاصرة الثورة.
فمن هو الأجدر بثقة الناخب إذن؟
الهادي بريك ـ ألمانيا
brikhedi@yahoo.de