هل من كلمة منصفة في بورقيبة؟

سبق للعبد  الفقير أن كتب قبل الثورة وبمناسبات وطنية زهاء ثلاثة مقالات متوسطة الطول في الراحل بورقيبة. اليوم يثار الموضوع من جديد وحقّ له أن يثار لأسباب إيديولوجية حزبية في الأعم الأغلب ولا علاقة لها بالقامة الطويلة للراحل الذي يستقوي به اليوم الحداثيون المزيفون و يحاول آخرون إهالة التراب على أبرز رجل في التاريخ المعاصر لتونس. المعركة ليست حول بورقيبة ولكنها تتخذ الرجل الراحل حقلا لها ومساحة خصبة لتصفية الحسابات. وبهذه المناسبة فشلت في تأخير قلمي عن وطء الموضوع مجددا سيما أن المغالين في الرجل يرتفع صوتهم عاليا و الدافنين له يجهلون كثيرا من أدب الحوار وفقه الإجتماع السياسي.

بادئ ذي بدء لا بد من التذكير بأن الرجل الراحل صاحب مشروع فكري ثقافي حضاري جامع وهذا لم يتسنّ لغيره من زعماء العرب في العصر الحديث فلا عبد الناصر ـ وله هو كذلك عبيده من الجمهور ـ إرتقى إلى أن يكون صاحب مشروع ولا الراحل المرحوم صدام حسين. ولا يليق بالذي يحترم نفسه أن يحاول عبثا محو أثر الرجل ومشروعه من البلاد بكلمة أو جرة قلم. الماضي مضى وسلف وإنقضى وله ما له وعليه ما عليه ولكن واجبنا هو بسط التجربة البورقيبة ـ وليس بورقيبة ـ فوق طاولة الحوار لإستخلاص العبر إذ ليس هناك مخلوق في رصيده صفر سيئة إلا جبريل عليه السلام وليس هناك مخلوق في رصيده صفر حسنة إلا إبليس. ولا أظن أن بورقيبة يرتقي لا إلى درجة الملائكية ولا ينحط إلى سحيق الإبليسية. البورقيبية تراث عربي وتونسي و معالجة التراث لا تكون لا بالركل  المطلق شيطنة وأبلسة ولا بالتقديس المطلق.

هذا ميزان البورقيبية في تقديري.

1 ـ حسنتان كبيرتان للرجل الراحل علينا تطويرهما.

أ ـ حسنة كبرى عنوانها : بناء الدولة العصرية ونحت الإدارة المنظمة.

بورقيبة رجل غربي خالص وفرنسي خالص بالتحديد. درس هناك وإنصهر هناك وتشرب الغرب بعجره وبجره كما لم يتشربه كثير من الغربيين أنفسهم. هو رجل إرتدى بيئته التي فيها ظمأ عقله فأرتوى. الدولة العصرية ذات الإدارة المنظمة معناها الإنتقال من طور الريع القبلي والعشائري الذي مازالت عليه كثير من البلدان العربية والإسلامية وغيرها في إفريقيا وآسيا. بكلمة واحدة مختصرة : بورقيبة بنى الوعاء الإداري والقانوني للدولة التي تنظم شؤون الناس ولكنه ملأ ذلك الوعاء بسوائل مشروعه وهذا من حقه ولسنا هنا في محل الحكم على مشروعه الذي سيأتي الحديث عنه لاحقا. لو لم يبن بورقيبة دولة ذات إدارة عريقة في تقاليدها الخدماتية لكان مصير تونس بعد الثورة كمصير ليبيا الذي حكمها الهالك القذافي أزيد من أربعة عقود كاملات فأحالها صحراء قاحلة قاحطة لا أثر فيها لنظام. إستيراد بورقيبة للتجربة الغربية في الإدارة الحكومية ليس عيبا لسبب واحد هو أن تجربتنا العربية الإسلامية وقد أنهكتها الإرتدادات الحضارية لم تسعفنا بمثل ذلك وليس من شرط ذلك أن الرجل كان سيستورد التجربة الإسلامية. ولكن لا يليق بنا أن نعيب الإقتباس عندما يكون في محله.

ب ـ حسنة كبرى أخرى عنوانها : المراهنة على التعليم.

لا أظن أن هناك من يجادل في أن الرجل غربي خالص وفرنسي خالص وأنه متشبع بفكرة قلّ وندر اليوم من يتشبع بها وهي أن الإنسان يقاد من عقله ولذلك بنى الرجل مشروعه على التعليم والتفكير والتثقيف والتنوير وبسط محاضن التعليم في كل ربوع البلاد وغرس في كل ربع معلما وسبورة وخرطوشة طباشير وممحاة. ومرة أخرى أقول أن الرجل صاحب مشروع حضاري جامع ـ أعي ما أقوله بالتمام والكمال ـ وهو يطوع له الإدارة الحكومية والدولة ومؤسساتها وكذا الخطة التعليمية التي وضعها. ملأ الأرض مدارس ومعلمين ولكن أوكل إليهم جميعا تنفيذ خطته. وهذا من حقه في هذا المستوى من الكلام. المهم صبرا عليّ. ألا يشرف بورقيبة وهو بين يدي ربه سبحانه إن شاء غفر وإن شاء عذب أن تكون تونس هي الوحيدة عالميا تقريبا على إمتداد سنوات حكمه صاحبة وزارة سيادة لا وجود لها في العرف الدولي إذ وضع الرجل بحساب الميزانية السنوية كتابة الدولة للتربية القومية وزارة سيادة فعلا. هذا مؤشر كاف يعطيك صورة عن الرجل وعن مشروع الرجل.

 

وحسنات أخرى بعضها صغير وبعضها يخل بالمقال الذي لا أريد له الإنسياب ومنها بسط العناية الصحية في حدودها الدنيا قدر الإمكان في ربوع البلاد والقيام على التلقيحات اللازمة. ومنها كذلك أن الرجل لم يمكن أيا من أهله وعشيرته من المال العام. كان الرجل يحدب على تونس حدبا ولكنه يريدها تونس الفرنسية الغربية وتحقق له مما يريد بأقدار. لم يكن الرجل سوى وطنيا بالمعنى السياسي وليس بالمعنى الثقافي وكان فخورا بنفسه متعاليا بين الكبار حتى وهو يعلم أنه يقود قاربا صغيرا في زحمة سفن حربية عظمى. كانت هناك فوارق إجتماعية دون ريب وكان هناك فساد دون شك. ومن تلك الحسنات التي لا يريد ذكرها المتمسحون اليوم بضريحه في  الفضائيات الإعلامية أن الرجل كان يبغض الشيوعية والماركسية بغضه للإسلام والعروبة سواء بسواء وما ذاك سوى لوفاء الرجل لطينته الفرنسية الليبرالية الرأسمالية في تلك الأيام التي شهدت الحرب الباردة الساخنة بين القطبين الغربيين. ولذلك بادر عبيد الفكر الغربي فينا إلى القول بأن الحركة الإسلامية هي صناعة بورقيبية لمعالجة المد الشيوعي الماركسي بما يستحقه. الهراء كالثغاء لا أثر له أو هو كالغثاء لا دسم له.

2 ـ سيئتان كبيرتان كذلك علينا تجنبهما.

 أ ـ سيئة العداوة الضارة للهوية العربية الإسلامية.

 هذه هي أكبر سيئات بورقيبة وهي التي ربما ترجح ميزانه ولكن مذهبي أني أدع بورقيبة لرب بورقيبة سيما من بعد رحيله وقد شرفتني أقدار الرحمان سبحانه بمعارضته فكريا وسياسيا وعوقبت بالتعذيب والسجن في عهده. كما يقوم مذهبي على نقد البورقيبية لا بورقيبة. الرجل بنى مشروعه التغريبي الإلحاقي الإستلابي على أنقاض الإسلام والعروبة دينا ولسانا بما لا يدع مجالا لأي شك بل الرجل شجاع جريء في إعلان ذلك ولم يكن خداعا منافقا يظهر ما لا يبطن إلا في مناسبات قليلة في المشرق. عمل الرجل الراحل على الإطاحة بمفخرة تونس العظمى جامع الزيتونة وكان يمكن له إصلاحه. وتهجم علنا على أكبر مقدسات الإسلام من مثل القرآن الذي وصفه بالتناقض ومحمد عليه السلام الذي قال فيه ما لا يليق برجل مثله. العبد الفقير رجل تربى في مدارس بورقيبة بالكلية ولي مع خطته التربوية التعليمية حنين خاص وأقدر حسناته ولا يلجم لساني أن يترحم عليه سوى أني سمعته بأذني هاتين ـ وليس نقلا منقولا ـ يستهزأ بالرجل القدوة العظمى عندي أي محمد عليه السلام وما كان لي أن أجمع في لساني بين الصلاة والسلام على محمد عليه السلام وبين الترحم على بورقيبة الذي لا أبخس قدره. العبد الفقير وقد أتم دراسته لم يتعلم في برنامج بورقيبة مادة واحدة باللسان العربي عدا اللسان العربي نفسه. بكلمة واحدة مختصرة : كان الرجل الراحل مغاليا كما لم يكن مثله سوى أتاتورك في بناء مشروع حضاري جامع قوامه الفرنكفونية والعالمانية المتطرفة الشديدة على أنقاض هوية عربية إسلامية كان لها ذات يوم في تونس الزيتونة شأن وأي شأن.

ب ـ سيئة الإستبداد السياسي.

هذه هي السيئة الثانية وهي كبيرة كذلك إذ ظل الرجل يطارد المعارضين بدءا بالزيتونيين واليوسفيين ومرورا بالشيوعيين والنقابيين والليبيراليين حتى إنتهى إلى الإسلاميين في آخر أيام عمره. ناهيك أنه فرض على مؤتمر صفاقس 1975 إنتخابه مدى الحياة بما مهد لصهره المرحوم حسيب بن عمر وأبي الديمقراطية كما يسميه الشيخ الغنوشي أي أحمد المستيري الخروج عن الحزب وتأسيس تيار ليبرالي ديمقراطي أثمر من بعد ذلك الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان ثم حركة الديمقراطيين الإشتراكيين ثم جريدة الرأي الغراء ثم بدأت سطوة بورقيبة وبطشه يهرولان نحو الترجل والترهل. بورقيبة خصيم عنيد ضد  الديمقراطية دون ريب. رجل يتعاظم في نفسه كثيرا ويتعالى وهذا أودى به كثيرا.

3 ـ وواحدة أخرى يختلط فيه الحسن مع القبح : التركيبة الإجتماعية.

وهو ما يسميه علماء الإجتماع التذرير الإجتماعي. الأمر الذي أولاه المشروع البورقيبي أهمية قصوى منذ البداية إذ عمد إلى شن حرب على البناء القبلي التونسي وخاصة في خطبه وكلماته الكثيرة فهو زعيم ميداني بحق وليس مجرد رئيس ولا مفكر ولا صاحب مشروع يديره من خلف مكتب. بالنتيجة عولجت البنية القبلية التونسية بضربات موجعه كان بورقيبة يقصد منها ربط المواطن بالدولة مباشرة بما يسهل له قيادة المجتمع أو السيطرة على مفاصله التي يمكن أن تناصبه العداء ونجح في ذلك نجاحات كبيرة. الحصيلة هي أن التركيبة التونسية ذات اللون القبلي إندمجت في الدولة المركزية الواحدة المهيمنة. هذا فيه جانب إيجابي وجانب سلبي معا. إيجابيته تكمن في مراجعة البنيات القبلية العشائرية القديمة لصالح فقه إجتماعي سياسي جديد يضمن المقصد العام من التلونات الإجتماعية أي رص الصف الوطني الواحد رغم تعددياته. السلبية هي أن المشروع البورقيبي غالى في ذلك من جهة ووظفه لصالح طاعة الدولة المركزية المهيمنة وبسط نفوذها وليس لصالح التكافل الإجتماعي الأهلي التلقائي.

ذلك هو ميزان البورقيبية في تقديري. هو ميزان يختلط فيه الصالح مع الطالح  والمهم اليوم أن نجتمع على فضائل ذلك المشروع لتنميته وخاصة في المستوى الإداري والتعليمي إذ هما عماد أي دولة ديمقراطية حديثة ثم ندع السيئات والسلبيات. الرجل نجح بمشروعه في صنع جانب كبير ومهم من تونس. لا يشطب نجاحاته إلا جاهل أو عنيد. مذهبي هو : بدل أن أركل التجربة وأسفهها بالجملة والتفصيل أو أن ألعن وأسب هو أن أفهم الأسباب والمناخات والسنن إذ أن الرجل كان في حضن بيئة غربية فرنسية بالكامل في المستوى الفكري والثقافي. اليوم تراجع ذلك المشروع دوليا. أظن أنه يسعنا أن نتعاون على إلتقاط التجربة الديمقراطية بنسختها الغربية ـ أعي ما أقول جيدا ـ لتجاوز سلبيات البورقيبية إذ أن الديمقراطية بدلالتها الفكرية الإستراتيجية هي قارب النجاة وسفينة الإقلاع بين ماض تليد حكمته في العالم الإسلامي سنن أخرى وبين مستقبل مبشر بالإسلام الديمقراطي والخطر الإرهابي يتهددنا جميعا فلا يقتل ماركسيا ليدع إسلاميا.

وإذا كانت العرب قد قالت في القديم على لسان بعض حكماء شعرائها ( ألا بضدها تتميز الأشياء) فإن آلية المقارنة لإنصاف بورقيبة من خصوم بورقيبة ومن عبيد بورقيبة سواء بسواء فإنه مناسب جدا أن  نتحاور حول البورقيبية مقارنة مع إرث المخلوع بن علي. وشتان بين مستبد غربي سلاحه عقل وعصا وبين سفاح جهول سلاحه العصا والعصا ثم العصا.

الهادي بريك ـ ألمانيا ـ تونس

brikhedi@yahoo.de

 

 

شاهد أيضاً

قصة يونس عليه السلام

هو يونس إبن متى عليه السلام أحد الأنبياء المرسلين المذكورين في القرآن الكريم وحملت سورة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *