هلاّ فحصت قلبك بمحرار الإيمان؟

قال النبي الأكرم محمد صلى الله عليه وسلم : „ ثلاث خصال لا يغلّ عليهن قلب إمرئ مؤمن أبدا : إخلاص العمل لله ومناصحة ولاة الأمر ولزوم جماعة المسلمين “. رواه زيد إبن ثابت وأخرجه أحمد وغيره

القلب قائد السفينة ماديا ومعنويا
الإنسان مركبة فضائية تمخر عباب هذا الكون الفسيح الشاسع محكومة بقوانين فزيائية وكيميائية وتسير في فلك مرسوم مثلها مثل المركبات والكواكب وكلها محكومة ومسيّرة وسابحة في فضاءات محددة لا تتجاوزها سوى أن الإنسان كرّم بملكة العقل التي تجعله مستخلفا مسؤولا مستأمنا مكلفا أي حرّا حرية مقيدة تتوافق مع المهمة التي لأجلها خلق وأخرج . الإنسان سفينة فضائية ـ إذ أن كل الوجود فضائي سابح ليس مشدودا بشيء ولا لشيء عدا القوانين المغناطيسية المودعة فيه أو في محيطه ـ لها سفن ـ أي قائد سفينة ـ وقائد سفينة الإنسان هو القلب. هذا القلب هو المسؤول عن عافية تلك المركبة الفضائية ماديا أي بدنيا وجسميا كما يؤكد ذلك الأطباء وهو المسؤول عن عافية المركبة نفسها روحيا وفكريا ومعنويا وذلك لقوله الصحيح عليه الصلاة والسلام : إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب. وهذا كذلك مشهود به اليوم إذ أن الفساد الروحي ـ والمعنوي بصفة عامة ـ سببه فساد القلب. لئن تواضعنا اليوم بسبب التقدم العلمي أن القلب ماديا هو تلك المضغة الصغيرة التي تضخ الدماء الجديدة إلى كل الشرايين التي تمتد بآلاف الأميال داخل الكيان البشري فإن القلب روحيا ظل مجهولا بمثل ما قال ذلك الطبيب النمساوي الشهير ـ عليه رحمة الله سبحانه ـ ألكسيس كاريل في كتابه الذي كنا نعتمده حجة برهانية دامغة وغير مدحوضة ضد الشيوعيين والماركسيين في سبعينيات القرن الميلادي المنصرم أن الله موجود في حين أنفهم ينفون في تلك الأيام ذلك جملة وتفصيلا. عنوان كتابه هو : الإنسان ذلك المجهول. القلب إذن هو قائد السفينة الفضائية الإنسانية جسما وروحا دون خلاف في ذلك سواء عثرنا على ماهية للقلب الروحي أم كان هو الفؤاد أم النفس أم الروح أم غير ذلك. ومن ذا كانت أغذية القلب الروحية لازمة وضرورية كمّا وكيفا بمثل ما يتغذى به القلب المادي لزوما وضرورة كمّا وكيفا وذلك لأجل ضمان قيادة واعية وصحيحة وسليمة للسفينة البشرية

محرار الفحص القلبي ثلاثي الأبعاد مزدوج التركيب
ذاك ما يبثه إلينا الحديث النبوي الصحيح المنشور أعلاه. أي أنه إذا كان للطبيب محرار مادي يقيس به النبض ويؤشر له على إرهاصات مرضية أو صحية للإنسان الذي هو بين يديه فإن للطبيب الروحي مثل ذلك. بداية فإنه لا طبيب روحي في الإسلام عدا الإنسان لنفسه بنفسه فهو وحده من يعرف عافيته النفسية وصحته الروحية وهو الأكثر أهلية على تقدير المعالجات إن شاء. الطبيب الروحي ـ أي الإنسان لنفسه بنفسه ـ يحتاج إلى محرار يقيس به الأنباض المعنوية لقلبه. يحتاج ذلك لمعرفة المؤشرات المرضية والصحية إذ لكل شيء مفتاح ومقياس ومعيار سنة مسنونة مبثوثة في الكون. طبيب الأرواح ـ أي الوحي الكريم المتركب من الكتاب والسنة ـ يرشدنا إلى أن محرار القلوب روحيا يتكون من أبعاد ثلاثة وتركيبات ثلاثة. فما هي؟

العلامة الأولى لصحة القلب معنويا هي : الإخلاص
الإخلاص أمر يعاش ولا يحكى شأنه شأن كل المشاعر الباطنية والأحاسيس الروحية والعواطف الداخلية. بل إن الحديث عنها في بعض الأحيان يلوثها أو يطمس آثارها أو يثمر أضدادها كما يثمر الحديث من لدن الإنسان عن إخلاصه رياء. الإخلاص قيمة أخلاقية ضرورية لضمان حياة سعيدة للإنسان تؤمّن حرماته وكراماته وحرياته ولكن يقتصر دوره على التذكير والحث والتحريض والحض قصصا وتمثيلا وغير ذلك. فمن تجاوز ذلك التذكير فقد تجاوز حدوده لأن العلوم والمعارف التي يراد منها الإستقامة عادة ما يكون إكتسابها ذاتيا ولذلك نفسه قال عليه الصلاة والسلام :“ إنما الحلم بالتحلم ” . كما قال : إنما العلم بالتعلم . كما قال : إنما الصبر بالتصبر. وغير ذلك مما قال أي أنه يريد أن ينفث فينا أن الكسب والإكتساب والتحصيل أمور ذاتية إبتداء وذلك هو معنى مسؤولية الإنسان على نفسه فهو من يرسم حياته ويخط خارطة سعيه كما يشاء ويريد بل إن الله سبحانه نفسه ضمن له ذلك في قوله :“ فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر “. إخلاص العمل معناه باللغة المعاصرة التي يفهمها كل إنسان صرف الإنسان لنفسه ـ أي لشخصيته وحياته ـ إلى من يعتقد أنه يملك له الإغاثة والنفع والضر والتيسير وبغض النظر عن صحة الوجهة التي يخلص إليها الإنسان نفسه فإن هذا المسعى يوحد الشخصية الإنسانية ويلم شملها ويجمع شعثها فلا تظل شخصية مترددة حائرة. ذلك هو مقصد الإخلاص أي ضمان الوحدة ونبذ التشتت وتأمين القصد وطرد التردد وهو أمر لا بد منه للمضاء في المشاريع وخوض الحياة بمثابرة وجد وكد فإذا كانت الجهة التي يخلص لها الإنسان أمره وحياته جهة صحيحة فإن الإخلاص المبذول منه يكون في إتجاهه الصحيح أي كمن زرع حبا في مكانه وزمانه فهو يجني منه ما يجني. الجهة الصحيحة هي الله سبحانه طبعا دون أي ريب

العلامة الثانية للعافية النفسية هي : لزوم الإيجابية ونبذ السلبية
ذلك هو معنى قوله عليه الصلاة والسلام : مناصحة ولاة الأمر. لا يغرنك أن التعبير قديم وأن الأبنية المستخدمة هنا لم تعد مستخدمة اليوم إذ العبرة بالمقاصد وليس بالأشكال أي بالمعاني وليس بالمباني وهي قاعدة منطقية عقلية إستوردها الأصوليون فحسب. مناصحة ولاة الأمر مقصدها الإنخراط في الشأن العام من لدن الإنسان أو إكتساب صفة المواطنة إيجابيا بالتعبير المعاصر. يمكن أن يكون الشأن العام سياسيا أو ماليا أو إجتماعيا أو إغاثيا أو إعلاميا أو حقوقيا أو تربويا أو غير ذلك مما لا يحصى ولكن المهم هو أن يقف الإنسان من الحياة والفاعلين فيها موقفا إيجابيا ليسند ما يراه حقا ويعارض ما يراه باطلا ويساهم في جانب ما يراه خيرا ويخصم ما يراه شرا وقل مثل ذلك على الفضيلة والرذيلة في كل حقل ومجال. المقصود من مناصحة ولاة الأمر هو نبذ السلبية لأن الأمر العام جار بالطبيعة فلا يتوقف فإما أن تساهم فيه وإما أن تكون فيه مفعولا بك والمفعول به في الحياة السياسية اليوم مثلا يكون سجينا أو حبيسا أو طريدا أو مغلوبا على أمره لا يملك حتى حق الصراخ. لقد قال المرحوم أربكان كلمة بحق عظيمة : إذا نبذ المسلمون الإهتمام بالسياسة فإن غير المسلمين سيهتمون بالسياسة ولا يهتمون فيها بالمسلمين. كما قال رجل آخر كلمة مثلها وهو الدكتور أحمد الريسوني إذ قال أن من تدين فلم يتسيس فقد ترهبن ومن تسيس فلم يتدين فقد تعلمن. كلمة المناصحة تتجاوز اليوم صورها الإبتدائية التقليدية لتكون معارضة سياسية حزبية أو مستقلة أو لتكون مشاركة في الحكم كما فعل يوسف عليه السلام في دولة لا إسلامية إبتغاء حقنها ولو بملمتر واحد من العدل أو إيقاف الفساد المتدحرج بل إن ذلك يعد فريضة وطنية حتى لو كان المأمول لا يتعدى تثبيط وتيرة الفساد لتكون سرعتها أدنى مما هو سابق. إبتلينا اليوم بطائفتين من الناس : طائفة تزاول السلبية من خلال الإبتعاد عن الشأن العام بدعوى كثرة الفساد وفساد السياسسين ومؤسساتهم وأن ذلك أطهر للدين وما هو بأطهر بل ذلك هو التلوث عينه. وطائفة تزاول السلبية من خلال التكفير بالجملة والتفجير بالجملة بدعوى أن الفساد غشي الحاكم كله والمحكوم كله فلا أمل إلا في قتل كل الناس والإتيان بآخرين جدد. كلاهما يفكر خارج التاريخ والجغرافيا طبعا

العلامة الثالثة للعافية النفسية وصحة القلب هي : لزوم الجماعة أو الأمة
لزوم الجماعة معناه لزوم الأمة والأمة هي الأمة الإسلامية أوّلا ثم العربية ثانيا ثم الوطنية ثالثا و يمكن أن يختلف ذلك الترتيب بحسب الإهتمامات والمجالات. بل إن الأمة الأولى هي الأمة البشرية الإنسانية الكبرى إذا تعلق الأمر بأمور مشتركة بين الناس فطريا وجبلّيا وغريزيا كما هو الحال اليوم في قضايا الشذوذ الجنسي وغيره مما يجمع البشرية كلها جمعاء قاطبة تقريبا حولها. في القضايا المتعلقة اليوم بالأقصى الشريف والحرمات التي لا تشد الرحال إلا إليها والمتعلقة بالمقاومة ونبذ التطبيع مع العدو الصهيوني وغير ذلك فإن الأمة المقصودة هي الأمة الإسلامية وفيما يتعلق باللسان العربي فإن الأمة المقصودة هي الأمة العربية لأن الأمة التركية التي نشترك معها في الدين نختلف معها في اللسان ولا ننعي عليها تقديمها للسان التركي. وفي القضايا المتعلقة بالديمقراطية مثلا أو الحريات والعدالة وغير ذلك والوحدة الوطنية في حدود الوطن الواحد فإن الأمة المقصودة هي الأمة الوطنية أي الجماعة الوطنية التونسية مثلا. وهكذا تؤخذ القضايا بحسب الحقل وبحسب الرقعة الجغرافية لأنه لا قيمة للقيم الأخلاقية النبيلة إلا بمشروعيتها الواقعية وإلا ظلت أحلاما طوباوية. لزوم تلك الأمة ـ ولو كانت جماعة وطنية محلية ـ ضامن من أكبر ضمانات إنغراس الإنسان في بيئته المناسبة فكرا وعقيدة وخلقا وعملا. ذلك يؤمّن عدم خروجه على تلك المجموعة مهما علا إختلافه معها

الخلاصة
الإنسان مركب فضائي عائم والقلب قائد ذلك المركب ماديا وروحيا وله أغذيته الكفيلة بتأدية دوره والقيام برسالته. القلب بمعناه الروحي يفحص بمفاحص ثلاثة دوريا من الإنسان لنفسه بنفسه حتى يفعل بقلبه وقائد مسيرته كما يفعل صاحب السيارة بسيارته أي يتعهدها مرة في العام أو في العامين دوريا لتأمين نفسه وتأمين السيارةـ أي الناس ـ من حوله وهو ما يعرف بالفحص الفني. القلب قائد المركب يحتاج إلى فحص فني دوري ينخل فيه تعلقه بقيمة الإخلاص هل هو يوجه حياته إلى جهة واحدة أم إلى جهات وهل أن تلك الجهة هي الجهة الصحيحة أم لا. كما ينخل تعلقه بقيمة الإيجابية ونبذ السلبية أي إهتماما بالشأن العام في أي حقل من حقوله. كما ينخل تعلقه بقيمة الإنتماء وبنذ التيه الحضاري إذ عدم الإنتماء ضياع ثقافي فمن إنتمى إلى جماعة وجب عليه لزومها حتى مع الإختلاف معها إذ الإختلاف معها حقه المناصحة ولو معارضة سياسية وليس المفارقة .

الهادي بريك ـ ألمانيا
brikhedi@yahoo.de

شاهد أيضاً

ترشيح اليهودي في ميزان الإسلام

هممت في بداية هذه العاصفة ـ ترشيح يهودي تونسي على قائمة حزب النهضة بمدينة المنستير …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *