نصيحة إلى ( النهضة ) : التضحية بالديمقراطية أثمرت في الأمة ملحا أجاجا

وقر في وعيي وقرا أن التاريخ مرآة عاكسة تلقن الأمم عظات بمثل ما يتوفر لسائق الحافلة بالتمام والكمال ومن ذا إمتلأ الذكر الحكيم حتى ثلثه وأزيد بالقصة التاريخية وعلل ذلك ( والثلث كثير كما قال عليه السلام ) بأنه ضروري لإلتقاط العبرة. كما وقر فيّ وقرا أن الأمة كتبت مآل تطورها عندما عالجت الخلاف السياسي بين معاوية والحسن ( بما سمي رواية أموية رسمية جاثية ثاوية عام الجماعة أي 40 هج) بتقديم الوحدة رصا للصف الواحد كما يرص الصوف وتأخير حق الإنسان في إختيار من يخدم شؤونه ويدوله دولة. هذه الكلمات ليست لأحد سوى لمن يشاركني هذه الخلاصة : عندما ضحت الأمة بالحرية بزعم أن وحدتها مهددة فقبلت سلطان السيف لمرحلة إنتقالية عسيرة لم تكن تدري أن تلك اللحظة ستحكمها أربعة عشر قرنا كاملة إذ عربد السيف وأخمد الحريات وألجأ المصلحين ( أكثر الفقهاء العظام ) إلى حفظ هوية المجتمع ولم يعدم أرباب السيف حجة العربدة وإلغاء الحريات إذ كانت الفتوحات تنداح شرقا وغربا وما إن شاخت التجربة حتى بدأت الحواضر السياسية والعلمية العظمى تسقط واحدة من بعد الأخرى فمن المدينة إلى بغداد ومنها إلى غرناطة ثم سقطت آخر حبات العقد ( القسطنطينية ) قبل قرن من أيامنا هذه وليست ثمرة تقديم سراب الوحدة والتضحية بالحريات عدا تعرضنا لنكبات خارجية منها سايكس وبيكو وبلفور والغزو العسكري والفكري وصناعة هوية علمانية تنافس الهوية الإسلامية في عقر دارنا وإنتظام الإستبداد وراثة ملكية أو إنقلابات عسكرية أو جمهوريات دكتاتورية. تلك حقيقة تاريخية الأعمى عنها أعمى وغير الواعي بها لا مكان له في الإصلاح السياسي. ومن سخريات ذلك التطور الأعمى في تاريخنا السياسي الأسود ( السياسي وليس عدا السياسي ) أن إلتجأ الفقه الأصولي ( غياثي الجويني وغيره ) إلى خطاب تبريري فجّ عنوانه : أحقية السيف وغلبة العصبة حفظا للوحدة وبذلك تعقدت مهمة الحركة الإسلامية المعاصرة ( النهضة نموذجا ) إذ ألفت أن مقاومة الإستبداد تبدأ من مقاومة ما أسماه إبن نبي بالقابلية له أي أن المشكلة ليست في نظام عربي مرد على ذلك بل المشكلة الأعوص هي في نظام ثقافي فقهي ونسق فكري تختزنه الأمة كابرا عن كابر قوامه طاعة ولي الأمر حتى لو جلد ظهرك وأخذ مالك وبذا تأخرت ثمرات الحركة الإسلامية المعتدلة المعاصرة.

سنن الله في العمران غلابة :

وقر فيّ وقرا أن الله لا ينصر المسلمين لأنهم مسلمون ولا يخذل الكافرين لأنهم كافرون وهو مصرح به في سورة الإسراء وغيرها سنة مسنونة وقانونا ماضيا مطردا لا يتخلف. لم أتردد ولن أتردد في القول والكتابة أن الله ( عند من يؤمن أن النصر بيده وحده سبحانه ) لن ينصر بخطابنا المعاصر إلا من إستوفى شروطا منها الديمقراطية التي مخها تقديس الحرية منّة المنان على الإنسان ومن ذا أخذ سبحانه الدول التي ساندها الغرب طويلا لما أثخنت في الدماء المهراقة بلا حق والأموال المنهوبة ( المخلوع بن علي مثلا حيا ). حزب النهضة لن يكون إستثناء من الناموس الإلهي وليس له من ملتحد سوى ملتحد الإعتصام بالديمقراطية ولن ينصر في معاركه الكثيرة والكبيرة بسبب حفظه للهوية الإسلامية إذ أن نصر الله في الدنيا لا يكون بسبب الدين أو الكفر ولكن بسبب الأخذ بسنن إلهية أفصح عنها الكتاب العزيز قصة ومثلا وأدلة كلية عظمى.

الديمقراطية في ( النهضة ) هي العاصم جردا تاريخيا :

لم تكن ( النهضة ) لتكون ديمقراطية لولا مراجعات فكرية بل لولا عمليات جراحية مؤلمة ولولا أن المقام هنا لا يسمح رعاية لإعتبارات لمّا يطويها الزمن الطاوي لذكرت من ذلك ما ذكرت. خلاصة ذلك المحذوف المقدر لداعيات السياق هي أن المعركة حول الديمقراطية داخل ( النهضة ) كانت دوما معركة حية وإيجابية ولها ـ مثل اليوم ـ فرسان لا يخافون في الله لومة لائم ولها ـ مثل اليوم ـ ثعالب تحيط الفكرة بثوب من السراب قشيب وعينها على ما قد يخلفه من بعده صاحب الحصة الأكبر والأدسم في الفريسة لتحل محله. الديمقراطية كسب مكسوب مثل التقوى وليست إرثا موروثا ولا جبلة إذ أن الجبلة التي صنعها صاحبها أخبرنا أنها فجور على معنى الإستئثار بالسلطة ومن ذا تكون الديمقراطية معركة على أولئك الفرسان تقحمها راجين أجر الآخرة وثواب الله وليس زلفى من هذا أو قربا من ذاك أو أملا في مكان في مؤسسة قيادية أو في حكومة. الديمقراطية تكون معركة يغلب عليها اليسر في ساعات العسر وتكون معركة يغلب عليها العسر في ساعات اليسر وهو حال ( النهضة ) اليوم.

كلمتان في الختام :

الكلمة الأولى : ليس مناسبا البتة نشوء ما نقرأه في الفضاء العام ـ وليس في الفضاء الخاص كما يشهد بذلك الفضاء نفسه ـ من أوار عاصف بمناسبة معالجة القيادة لقائمات الترشيح. ليس مناسبا إستراتيجيا بسبب أن النهضة هي الأولى ( اليوم هي كذلك عربيا وإسلاميا وليس تونسيا أو إقليميا فحسب ) بتقديس قيمة الحرية والنأي بلؤلؤة الديمقراطية التي عصمتها في السالفات. وليس ذلك مناسبا في الوقت بسبب أنا قد دخلنا في الزمن الإنتخابي كما يقول الإعلاميون وبعد مخاضات ولادة عسيرة ومحاولات إنقلابية جادة وكادت تنتصر من لدن أعداء الثورة ( النظام القديم وكثير من أطياف اليسار الإستئصالي وأرباب المال ) لولا ألطاف الرحمان سبحانه. نشوء هذا الأوار اليوم ليس مناسبا.

الكلمة الثانية : بين السياسة والقانون علاقات وصل وفصل أما أن يرعيا معا توازيا وتلازما أو ينزع المسار إلى فقدان الثقة وزعزعة الأمل في أن هذا البديل يحمل في رحمه ما بسببه ذهب الشهداء إلى ربهم. القانون وحده لا يكفي إذ أن وظيفة القانون هي توطئة المناخات لتكون أيسر وأرحب فإذا عمق القانون أو تطبيقه الشعور في الإتجاه المعاكس فإن العيب يكون إما في القانون أو في تنفيذه ولا مجال لشيطنة آمال الناس إذ أن الله مع الناس دوما سنة مسنونة سيما إذا كانوا مسلمين وإرادة الله مع الأغلبية قطعا ما تواضعوا له سبحانه. واصل السقوط دوما هو الزعم بأن الناس هم من يجب أن يطوّعوا لتأويلي أنا. عالج عليه السلام ذات يوم قضية زواج فيها شبهة رضاع ولمّا ظهر له أنها صحيحة قال : كيف؟ وقد قيل. أي أن القانون هنا لا يسري ليس لأنه غير صالح ولا حتى لأن تنفيذه مثل ذلك ولكن لأن الذي قيل في الناس وسرى هو من تكون له عاقبة التأثير.

خلاصة لا يريد سماعها أكثر الناس :

خلاصة تبدو اليوم في زحمة غمرات الدنيا وتنافساتها مبتسرة مجتزأة والخوف من عواقبها فيّ تنمو يوما من بعد يوم وعنوانها أن التضحية من لدن ( النهضة ) بالمشروع في أبعاده الفكرية والثقافية والفنية والقيمية والإجتماعية سواء كان ذلك إكراها أو إختيارا وفي السياسة لا بد من تلازمهما لا بد أن تلقى جزاءها في عالم السنن ولست أدري لم أرتبط هنا بوجداني إرتباطا مباشرا بتضحية الأمة بالحرية زعما بحفظ الوحدة وأن تلك التضحية كانت إنقلابا مدويا وفي زمان مبكر جدا فكانت إرتداداته على حقول فقهية ( المرأة مثال قاس وصحيح ). كل ما أدريه هو أن التضحية بالمشروع المجتمعي بسرعة وبتدبيرات لم تكن كلها داخلية في غمرة الهجمة الدولية على الربيع العربي ستكون لها إرتدادات جانبية كبيرة أخطرها أن القيمة الأخلاقية التي جعلت من هذا الصرح العظيم عظيما بدأت في السقوط عند كثيرين وفي صفوف متقدمة عدا أن هذا الكلام يسخر منه أنه وعظ ديني سمج أو أن صاحبه يجهل عمران السياسة وفلسفة التاريخ ومعاقد الإصلاح.

زبدة النصيحة :

أتفهم التضحية بالمشروع بسبب أنه تقدير إجتهادي تفهما ولم أقبله يوما قبولا منشرحا به الصدر سيما أن المجتمع الذي أودعت عنده معالجات المشروع الذي فرض عليه اليتم لمّا يستعد هو نفسه عافيته ليستحفظ على الأمانة. ولكن التضحية بالديمقراطية عندي أنا ( صاحب هذا القلم الذي هو في عيون التقليد بله السلفية متعلمن متدثر بالدين ) تضحية بالنهضة نفسها حزبا ومشروعا نحته محمد عبده ورضا والبنا وغيرهم نحتا وتضحية بأجيال طواها الموت وإستأثرت بها الشهادة وما بقي منها تنخره الأمراض ولا يجد مرهما يساوي فلسا ( أنظر رسالة أحدهم قبل أسبوعين : محمد السعودي من بني خداش ). التضحية بالديمقراطية تضحية بتونس والثورة وهدية إلى أعدائها على طبق من ورد. هذه عقيدتي التي عليها أموت في تلك العيون علمانيا كافرا : الإسلام والحرية عندي جسد وروح لا ينفصلان فإن إنفصلا فهو الموت. زبدة النصيحة أن يا من بقي من رجال القيمة وفرسان الله المسلولين ضد القهر والإكراه لا تستسلموا لمن يبحث عن فتات الدنيا وكونوا عبد الله إبن الزبير الذي لم يزده صلبه إلا شموخا ولم يزد قاتله السفاح الثقفي إلا وضاعة وكونوا السبط الذي خاض معركة الحرية التي أسسها جده أن تغتال حتى خر شهيدا ولم يضره أن حمل رأسه إلى دمشق. معركة الديمقراطية معركة داخلية في ( النهضة ) نفسها فإن إنتصرت معركة الديمقراطية في ( النهضة ) نفسها فأبشروا بإنتصارها خارج ( النهضة ). الديمقراطية أمانة وليست خيارا سياسيا فحسب. معركة الديمقراطية ليست ضد فلان أو فلانة داخل ( النهضة ) بل هي ضد قيمة لا يزعم عاقل أن الإسلام لقحه ضدها تلقيحا لا ينخرم. لا يرص صف ( النهضة ) إلا برص قيمة الديمقراطية في المعالجة. درس الحياة عندي عنوانه : أفلح من جمع بين القيمتين وهما في الشريعة سواء ( قيمة الوحدة وقيمة الحرية ) وحفر قبره بيديه من فرق بين القيمتين حتى لو وفر لنفسه مليون برهان ومليون حجة.

يعزّ عليّ أن أكتب هذا لولا أن النصحية هي الدين…
يعزّ عليّ أي تململ في ( النهضة ) لأن ( النهضة ) اليوم هي حارس تونس…
ضعف ( النهضة ) توهين للثورة وتوهين الديمقراطية داخلها توهين للديمقراطية الوطنية..
فكروا في هذه القالة ( الكافرة ) مليا : الله لا ينصر إلا من كان ديمقراطيا لأن الحرية مخ الديمقراطية كما قال إمام تونس ( إبن عاشور ) مقصد الشريعة ..
الله ينصر بسننه من ينسجم مع سننه وأكبر سننه أن الحرية قيمة مقدسة وليست مستحبا..

هل أسأت لأحد في هذه الكلمات؟
لا أظن.

الهادي بريك ـ المانيا

شاهد أيضاً

قصة يونس عليه السلام

هو يونس إبن متى عليه السلام أحد الأنبياء المرسلين المذكورين في القرآن الكريم وحملت سورة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *