من شرب سجائر فلا يقربن مصلانا

مشاهد من خلق الصادق الأمين.

 

من شرب سجائر فلا يقربن مصلانا.

((( 37 ))).

 

قال سبحانه : „ يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد  وكلوا وإشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين. قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة كذلك نفصل الآيات لقوم يعلمون “.( الأعراف 29.30 ).

كما أخرج الإمامان البخاري ومسلم عليهما الرحمة والرضوان عن إبن عمر رضي الله عنهما أنه عليه الصلاة والسلام قال : „ من أكل من هذه الشجرة ( يعني الثوم ) فلا يقربن مسجدنا”. كما رويا عن أنس عليه الرضوان أنه عليه الصلاة والسلام قال : „ .. فلا يقربنا ولا يصلين معنا”. وفي رواية الطبراني :“ .. فإن كنتم لا بد آكلوهما فاقتلوهما بالنار قتلا”.

كما أخرجا عن جابر عليه الرضوان أنه عليه الصلاة والسلام قال : „ من أكل بصلا أو ثوما فليعتزلنا وليقعد في بيته”. وهو كذلك عند ثلاثة من أهل السنن : أبوداود والترمذي والنسائي.

وفي رواية لمسلم زاد فيه الكراث على البصل والثوم : „.. فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم”. وزاد الطبراني في روايته عن البصل والثوم والكراث : الفجل. وعن أبي سعيد الخدري عليه الرضوان أنه سئل عليه الصلاة والسلام هل يحرم الثوم فقال : „ كلوه ومن أكله منكم فلا يقرب هذا المسجد حتى يذهب ريحه منه”. ( إبن خزيمة في صحيحه).

 

المقصود من هذه الموعظة المتواضعة أمران لا غنى بنا عنهما

 

ـ الفهم العميق أولا. المقصود بالفهم هو أن يحسن المرء الفقه عن الله وعن رسوله عليه الصلاة والسلام بحيث يعدي الأحكام إلى قرائنها الجديدة وهو المسمى بالقياس. يخطئ  من يظن أن القياس آلة فقهية أو أصولية ولكن القياس آلة عقلية منطقية فطرية في الإنسان وإنما إستعارها الفقه في الدين من الفقه في الحياة. لو توقفت قليلا في نظرات تأمل ثاقبة مع نفسك لألفيت نفسك تزاول القياس في حياتك. تزاول القياس لإصابة أكثر ما يمكن من الخير في الدنيا وتجنب أكثر ما يمكن من الشر فيها. ليس هناك سؤال يحيرني في الدنيا سوى هذا : إذا كنت تمارس ذلك ( وما ينتمي إليه إستصلاحا وإستحسانا وإستصحابا وعرفا وذريعة تفتح أو تسد) في حياتك دون أن تستشير سوى نفسك بسبب تجربتك وخبرتك.. لم تتردد ألف مرة ومرة قبل أن تستخدم ذلك في دينك؟ ذلك هو السؤال الذي يحيرني. هل أن الدين معادلات رياضية عسيرة الهضم أو هي طلاسم غير قابلة للفهم إلى درجة أنه لا يقبل القياس وما في حكمه لإصابة أكثر ما يمكن من الخير وتجنب أكثر ما يمكن من الشر؟ أم أننا نشكو ـ فعلا وحقيقة ـ من إنفصام رهيب في الشخصية. لنا شخصيتان وعقلان : شخصية دنيوية وعقل دنيوي ( وهي في العادة شخصية ناجحة لأنها تأخذ بما يجب الأخذ به هناك من سنن وأسباب ) وشخصية دينية وعقل ديني يتسم عادة بالجمود والتقليد والتأبي عن القياس والنظر.

 

البصل والتدخين مثال على حسن الفهم.

 

إذا أردت أن يكون تدينك فاعلا إيجابيا فلا تدع أمرا من أمور الإسلام أو نهيا من نواهيه أو غير ذلك منه إلا سألت عن سره وحكمته ومقصده وعلته وغايته. إذا تبين لك ذلك فبها ونعمت وإن لم يتبين لك ذلك فلا تهدأ حتى تظفر به. الظفر به ميسور لأنه مثبت إما في القرآن الكريم أو السنة أو تعليلات تلفاها عندك أو عند غيرك قد تقترب من الصواب أو تبتعد ولكنها تبقى دوما مأجورة تشجيعا للإجتهاد. إذا أدركت علة أي شيء عالجت المشاكل الجديدة لحياتك الجديدة بروح إيجابية تضمن فيها ولاءك لدينك من ناحية وإستثمارك لعقلك من ناحية أخرى وتأمن فيها شر معركة تافهة ـ ولكنها شرسة ـ يشنها عليك أولياء الشيطان من إنس وجن ممن يثيرون الخصومة بين الإسلام والزمان. إذا أدركت ذلك جنيت ما هو أفضل من كل ذلك وهو التأهل للدعوة إلى الله سبحانه على بصيرة.

 

لم نهى عليه الصلاة والسلام عن قربان المسجد لمن أكل بصلا.

 

لو قرأت الأحاديث الواردة آنفا لألفيت أن الأمر فيه من النكير والتشديد ما فيه. ولو سألت نفسك عن سر ذلك لألفيت قطعا أنه عليه الصلاة والسلام نصب ميزانا ثم وضع في كفته اليمنى صلاة الجماعة ( التي تعدل 27 درجة صلاة الفذ فضلا عن محاسنها الأخرى المترتبة عنها وهي محاسن تتجاوز الدين لتحط رحالها في الدنيا ) ووضع في الكفة الأخرى حق الناس في عدم الإيذاء بالريح الخبيث. ثم ألفى عليه الصلاة والسلام أن حق الناس في عدم الإيذاء بالريح الخبيث أرجح من صلاة الجماعة فما كان منه إلا أن شدد على أن من أكل بصلا أو ثوما أو كراثا أو فجلا ليس له أن يقرب الناس.

 

ما هي العلة إذن.

 

ليست العلة إذن ـ في البصل والكراث والفجل والثوم ـ سوى الريح الذي يؤذي الناس سيما لمن لم يستطع إزالة ذلك ولم يكن ذلك في تلك الأيام يسيرا ولذلك أشار إلى وسيلة من تلك الوسائل وهي قتلها بالطهي قتلا.

ألا تعجب من نبي يجعل من صلاة الجماعة أمرا معظما جدا في دينه كيف أنه ينهى الناس عن ذلك الأمر المعظم والمقدم؟ لك أن تعجب كل العجب قبل أن تدرك العلة فإذا أدركت العلة يجب عليك أن تتعلم كيف كان يعلم الناس الفقه والعلم والفهم والموازنة والأولويات عليه الصلاة والسلام.

 

ماذا لو زاحمنا اليوم في صفوف الصلاة من له ريح خيبث من غير ثوم أو بصل.

 

هل كان عليه الصلاة والسلام يقصد الثوم والبصل والكراث والفجل بأعيانها أم كان يقصد الريح الخبيث أيا كان مصدره؟ هل هناك عاقل يجرؤ على القول أنه كان لا يقصد سوى تلك الأعيان فإذا كان الريح من غيرها خبيثا فلا عبرة به؟ ناكية النواكي في أيامنا العجاف هذه أن ذلك الضرب من التفكير الأفن الأخطل يتهافت عليه بعضنا حتى أن لسانك ينعقد ولا تحضرك سوى قالة العرب  القديمة : توضيح الواضحات من الفاضحات.

 

هل تراه يلحق السجائر ـ مثلا ـ بالثوم لو كان في عصره سجائر؟

 

قطعا وبالتأكيد. ولا يقتصر الأمر على السجائر بل يتعداه إلى كل ذي ريح خبيث يؤذي الناس. إلا أن يتعاهده صاحبه قبل لقيا الناس فيزيله وفي عصرنا اليوم ما يزيل أشد الروائح خبثا وكراهية. وإنما وقع الإختيار على السجائر لأنه أغلب الناس ـ ربما حتى من المدخنين أنفسهم أو المدمنين ـ يتأذون من ريحها ولكن العلة هي : كل ريح خبيث يؤذي الناس ولو كان ريح عطر.

الأمر المقصود الأول ـ إذن ـ من هذه الموعظة المتواضعة هو حسن الفهم عن الله وعن رسوله عليه الصلاة والسلام لأن حسن الفهم هو الضامن الوحيد لحسن التنزيل سيما أن الزمان والمكان والحال والعرف ومتغيرات أخرى كثيرة إستحدثت في عصرنا ولم تكن موجودة في عصرهم.

 

ـ فهم الحكم ثانيا. الحكم هنا لا يتطلب أي جهد لفهمه إلا فيما يتعلق بحكم تلك الخضر ذاتها أي إباحتها بالكلية دون أي كراهة وإنما المنهي عنه هو أن ينتفع بها الآكل وتفسد على المصلي صلاته.

 

هل يقتصر الأمر على المساجد والمصليات

 

هذا موضع آخر من الفهم لا بد له من عناية كذلك. بسبب تورم الجانب الفقهي والتعبدي في موروثنا ظن كثير من الناس أن الحياة منتهاها ومبلغها ذلك الجزء من الدين وما عدا ذلك مستحبات ونوافل ورغائب من أتاها ربما أثيب ومن تقاعس عنها فلا شيء عليه. ومن ذا أوتينا وأكلنا بأتم معنى الكلمة.

هل يمكن أن ينهى عليه الصلاة والسلام عن إيذاء الناس في المصليات والمساجد ثم لا يرى بأسا بذلك في مختلف اللقاءات الأخرى والإجتماعات من مثل الأفراح والأتراح والأسواق والمباريات ومختلف وجوه الحياة الأخرى وهي  كثيرة لا تكاد تحصى؟

عود جديد إلى أولوية الفهم الصحيح. إذا كان من حق الإنسان ألا يؤذى في صلاته بريح خبيث فهل يفقد ذلك الحق إذا ما إنتقل من المسجد لحضور حفل أو للمشاركة في عمل؟ إذا وجدت من يتجه تفكيره صوب ذاك فلا تتردد في الظن بأن بناءه العقلي يشكو تصدعات رهيبة وشقوقا معيبة.

معنى ذلك أن المسلم يحميه الإسلام من الريح الخبيث بمقدار ساعة في اليوم أو ساعتين على الأكثر ـ أو ربما مرة واحدة في الأسبوع بمناسبة صلاة الجمعة ـ فحسب وما عدا ذلك فإن عرضه كلأ مباح لكل من يغشاه بالريح القذر والنتن.

معنى ذلك أن الحياة لا قيمة لها في الإسلام إلا بقدر مكثك في المساجد.

معنى ذلك بكلمة أخرى : تمسح الإسلام في عقل من يفكر بتلك الطريقة. تمسح الإسلام في عقله أو تكنس.

 

لو يعلم الناس فلسفة الإسلام في الجمال والزينة لهرعوا إليه.

 

أجل. إن دينا يأمر بني آدم كلهم ـ في مكة والتعذيب يتعقبهم حيث لا زينة ولا وقت للزينة أصلا ـ بأخذ الزينة وهم في حالة سجود.. إن دينا لا يخرج نبيه من بيته إلا ومعه مرآته وأدوات زينته .. إن دينا يحمل كتابه مفردات الزينة والجمال .. إن دينا ذاك شأنه لا بد أن يعتنقه الناس. فإن لم يعتنقوه فلأنهم لم يعلموا شيئا عن فلسفة الجمال والزينة فيه. إما لأن المسلمين لم يتمثلوا تلك الفلسفة في حياتهم وخلقهم بما فيه الكفاية أو أنهم ينفرون عن تلك الفلسفة بمظهرهم وريحهم وطريقة العيش والحديث والأكل والإحتفاء والعمارة.

إن دينا يقول نبيه عليه الصلاة والسلام : „ لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة”.. إن دينا يقول نبيه عليه الصلاة والسلام : „حبب إلي من دنياكم : الطيب والنساء وجعلت قرة عيني في الصلاة “.. إن دينا يقول نبيه عليه الصلاة والسلام : „ غسل الجمعة واجب على كل محتلم “.. إن دينا يأمر نبيه عليه الصلاة والسلام بخصال الفطرة من نتف إبط وحلق عانة وتقليم ظفر وإختتان ..

إن دينا ذاك شأنه حيال الإنسان في نفسه وحق الإنسان على أخيه الإنسان نسجا لأواصر الحب والتآخي والتكافل ..

إن دينا تلك فلسفته في شأن الجمال والزينة لا بد أن يدغدغ فطرة الناس ليهووا إليه..

إن دينا تلك فلسفته في الجمال والزينة حقيق على كل منتسب إليه أن يبشر به..

والله أعلم.

 

الهادي بريك ـ ألمانيا

 

شاهد أيضاً

قصة يونس عليه السلام

هو يونس إبن متى عليه السلام أحد الأنبياء المرسلين المذكورين في القرآن الكريم وحملت سورة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *