مشاهد من خلق الصادق الأمين (11) كيف تُجل الله سبحانه وكيف تُكرم أهل الفضل؟

موعظة الحوار.
مشاهد من خلق الصادق الأمين.
(((11))).
كيف تُجلّ الله سبحانه وكيف تُكرم أهل الفضل؟
أخرج أبوداود عن أبي موسى الأشعري عليه الرضوان أنه سمع رسول الله عليه الصلاة والسلام يقول : „ إن من إجلال الله تعالى إكرام ذي الشيبة المسلم وحامل القرآن غير الغالي فيه ولا الجافي عنه وذي السلطان المقسط “.
من أسمائه الحسنى سبحانه الجليل.
جل يجل جلا وجلالا أصلها جلل يجلل جللا. ( بسبب التضعيف).
معناها عظم لفرط جلائه وظهورهالجلال من الجلاء الذي يظهر ويعظم حتى يكون جليلا يبسط أثره على كل شيءالأمر الجلل أو الخطب الجللالذي عظم بسبب جلائه وظهوره ووضوحه فلا يختفي منه شيء ولا ينكره شاهدالجليل صيغة مبالغة على وزن فعيل لفرط جلائه ووضوحه وظهوره وعظمتهعندما يتعلق الأمر بالله سبحانه فالمعروف ظهور آثاره وبروز آياته وعلاماته وعظمة ذلك في النفوس والعقول والنفوس.
أجل يجل إجلالا عظم وقدر ورفع وقدس وأعلى إعتبارا أو حقيقة ولكنه للإعتبار المعنوي أدعى من الحقيقة.
المعنى الأول من الحديث.
المعنى الأول هو أن إكرام أصحاب الفضل من الناس هو إجلال لله سبحانهمعنى عظيم جدير بالتدبر عندما تعرف أن إكرام الناس هو إكرام له سبحانه وإجلال وتعظيم وتقديسالمتعارف عليه قبل ورود الإسلام هو عكس ذلكلكن الإسلام هو الذي جاء بنظرية في الإجلال والإكرام منطلقها الإنسان ومنتهاها الله سبحانهإذا أكرمت الناس أجللت رب الناستلك ثقافة نحتاجها اليوم إعادة للإعتبار لكرامة الإنسان المقررة في كتاب الله سبحانهكأن الله سبحانه لا يرضى عنك إجلالا له حتى تكرم من حقه التكريم من عبادهمعنى ذلك بتعبير آخر أن العلاقة بينك وبين ربك ـ أي العلاقة العمودية إن شئت قلت ـ لا تكون علاقة سوية مقبولة حتى تكون العلاقة بينك وبين الناس ـ سيما من حقهم التكريم ـ سوية مقبولة كذلك.أما من يهين من حقه التكريم من عباده سبحانه فلا أجل ربا ولا قدس ولكنه يكذب على نفسه.
الإكرام إكرامان.
إكرام الأصناف الثلاثة الذي ذكرها الحديث الشريف هنا هو إكرام خاصأصله إكرام عام يشترك فيه كل آدمي حتى لو كان كافرا ما لم يكن ظالما باغيا معتديا يستوي في ذلك أن يكون مؤمنا أو كافرا حتى ينتصف منه وتقتص ظلامته منهالإكرام إكرامان إكرام بني آدم كلهم أجمعين لقوله سبحانه في سورة الإسراء : „ ولقد كرمنا بني آدم “وإكرامهم يعني النأي عن ظلمهم بأي معنى من معاني الظلم في الأبدان والأموال والأنفس كما جاء في البند الأول من خطبة حجة الوداعإكرامهم يعني كذلك قضاء حوائجهم ما لم يكن فيها عدوان لعل ذلك يكون ذريعة إلى إيمانهم والإيمان أسباب يتوسل بها والهادي هو وحده سبحانهوإكرام آخر هو إكرام أهل الفضل من المسلمين بمثل ما ذكر الحديثهؤلاء يشتركون في الإكرام الأول مع غيرهم حتى لو كانوا كفارا مسالمين غير محاربين ويزيدون إليه إكراما زائدا إضافيا هو إكرام الإيمان وللإيمان إكرام خاص بأهل الإيمان ولا غرو إذ أن الإنسان مفضل على الملائكة إذا كان مؤمنا مطيعا بسبب أن الملك مكره على الطاعة بينما يكون المؤمن مختارا لها وشتان بين مكره على طاعة ومختار لها وذلك هو معنى قوله سبحانه في آخر آية التكريم آنفة الذكر : „ وفضلناهم على كثير ممن خلقناهم تفضيلا “.
لم إختار الحديث هاته الأصناف الثلاثة؟
ـ ذو الشيبة المسلمهذا يحتاج لإكرام الناس له بسبب أنه قدم للبشرية في ماضيه الذي قدم وحقه علينا اليوم بذل الكرم له والعرفانوفي ذلك قال عليه الصلاة والسلام : „ ليس منا من لم يوقر كبيرنا ويرحم صغيرنا ويعرف لعالمنا حقه”أولى صاحب شيبة بالتكريم هو الوالد ذكرا كان أم أنثى وفي ذلك قال سبحانه : „ إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما وإخفض لهما جناح الذل من الرحمة”علة الإحسان إليهما هنا علة مزدوجة أولا لأن لهما علينا حق الولادة كما يقال وثانيا لأنهما بلغا الكبر والكبير يحتاج دون ريب إلى الأخذ بيده وتقدير شيبته وماضيه وخدماته السابقة.فإذا كان صاحب الشيبة مسلما ووالدا الوالد يطلق على الذكر والأنثى سواء بسواءكان الإحسان أوكد ومضاعفا وكذا إذا كان رحما أو جارا أو صاحب فضل بصفة عامة من مثل فضل علم أو عملإجلال الله هنا معناه الإحسان إلى ذي الشيبة المسلم وإكرامه يساعده على التقرب إلى ربه سبحانه في آخر أيام حياته سيما أنه سبحانه يريد منا قلوبا رحيمة كريمة وفي ذلك يقول الحديث : „ إرحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء”.
ـ حامل القرآن غير الغالي فيه ولا الجافي عنهحامل القرآن هنا مقيد بأمرين ألا يكون غاليا فيه ولا جافيا عنهحامل القرآن هو حافظه أو فاقهه أو العامل به في أي حقل من حقول الحياة أو كل ذلك معاحامل القرآن لا يعني بالضرورة ـ ولا فحسب ـ حافظه بل إن فقه الكتاب مقدم على حفظه والعمل به مقدم على كل ذلك سوى أن العمل به لا يكون بغير حسن فقهه ومن أكبر ذلك كله الدعوة إليهوالدعوة إليه تقتضي بالضرورة فقهه والعمل به.أما الإيمان بذلك فهو أمر معلوم ولا ينتظر فقها أو عملا أو دعوة ممن لا يؤمن بهعلى كل حال صرف أمر الحمل إلى الحفظ فحسب صرف مخل ويزداد إخلالا إذا كان الحافظ لا فقيها به ولا عاملا به ولا داعية إليهإستثني حامل القرآن الغالي فيه وكذا الجافي عنه من ذلك التكريم لأسباب معلومة منها :
أ ـ الغالي فيه هو الذي قال فيه عليه الصلاة والسلام : „ يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ينفون عنه تحريف الغالين..“. الغلو قال فيه سبحانه : „ يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم”الغلو هنا مقصود به إتخاذ عيسى أو أمه عليهما السلام إلها أو شبه إلهولكن الغلو في التوحيد كما في العمل مكروهالغلو هو الزيادة بصفة عامة وقد تكون الزيادة بالتنقيص ولكن الغلو عادة ما يكون بالزيادة وليس بالإنقاصالغلو والتشدد مرادفان في التفكير والعمل.
الغالي في القرآن الكريم هو الذي يتشدد في فهمه فيحمله ما لا يحتمل لا لغة ولا أصولا ولا مقصدايغالي في ذلك بفكره أو بعمله وكلاهما غلو.الغلو في الدين أصله نصراني مسيحي ولكن تسلل ذلك إلينا كما هو معلوم فكانت الخوارج أول طائفة من طوائف المسلمين أخذت بذلك الغلو حتى وقع بينهم وبين أمير المؤمين علي عليه الرضوان الذي وقع حتى أرسل إليهم حبر الأمة إبن عباس عليهما الرضوان فرد منهم كثيرا بسبب جهلهم وغلبة الإخلاص عليهم.
ب ـ الجافي عنه هو الذي قال فيه عليه الصلاة والسلام في الحديث آنف الذكر : „ .. وتأويل الجاهلين”الجاهل هو الذي يؤول القرآن بما بدا له عفوا من لغة أو أصل أو مقصد أو علمقد يكون الجاهل مخلصا في صدره ولكنه ينقصه العلم الكافي بخلاف : „.. إنتحال المبطلين “ الذين يعمدون إلى تزييف الحقائق لدس باطلهم في الحقللجافي عن القرآن الكريم وجهان ذلك وجه تقدم وهو وجه الجاهل الذي لا يعلم وربما يظن أنه يعلم ووجه يكون صاحبه متسيبا غير ملتزم بالحد الأدنى من تكاليف الدين وتعاليم الإسلام في نفسه وأهله ومحيطه فكرا أو مسلكاكلاهما جاف عن القرآن الكريم.
لا يكرم إذا سوى حامل القرآن المتوسط المعتدل المتوازن.
ذلك معنى عظيم أتى به هذا الحديث العظيم يحملنا تلك المسؤوليةمسؤولية معرفة حدود التوسط والإعتدال والتوازن في الإسلام فكرا وممارسة ثم معرفة الرجال الذين يكونون كذلك على قاعدة أن الرجال يعرفون بالحق ولا يعرف الحق بالرجال لأن الحق ثابت والرجال متحولون بين الحق وغير الحقتكريم أهل القرآن الكريم من غير الغالين فيه ولا الجافين عنه هو تكريم للوسطية الإسلامية المعتدلة المتوازنة وهو تكريم للأمة جمعاء التي رضي لها سبحانه الخط الوسطي المعتدل في فقه الكتاب والسنة والحياة فقها معتدلا متوازنا.
لم لا يكرم الجافي ولا الغالي؟
لأن تكريمهم وهم على ذلك جفاء أو غلوا إنما هو تشجيع لهم على تنكب طريق الوسطية الإسلامية من جهة و تضييع لأمانة الوسطية في الأمة من جهة أخرىلأن تكريمهم هو مساعدة لهم على خطإهم ومساعدة لهم على مواصلة إضلال الناس الذين يتبعونهم سيما في الزمن الذي يكثر فيه الجهل بالدين وأخذ علومه من غير مظانه.
ـ ذو السلطان المقسطأي الحاكم العادل أو الإمام العادل بتعبير الحديث المتفق عليه بين البخاري ومسلم عن أبي هريرة المعروف بحديث السبعة الذين يظلهم سبحانه في ظله يوم لا ظل إلا ظله.
لم يكرم الإمام العادل؟
أ ـ لأن العدل منوط به ولذلك قدمه الحديث آنف الذكر في مبوإ الصدارة بسبب قيمة العدل ومنزلة القسط بين الناس في الميزان الإسلاميلأن الإمام العادل يضمن الحاجات الإسلامية التي تحتاجها الأمة من مثل وحدتها وتنوعها وحريتها وقوتها وعدلها وغير ذلك من مقومات وجودها وتجددها وتمددها وغلبتها وشهادتها على الناس قاطبةلأجل ذلك كان الإهتمام بالشأن العام في الأمة الإسلامية مقدما جدا مما عد في التراث واجبات وفرائض كفائية أي جماعية لا بد من إشتراك الأمة كلها فيها كل مما يليهولأجل ذلك تتفق كلمة المصلحين اليوم أننا لم نتأخر حتى فرطنا في الفرائض الجماعية والواجبات الكفائية لصالح خويصة النفسومن ذا نعلم أن ريادتنا لمصاف النهضة من جديد لا تكون سوى بتجشم الفرائض الجماعية الغائبة وهي كثيرة أما العكوف على ما يلي كل واحد منا في خويصة نفسه ودينه فلا يقدم للأمة شيئا ولا يضير أعداءها شيئا بل ربما يشجعوننا على ذلك كلما أنه لا يقوي أمة ولا يقدم لها مصلحة.
ب ـ لأن إكرام الإمام العادل ييسر له مهمته في بناء أسس الأمة على قواعد صحيحة من العدل والقسط والكرامة والقوة والمعرفة والعلم والوحدة والتنوع وغير ذلك مما هو معروفذلك أن الإمام العادل يحتاج إلى ذلك بالضرورةالعدل قيمة لا بد لها من بسط وتشجيع ومد وتعاون فإذا فقدت قيمة العدل النصير والحليف أربكها الظلم بالضرورة.
لا يكرم حامل قرآن جاف ولا غال ولا يكرم سلطان غير مقسط.
ذلك هو الميزانكل شيء مرتبط بأصله ولا حصانة لعامل إلا بقدر إلتزامه بمهمتهبمثل أنه لا يكرم حامل قرآن جاف عنه أو غال فيه لا يكرم إمام جائرلا كرامة لحامل قرآن يخالف منهاجه الوسطي المعتدل المتوازن لأنه يعطي صورة سيئة مريبة عن الإسلام وكتابه وبمثل ذلك لا كرامة لسلطان يخالف قيمة العدل لأنه يساهم في التمكين للظلم والجور والحيف وهي المصائب التي جاء الإسلام لحصدها.
معنى ذلك أن الحياة والعبرة للقيم وليس لأصحابها إلا بقدر حمل أصحابها لهامعنى ذلك أن قيمة الحياة الوسطية المعتدلة في الإسلام مسؤولية الأمة جمعاء وليست مسؤولية حامل القرآن وحده والأمر ذاته بالنسبة لقيمة العدلإذا كان ذلك كذلك لا تضيع القيم من مثل الوسطية والعدل أما إذا تمحض لها هذا فخالفها أو مات دونها فإن تلك القيم تموت بموت أصحابها أو بمخالفتهم لها.
الدرس الأعظم :
ـ إجلال الله سبحانه يكون بإجلال القيم والمعاني التي أنزل لأجلها الكتب والرسالات من مثل قيم العدل والوسطية وخلق الرحمة.
ـ إجلال الله سبحانه يكون بإكرام أهل تلك القيم الإسلامية العظمى من مثل قيم العدل والوسطية وخلق الرحمة حيال ذوي الشيبة المسلمين.
ـ إنما تنصلح الدنيا بالرجال الذين يحملون القيم التي نص عليها هذا الحديث العظيم :
أ ـ الرجال الذين يحملون القرآن الكريم دون جفاء متسيب ولا غلو متشنج.
ب ـ الرجال الذين يحملون قيم العدل والقسط بين الناس وخاصة من مقامات الحكم والسلطان والقوة.
ج ـ الرجال الذين تتسع صدورهم لخلق الرحمة والحلم والبر لذوي الشيبة من المسلمين والمحتاجين بصفة عامة إذ المقصود هو الرحمة بكل ذي ضعيف سيما ممن سبقت حسناته وأياديه البيضاء.
قيم إذن هي محل الإعتبار لأهل الإصلاح :
ـ الرحمة والحلم خلقا.
ـ العدل والقسط إدارة.
ـ الوسطية فهما وتنزيلا تفكيرا.
والله تعالى أعلم.
الهادي بريك ـ ألمانيا.

شاهد أيضاً

قصة يونس عليه السلام

هو يونس إبن متى عليه السلام أحد الأنبياء المرسلين المذكورين في القرآن الكريم وحملت سورة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *