مشاهد من خلق الصادق الأمين أكبرالناس أوسعهم عفوا ( 10 )

موعظة الحوار.
مشاهد من خلق الصادق الأمين.
أكبرالناس أوسعهم عفوا.
((( 10 ))).
تروي أحداث السيرة النبوية الكريمة أن ثمامة إبن وائل قدم المدينة المنورة يريد قتل محمد عليه الصلاة والسلام غيلة لفرط ما إمتلأ قلبه عليه غلا وحقدا دفينا ولكن شاءت أقدار الرحمان سبحانه أن يتفطن إليه بعض الصحابة الكرام عليهم الرضوان جميعاكان ثمامة على شركه ـ شأنه شأن كثير من مشركي وكفار ذلك الزمن ـ جريئا يستنكف عن الكذب فلم يخف الذي جاء من أجلهحبسه عليه الصلاة والسلام بالمسجد وكان يقدم عليه ـ عليه الصلاة والسلام ـ كل يوم فلا يجد منه غير كلمة واحدة لا ثاني لها ظل متشبثا بهايقول ثمامة يا محمد إن تقتل تقتل ذا دم أي تقتل رجلا ولغ في دم أصحابك والقصاص يقتضي قتله فضلا عن كونه جاء لقتلك أنت غيلةوإن تعف تعفو عن شاكر أي أكون لك شاكرا عفوك عنيوإن أردت مالا أعطيتك ما تريد أي فدية تحول دون قتلي). وفي اليوم الثالث أمر عليه الصلاة والسلام بإطلاق سراحه فذهب ثمامة إلى بئر على تخوم المدينة إغتسل منه ورجع إليه عليه الصلاة والسلام يقول بين يديه وأمام الناس حرا طليقا أشهد ألا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وسلمثم قال والله يا محمد لقد قدمت المدينة وليس فوق الأرض أبغض منك إلي وأنت اليوم والله لأحب إلي ممن على ظهرها وممن في بطنها.
العفو أمضى سلاح والفضل قمة الفلاح.
سبل الجهاد والمقاومة كثيرة لا تحصىوكما يؤكد علماء التنمية البشرية اليوم أن المشكلة الواحدة لها بالضرورة ـ مهما تعقدت ـ أكثر من سبيل لحلها ولكن قليل من الناس من يجتهد للبحث عن السبيل الأليق بالقيم الإنسانية والأدنى إلى كسب القلوب بدل كسب المعاركأصل ذلك قاعدة سنها الكتاب العزيز مرات في ثناياه وعبر عنها بقوله : „ وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان”تلك قاعدة نفسية وإجتماعية مكينة ظل الإسلام يربي عليها الناسقاعدة متنها أن النفس مجبولة جبلة على حب من أحسن إليها وهي بمقابل ذلك مجبولة جبلة كذلك على بغض من أساء إليهاالعفو أمضى سلاح حقا والفضل قمة الفلاح صدقا وعدلا ولكن “ لا يلقاها إلا الصابرون “ كما قرر سبحانه وأثبت كتابهوذلك هو معنى قوله عليه الصلاة والسلام : „ ليس القوي بالصرعة ولكن القوي من يملك نفسه عند الغضب”وذلك هو ترجمان قوله سبحانه في سورة آل عمران : „ الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين “الإحسان مع الله سبحانه هو أن “ تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك “ والإحسان مع الناس هو الأخذ بالفضل وليس بالعدلالأخذ بالفضل أي تنازلا عن الحق ـ حق العبد وليس حق الله سبحانه سيما في الحقوق التي سبق رفعها إلى ولي الأمر بحسب تفصيلات معروفة عند طلبة العلم ـ يفضي بالضرورة إلى تطهير الصدور من الكراهية والبغضاء والحقد والحسد وغير ذلك من الأمراض النفسية والعقد الداخلية المدمرة.
العفو والصفح صنوان وجزاؤهما المغفرة.
يلاحظ قارئ القرآن الكريم إرتباطا وثيقا بين العفو والصفح فيه في أكثر من موضع بمثل ما يلاحظ أن من صفاته سبحانه أنه العفوالعفو هو بذل الفضل فضل المال في مثل قوله سبحانه : „ يسألونك ماذا ينفقون قل العفو” وفضل الخلق في مثل قوله سبحانه : „ وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم “وهي التي نزلت ـ في سورة النور ـ في الصديق أبي بكر عليه الرضوان عندما عزم على عدم مواصلة الإنفاق على مسطح أحد الصحابة الفقراء الذين تورطوا في حديث الإفك). عائشة ـ عليها الرضوان ـ فلذة كبده وإتهامها زورا بالإفك في عرضها الشريف ضربة قاصمة في ظهر أبيهافإذا تورط في ذلك أحد الفقراء الذين ينفق عليهم فإن الغضب حق فيه قول العرب من إستغضب فلم يغضب فهو حمارولكن الله سبحانه نبهه وإيانا جميعا إلى إيثار الآخرة بالعفو والصفح ورغبنا في ذلك بقوله : „ ألا تحبون أن يغفر الله لكم”ذلك أن الجزاء من جنس العمل.
الخلق تاج الإنسان وتاج الخلق الحلم والأناة.
الإسلام رسالة أخلاقية أو لا يكونذلك مبلغ الفقه عند كل من عرف الإسلامليست الأخلاق بابا من أبواب الإسلام أو حقلا من حقول الحياة ولكن الأخلاق هي الإسلام كلهمن لا يتخذ لمن خلقه وملكه ورزقه ندا فقد عامل ربه بالخلق الطيب ومن سجد له فقد رعى حقه عليه ومن طهر روحه ونفسه وعقله وبدنه وفناء بيته فقد عامل نفسه بالخلق الطيب ومن رعى حق الناس عليه فقد عاملهم بالخلق الطيب الكريمالخلق إذن ليس بابا من أبواب الإسلام ولكن الخلق هو الإسلام وليس الإسلام سوى الخلق الطيب الكريم مع الله ومع النفس ومع الناس قاطبة في كل الأحوال بما يقتضيه الحال.
ولكن تاج الخلق الطيب هو الحلم والأناةالحلم هو العفو وهما التجاوز عن الإساءةأصل ذلك قوله عليه الصلاة والسلام للأشج إبن قيس إنك فيك لخصلتان يحبهما الله ورسوله الحلم والأناةلماذا؟ لأن الحلم عسير جدا على النفس ولذلك قال فيه سبحانه : „ وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم”.يمنعك من الحلم عدوان لدودان لا تأخذهما سنة ولا نوم آناء الليل وأطراف النهار النفس الأمارة بالسوء المجبولة على حب التقدير جبلة والشيطان الذي لا يفارقنا ساعة من نهار إبتلاء منه سبحانه مشيئة وحكمة.
مقياس تجريبي لا يخطئ إذا ظفرت بحليم فأبشر.
تلك وصية معروفة وحكمة مشهورةإذا أردت إختيار صديق لك في الحياة صدوقا فجربه إذا غضب فإن حلم من بعد غضب وعفا من بعد ظلم وهو على ذلك قادر مكين فهو الصديق الوفي الذي ظفرك به سبحانهأما إن فجر في خصومة أو عامل الناس بالعدل وليس بالإحسان والفضل فهو بشر ممن خلق سبحانه وكن منه على حذرتلك هي أمارة محمد عليه الصلاة والسلام في بعض الكتب السماوية الغابرة وقد عن لبعضهم أن يجربه ليعلم صدق نبوته فأستغضبه ـ عليه الصلاة والسلام ـ وما كان ينبغي لإناء صدره الكريم إلا أن ينضح بالعفو ويرشح بالحلم فأسلم الرجل بعد ما تراءت له كل علامات النبوة المذكورة في كتب الأولين.
الحلم والشيطان ضدان لا يلتقيان أبدا.
ورد ذلك في السيرة كذلك إذ جاء رجل إلى أبي بكر يغلظ له القول ويفحش والصديق مالك نفسه لا ينبس ببنت شفة ومحمد عليه الصلاة والسلام بينهما يرقب الموقفصبر الصديق طويلا ثم إنبرى مدافعا عن نفسه فخرج عليه الصلاة والسلام ولحقه الصديق قائلا ظل الرجل يا رسول الله يبهتني فلما دافعت عن نفسي خرجتقال له عليه الصلاة والسلام أرسل الله إليك ملكا ينافح عنك فلما توليت المنافحة عن نفسك خرج الملك وحضر إبليس وليس لي أن أجلس مع إبليس في مجلس واحد!!!
وقفة مع أقدار الرحمان سبحانه وهي تسوق الناس إلى الهدى سوقا.
تدبر معي موقف ثمامة إبن وائلرجل جاء يؤزه الشيطان أزا عجيبا ليقتل نبي الهدى عليه الصلاة والسلام غيلةمن كان يظن أن الرجل إنما جاء ليصيب الخير كله والهداية من تلابيبها والمجد من غابره وكابره؟ من كان يظن أن المشهد سينتهي كذلك؟ لا أحد قطعاالله لطيف بعباده حقا وصدقا وعدلاالله يرضى لعباده الحق والخير ولا يرضى لهم الكفر والشر والعنتولكن إرادته سبحانه قضت حرية الإنسان ليكون مسؤولا يوم القيامة عن عمله وإلا لما كان لدار العمل من معنى ولا كان لدار الجزاء من معنى ولا كان للجنة من معنى ولا كان للنار من معنىرجل يسوق نفسه إلى النار خالدا فيها مخلدا ولكن الرحمان سبحانه يسوقه في الطريق ذاته وبالآلة ذاتها وفي المكان ذاته إلى خيره في آجله وعاجلهذلك هو معنى المشيئة ومعنى الإرادة.
صدق جزاؤه العفو وعفو جزؤه الإيمان.
قصة عجيبة هي قصة ثمامة عليه الرضوان.قصة رجل أبى إلا الصدق حتى وهو يعرض نفسه للقصاص والقتلذلك هو ما كان يميز أكثر المشركين في تلك الأزمان بخلاف أكثرهم اليومالصدق والوفاء والشهامة من خلقهم الذي لأجله نزل الكتاب بلغتهم والنبي من قومهم لأن الشرك داء له دواء أما الأدواء التي ليس لها دواء فهي أدواء الكذب والنفاق والخساسة والنذالة والحطة والإلتواء ولذلك آمن من المشركين أضعاف ما آمن من أهل الكتاب سيما من اليهود.
قصة رجل صدق نفسه وصدق رسوله عليه الصلاة والسلام وهو لا يؤمن به بل جاء يغتالهقصة صدق جوزي منه عليه الصلاة والسلام بالعفو.أمهله عليه الصلاة والسلام ثلاثا بلياليها لعله يتزحزح أو يضطرب أو يترجرج ولكن لما أيقن أن الرجل من طينة عجيبة جديرة بالعفو عفا عنه.قصة صدق أثمر عفوا وقصة عفو أثمرا إيمانا.
لا يملك المرء أمام هذه القصة إلا أن يتدبر سلطان الله سبحانه على القلوب التي أخبر عنها نبيه عليه الصلاة والسلام أنها بين إصبعين من أصابعه سبحانه يقلبها كيف يشاء.سل نفسك هل تملك قلبك؟ من يملك قلبك؟ سل نفسك ثم سل من يملك قلبك الثبات على الحق اليقين حتى يوم اليقين أما التعويل على عملك وحده فلا يجدي شيئا وها هو الصادق المصدوق يقول لأصحابه محتاجا لرحمة الديان سبحانه : „ لاإلا أن يتغمدني الله برحمته”..
رسالة المشهد.
ـ الصدق محمودة عواقبه دوما.
ـ العفو عن الناس والحلم عنهم والصفح بهم لا يثمر في قلوبهم إلا تقديرا ومحبة يظلان يأسرانهم طول الوقت حتى يؤمن كافرهم وينزجر عاديهم ويستحي مؤمنهم.
ـ القلوب بيد الرحمان وحده سبحانه وهو لا يرضى لعباده أجمعين سوى الخير والهدى ولكنه لا يكرههم على خير ولا يرغمهم على شر وإنما أكرمهم بالحرية والإرادة والمسؤولية.
والله تعالى أعلم.
الهادي بريك ـ ألمانيا

 

شاهد أيضاً

قصة يونس عليه السلام

هو يونس إبن متى عليه السلام أحد الأنبياء المرسلين المذكورين في القرآن الكريم وحملت سورة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *