لكم يلح علي قلمي أن أكتب كلمات قليلات كلما عادنا يوم المرأة من كل عام أي الثامن من مارس. منبع الإلحاح ـ سيما في هذا العام ـ هو أن المرأة العربية لم تعد ضحية الغزو الفكري في الجملة إلا قليلا. كان ذلك الغزو حقيقة عندما كان يجلب بخيله ورجله علينا في مرحلة الدفاع عن الهوية. اليوم تبدل الحال وأنى له ألا يتبدل والأمة تعيش حالة من الصحوة الإسلامية والنهضة الدينية سيما فيما يتعلق بالفيئة العملية دون أن يكون ذلك مصحوبا بالضرورة بنهضة فكرية أما عن النهضة الفكرية المجددة فلا تسلني إذ الوضع في هذا المستوى ينهار ويتدحرج خاصة مع فشو الغلواء السلفي المزيف. الحالة الإسلامية اليوم في حالة نهضة وصحوة وتمدد إذ غادرت مناطق الدفاع بجدارة بل هي اليوم تهم بالهجوم أو قيادة ” الغزو ” المضاد وما هو بغزو ـ إلا مشاكلة لفظية ـ ولكنه جهاد فتح بالتعبير التراثي القديم أو جهاد بالكلمة ومشتقاتها الفنية بالتعبير المعاصر. لن تنقطع الأرض من فتيات تغرهن الحضارة الغربية دون ريب ولكن العبرة دوما في التحليلات المعتبرة بالأغلب الأعم. تلك أمارة من أمارات قانون التداول الوارد في الذكر الحكيم.
فمن يغزونا اليوم إذن.
نتعرض في مواضيع كبيرة وكثيرة ـ منها حتما قضية المرأة ـ إلى غزو فكري ولكن الغزو الذي لم ننتبه إليه إلا قليلا إنما هو الغزو التراثي التقليدي القديم وهو عندي وبتعبيري : التدين الخرافي الأسطوري. هناك من المفكرين والمقاومين بسنان القلم من تعرض لهذا الغزو ” الداخلي ” وأظن أن من يتربع حتى اليوم على ذلك العرش بسفره العظيم واليتيم معا هو المرحوم الدكتور عبد الحليم أبو شقة وذلك في مؤلفه الفذ الذي لم يكتب في موضوعه بمثل ذلك الإلمام والجماع والعمق والمنهاجية العلمية منذ العقود الأولى لكسب الأمة الإسلامية من بعد موت صاحب الرسالة محمد عليه الصلاة والسلام وحتى يوم الناس هذا. عنوان السفر هو : تحرير المرأة في عصر الرسالة. لن أزال أقول للناس بوقاحة لا أجرؤ عليها إلا في هذا الموضع .. لن أزال أقول لهم : من لم يدرس ذلك السفر العظيم واليتيم فلا يحق له أن ينبس ببنت شفة واحدة في قضية المرأة إن كان يحترم نفسه حقا ويريد من الناس بث الإحترام بين يديه. ذاك مؤلف من المؤلفات القليلة جدا ممن أعاد رسم منهاج تفكيري بصيغة أخرى وذاك مؤلف من المؤلفات القليلة جدا ممن زادني حبا لمحرر المرأة الأول محمد عليه الصلاة والسلام. وبالوقاحة ذاتها أقول : من درس ذاك السفر ـ دراسة وليس إطلاعا ـ فلم يع بأنه إكتشف في صاحب الرسالة عليه الصلاة والسلام أبعادا أخرى كان يجهلها بالتأكيد .. من فعل ذلك فلم يجن حبا له ولا معرفة جديدة لرسالته فأجدى به أن يعتكف مع المعتكفين في دهاليز التقليد والإمعية وعبادة السلف أو حتى تقديسهم وأي فرق بين أن تكون عبدا للسلف أو أن تكون عبدا للخلف وأي شرك أهون عليك إذا كنت تستأمن على عقلك ومنهاجك التفكيري أمواتا ما رأوا الذي رأيت. عبادة التقليد هي الأخرى ضرب من ضروب الشرك وطاغوت الإمعية هو طاغوت سواء كان في إتجاه حضارة غربية ساحرة آسرة جالبة بخيل المدنية ورجل الفنون أو كان في إتجاه تراث عربي إسلامي له ما له وعليه ما عليه ولو قام أهله من أجداثهم لسخروا من مقلديهم تقليد الببغاوات والقرود وقد رأوا ما لم يروا وسمعوا ما لم يسمعوا.
تراثنا يستعلي به علينا أدعياء السلفية المزيفة.
لست من أنصار قالة تطير اليوم طيرانا مفادها أن تاريخنا مفترى عليه. جانب الإفتراء موجود دون ريب ولكن الإفتراء نفسه عملية مشتركة بين المد العالماني الغربي سواء كانت حركة إستشراقية بدأ صوتها في الخبو أو أذنابا من أذناب عبيد الفكر الغربي يتسترون خلف قالات الديمقراطية والعلمية والليبرالية والتجديد وغير ذلك.. وبين خطوط الردة والتراجع في تراثنا سيما أن هؤلاء إحتكروا تحت الغطاء الأموي والعباسي في الغالب كتابة التاريخ بل ربما إمتد ذلك نسبيا إلى كتابة بعض العلوم الشرعية ذاتها من مثل الحديث والفقه وغير ذلك. سوى أن جانب الإفتراء هذا يستتر فينا وفي تراثنا كما يستتر اللبن في الحليب فلا تكشفه حتى تمخضه مخضا والمخض يحتاج منك قوة وصبرا وأنى لنا بذاك والساحات تكاد تخلو من المقاومين الفكريين والمناضلين الثقافيين ليتولى السياسيون تصحير ذلك وتقفيره ليكون بيابا أو شيئا شبيها بالبياب.
في تاريخنا ـ سيما من بعد حلول الكارثة التي حذر منها صاحب الرسالة محمد عليه الصلاة والسلام أي كارثة إغتيال الخلافة الراشدة وذلك في حديثه الصحيح عند بعض أهل السنن الأربعة :” لتنقضن عرى الإسلام عروة عروة أولها الحكم وآخرها الصلاة” ـ مساحات مضيئة كثيرة وكبيرة دون ريب ولكن المساحات المظلمة ـ سيما في التاريخ السياسي ـ هي كذلك كبيرة وكثيرة. ولذلك لست من أنصار أن تاريخنا مفترى عليه وإذا كان هناك إفتراء فكثير من أسلافنا هم الذين إفتروا أما إفتراء خصومنا وأعدائنا فهو المرقوب والمنظور وما علينا سوى مقاومته.
تتغذى السلفية المغشوشة ـ وإلا فإن السلفية الإسلامية الأصولية الحقيقية وأصلها الآصل ما حدث بين الصحابة الكرام عليهم الرضوان جميعا في الطريق إلى بني قريظة فيما عرف بصلاة العصر .. تلك سلفية لا يعد كاتب هذه السطور نفسه إلا واحدا منها معجبا بقلب إبن عمر طاعة عجيبة وبعقل إبن عباس إجتهادا أعجب ـ .. تتغذى تلك السلفية المغشوشة من تراث إختلط فيه الحابل بالنابل ونتأت فيه المساحات السوداء وراج رواجها ونفق سوقها وقيضت لها أقدار الرحمان الغلابة سبحانه ـ إبتلاء ـ تيارات من الأغرار بدأها الخوارج وختمتها السلفية الجهادية ـ سلفية التكفير والتفجير ـ إذ عكفت تلك التيارات بعقلها العابد للإمعية والتقليد والكافر بفريضة الإسلام المغيبة أي فريضة التجديد والإجتهاد وفيها الحديث الصحيح عند الحاكم وبعض أهل السنن :” إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها “.. عكفت تلك التيارات بعقل أسطوري خرافي بليد على تلك المساحات فصححتها وحسنتها بلغة أهل الحديث وبيضتها بلغة البوليس الإقتصادي وجعلت منها محكمات هن أم الكتاب وقطعيات راسخات ثابتات .. وبذا إندحرت مساحات بيضاء من الإسلام نفسه ومن تراثه وتاريخه وكسب أهله وتبوأت مساحات أخرى سوداء قاتمة مظلمة مراكز الصدارة فأضحت دينا مدينا.
وشتان بين ثلة من المجددين يعملون على تصنيف التراث إستهداء بكسوبه المضيئة وهي كثيرة وينفون عنه الهنات أو ما لم يعد يتناسب مع العصر وبين ثلة أخرى من المقلدين يحاربون فريضة التجديد الإسلامية بشعارات الجاهلية الأولى : ليس في الإمكان أحسن مما كان وما ترك الأولون للآخرين شيئا وغلق باب الإجتهاد وتوسيع سد الذرائع وقمع المرأة خوفا من فتنتها أولى من تحريرها ومتغلب غشوم خير من فتنة تدوم وغير ذلك من القالات الإنحطاطية التي لو نخلتها لما ألفيتها إلا منسجمة في روحها و إتجاهها مع الجاهلية العربية الأولى التي ما تنزل الدين الجديد إلا لمقاومتها.
تلك هي بلية السلفية المغشوشة التي زادت الطين بلة. لا يتسع هذا المقال لسرد أمثلة ولكن لا بد مما ليس منه بد كما قالت العرب ومن ذلك ما حواه كتاب فقه ـ بل هو مصنف ضمن الفقه المقارن ـ معتمد في كثير من المجامع العلمية وهو كتاب المرحوم عبد الرحمان الجزيري أي الفقه على المذاهب الأربعة. حوى ما لا يقل عن عشرة أمثلة في قضية المرأة تصادر محكمات الكتاب والسنة مصادرة صحيحة صريحة منها على سبيل المثال هروع المرأة إلى الصياح والعويل عندما يحدق الموت بنعم من أنعامها إذ لا يجوز لها الذبح ولا تؤكل ذبيحتها وذلك حتى يسمعها فحل لعله يحلل نعما توشك أن تجيف. وأمثلة أخرى كثيرة جمعتها عام 1994 ميلادية وهممت تدوينها في كراس فما تيسر لي ذلك حتى اليوم.
خلاصة المقال
خلاصة المقال هي أن المرأة في عيدها ـ وللسلفية المغشوشة قول عجيب يؤكدون فيه أنه لا عيد لنا إلا عيدي الفطر والإضحى وكأن العيد فقرة دينية موقوفة بالتعبير الفقهي الأصولي الصارم وليس هو من باب العاديات والتقليديات والدنيويات ـ عليها أن تطرح هذا السؤال : من يقف اليوم في طريق تحررها والمضي في ذلك الطريق إلى الحدود التي رسمها الشارع الحكيم سبحانه وكذا رسوله محمد عليه الصلاة والسلام دون حاجة إلى سد ذريعة بذريعة واهية مفادها أن المرأة شر لا ينتج إلا شرا حتى روجوا للمكذوبات من مثل أن صلاتها في بيتها ـ بل في قعر بيتها ـ أولى لها وأذخر أجرا وكأن صاحب الرسالة لم يقل في الحديث الصحيح :” لا تمنعوا إماء الله مساجد الله ” أو أن أمهات المؤمنين وهن قدوة النساء والرجال على إمتداد التاريخ والجغرافيا لم يكن حمامات المساجد دون حاجز بينهن وبين الرجال بمثل ما نفعل نحن اليوم سدا لذريعة الفتنة. هل تلفى كذبا على الإسلام أكذب من هذا. أليس إتجاه هذا الخط التفكيري المنحط يقول لسان حاله: مات محمد عليه الصلاة والسلام وما أكمل الرسالة فكان لا بد من سد الذريعة أي ذريعة الفتنة.
أظن أن تراثنا ـ أي مساحاته المظلمة ـ تقف حجر عثرة في طريق تحرر المرأة سيما أن ذلك التراث لم يتعرض للتصنيف إلا قليلا وأن عقول السلفية المغشوشة إعتورته لتقدم ما كان متأخرا فيه وتؤخر ما كان متقدما فيه. أظن أن المرأة تتعرض لغزو قديم جديد هو الغزو التراثي وذلك بعدما عجز الغزو الغربي بأذنابه أن يجرف المرأة العربية عن هويتها ودينها ولكنها لمة سحر سرعان ما إندثرت.
لك أن ترصد ذلك في حياة المرأة في كثير من أوساطنا العربية والإسلامية سيما عندما تلتحف الأرياف والبوادي بظلال الإنحطاط الذي منشؤه الجهل والتقليد وما درجت عليه أدابنا وتعاليمنا حتى أضحى ذلك دينا مدينا لا يقوى المجدد على مقاومته ولا يعي الجاهل من الطاقم الديني شيئا من أفنه.
أظن أن ذلك الغزو التراثي الداخلي أقمن بالمقاومة علما وبحثا وتأصيلا وإجتهادا وتجديدا وتحديثا وهي مهمة دونها الذي دونها ولا يقوى عليها إلا من جمع في فؤاده بين الفقه ـ وليس مجرد العلم ـ وبين الجرأة وبين الحرقة التي تدفع المسلم إلى إعلاء كلمة الإسلام جهادا منه بالقرآن الكريم.
وتلك هي سنة الحياة دوما في الغالب سرعان ما ينقشع الغزو الخارجي ولكن الغزو الداخلي يظل لصيقا بالناس وقديما قالها حكيم الغرب الإسلامي ومجدد الفكر الإسلامي المرحوم مالك بن نبي : الأخطر من الإستعمار هي القابلية للإستعمار.
كثير من الفقه التراثي المغشوش يصنع من الناس كائنات قابلة للإحتلال ومن أصابه مرض القابلية للإحتلال فيعسر برؤه منه ولكن لا يستحيل ذلك.
بقي أن أذكر بحقيقة تاريخية ـ وهي عندي كذلك ـ مؤداها أن الإنقلاب الأموي ضد الخلافة الراشدة هو المسؤول عن الإنقلابات الإرتدادية الأخرى الناشبة في الأمة وأولها قطعا الإنقلاب ضد المرأة وليس مؤججو ذلك الإنقلاب سوى بقية باقية من العرب الذين أسلمت أفواههم إسلاما سياسيا بدء من عام الوفود وما سجلته سورة الحجرات وما باشر الإيمان شغاف قلوبهم يوما إذ حن أولئك ـ سيما من بعد وفاة صاحب الرسالة وإغتيال الخلافة الراشدة ـ إلى الجاهلية العربية الأولى التي كانت تتقرب إلى آلهتها بوأد المرأة حية. كانت المرأة هي الحلقة الأضعف التي طالها الإنقلاب الإرتدادي الأول ثم تأهل الجهاز الفقهي من بعد ذلك بعقود طويلة إلى الإجترار ونشأت على هامشه التفسيرات والتأويلات ثم إستغلق أمره فجاءت المدونات السجعية والمتون الشعرية ليستحيل الفقه الإسلامي الذي إتخذ له عنوان اليسر طلاسم مغلولة لا يقوى على حلها إلا رجال الدين وجرى لنا شيئا شبيها بما جرى للمسيحيين الذين لا حق لهم في التعامل المباشر مع الإنجيل إلا بطريق قس أو راهب. وفي أثناء ذلك إستقل الفقه السياسي والمالي وفقه العلاقات الخارجية والتنظيمات الإدارية وضمرت تلك المساحات حتى نشأت فينا عالمانية عملية تكاد تفصل بين الدين وبين الحياة أو بينه وبين الدولة وشؤونها فصلا تاما سيما من خلال المعافسة والمزاولة. وفي أثناء ذلك كذلك نشأت بروق الإصلاح والتجديد ولكن تعرضت للمقاومة من لدن بياطرة الإسلام الجدد وقياصرة بيوت المال الجدد وقمعت محاولات الإجتهاد حتى مات إبن تيمية في سجنه جراء وشايات رجال الدين المرتبطين بالسلطان السياسي. ثم تأهلت الأمة إلى الإحتلال العسكري بعدما خضد الإنحطاط شوكتها ثم تأهلت للتجزئة والتشظي وكانت المحاولة العثمانية رائدة ولكنها ماتت بل نشأت مريضة إلا عسكريا وما كان للتحضر العسكري أن ينشئ لوحده تقدما. ومع حلول نهاية عام 1923 إندك السقف السياسي الواحد للأمة بالكلية ولم يكن ذلك سوى نتيجة طبيعية منطقية مرقوبة لضربات موجعة أصابت ذلك السقف أولها الإنقلاب الأموي ضد الخلافة الراشدة وإكراه السبط الحسن عليه الرضوان على التنازل بالخلافة لمعاوية ومن أعجب العجب الذي ينقله التاريخ الرسمي للأمة أن ذلك العام وهو عام 40 سمي عام الجماعة. أي أن الجماعة يلتئم شملها عندما يغتصب الخلافة فيها والملك من لم ترض به الأمة ولا هو لها أهل. أي أن تراثنا السياسي بصفة خاصة إنما تأسس على بدعة إسمها : العبرة بالغلبة والشوكة وليس برضى الأمة والعبرة بمن يحكم وليس بم يحكم. تلك هي الجرثومة الأولى التي مهدت بالتأكيد لما سيأتي بعدها من إرتدادات سياسية آلت بنا إلى ذهاب الريح وإستحلال البيضة أي إلى ثالثة الأثافي الذي نرزح تحته حتى اليوم إلا قليلا : التجزئة والتبعية والإحتلال.
ولذلك عندما يقال لك أن إندحار شوكتنا السياسية هي الحالقة فلا تلعب إذ أكد التاريخ ذلك وعندما يقال لك أن الإصلاح كذلك يبدأ من المقاومة السياسية فلا تسخر إذ أثبتت الثورات العربية ذلك كذلك.
هي مساحات وعي لا بد لنا منها وهي وجبات غذائية عقلية لا بد لنا منها. والمرأة شريك كامل الشراكة في كل ذلك ويكفيك من ذلك قوله الصحيح عليه الصلاة والسلام :” إنما النساء شقائق الرجال “. فمتى كانت لنا المرأة شقيقة في السياسة والإقتصاد والإدارة والتخطيط والقيادة. حتى في البيت تكاد تكون في بيئات كثيرة عبدا مملوكا أو جارية منكودة الحظ. ذلك هو الذي جعل بعض شبابنا في منتصف القرن الميلادي المنصرم يفر إلى الحضارة الأوربية. فلنلم أنفسنا إذن.
الهادي بريك ـ
brikhedi@yahoo.de