مات الرجل ومن خلفه ثروة فكرية معاصرة

رحم الله سبحانه الأستاذ المفكر والمقاوم الصامد محمد قطب رحمة واسعة. كلمات حق وجبت منا جميعا نوشح بها صدر هذا الفقيد الكبير. لم ألتقه البتة ولكن شعوري حياله حيا وميتا ينبض بعلاقة حميمية لا يبلى لها سدى ولا تنخرم لها لحمة. علاقة طويلب علم بجبل أشم وعندما يجمع الرجل إليه العلم مقرونا بالمقاومة فلا تقل سوى : ألف ألف طوبى وطوبى. نشأت العلاقة الفكرية في صائفة عام 1976 ميلادية إذ ساقتني أقدار الرحمان سبحانه إلى طور جديد من حياتي بدأته بإلتهام الكتب والمؤلفات إلتهام ظمآن في يوم قائظ مستعر للماء الزلال. رفوف واسعة ملأى بمؤلفات المرحوم محمد قطب وشقيقه الشهيد سيد ومجدد المائة المنصرمة الإمام البنا والمرحوم السباعي وزيدان ومصطفى محمود والقرضاوي والغزالي وثلة أخرى واسعة كبيرة ممن إنتسب إلى حركة الإخوان المسلمين أو دار في فلكها الفكري وسطية وإعتدالا وتوازنا. ربما لم تتعرض حركة إسلامية في القديم والحديث لما تعرضت له حركة الإخوان المسلمين من حروب إعلامية ضارية ومثلها حروب إقتصادية وسياسية وسجون ومنافي ناهيك أن ذلك لا يكاد ينقطع حبله الخبيث منذ إغتيال مؤسس الجماعة الإمام الشهيد ـ وهو عندي مجدد المائة المنصرمة ممن بشر به الحديث النبوي الصحيح ـ عام 1949 حتى أيامنا هذه على أيدي بعض ” رسل الله ” كما سماهم أستاذ الفقه المقارن بالأزهر الشريف الهلالي وهو يعني المشير عبد الفتاح السيسي وهو عندي أقبح سفاحة ممن ظننا أن السفاحة إنتهت مشيختها إليهم من مثل الهالك شارون وبوش الإبن. تلك حقيقة تاريخية لا أرب لي بها الآن ولكن أربي الآن هو في أنه لا توجد حركة إسلامية معاصرة أنتجت من العلماء والمفكرين ومن أهل القلم والكتاب تضاهي ما أثمرته حركة الإخوان المسلمين. هو أمر لا يدركه سوى المهتمين بحركة القلم. لا يحمل الأمر على مجرد التأليف بل إن الجماعة أثمرت من أنصبة التجديد والتحديث في الفقه والفكر ما لم تقم به أي جماعة. وتلك هي من بعض المزايا التي تحفظ للجماعة وجودها وألقها حتى وهي تنتقل من محنة شرسة إلى أخرى أشرس. من تلك المزايا كذلك أن جماعة الإخوان عفكت منذ البداية على رمزية التوسط الإسلامي فكرا وإصلاحا فحققت من ذلك ما لم يتحقق لغيرها. ومن ذلك كذلك أنها تصدت للتحديات المعاصرة في قضايا التفكير الإسلامي كلها تقريبا ومن ذلك ما تصدى له المرحوم محمد قطب إذ أقبل بقلم الأديب ودقة الفقيه وإلمام المثقف على تشريح التحديات العقدية المعاصرة من مثل النظرية المادية الغربية ببناتها من شيوعية وماركسية. كسرت الحركة جليد التقليد في الفكر الإسلامي وذاك سر من أسرار حفاظها على وجودها وعلى تجددها. الحديث عن الأخطاء السياسية هنا لا محل له عند العقلاء إلا من يريد شماتة ونكاية ذلك أن الأخطاء السياسية لا يسلم منها عمل بشري قط إلا أن يكون مسددا من الوحي المعصوم وذاك في الحقل السياسي الإجتهادي التقديري لا يسدد به حتى بعض الأنبياء في بعض الأحداث لحكم إلهية غزيرة ليس هنا محل الإسهاب فيها. وفضلا عن ذلك فإني أظن أن الأخلاق العالية الكريمة تعزم على صاحبها ألا ينبش في مثل تلك الأخطاء عندما يكون أهلها في أقفاص السجون وليكن ذلك بينهم داخليا في مؤسساتهم فإذا تحرروا دمغناهم بذلك دمغا لا مجاملة فيها وعمدتي في ذلك أن العمل المحبوب عنده سبحانه هو العمل الذي يغيظ الكفار وأعداءه وليس هو العمل الذي يغيظ أولياءه والعبرة في الأعمال بخواتيمها وثمراتها وإتجاهاتها ومآلاتها. وإذا كانت بضدها تتميز الأشياء كما قال بحق الشاعر الحكيم فلك أن تنظر من حولك في رصيد حركات إسلامية كثيرة معاصرة في الزمان والمكان ولكنها متخلفة في الوعي والفكر لتلفى أنها تتصدى لقضايا عقدية أكل عليها الدهر وشرب كما يقول الأدباء وأخرى تتصدى لقضايا ثقافية وفكرية إستوعبتها المتاحف وثالثة تبني أرصدتها على أنقاض ما تكسب من تشقيق في صف الأمة وضرب لوحدتها ورابعة تكفر بفرائض التجديد والتحديث والإجتهاد كفرها باللات والعزى. أجل. مات الرجل ـ عليه رحمة الله سبحانه ـ ومن خلفه ثروة فكرية معاصرة خصبة متينة وأكرم به من فارس مغوار هزم بقلمه الفكر الغربي هزيمة علمية وفكرية وذلك عندما كانت الشيوعية دينا به يدين الناس وأهل جيلي يعرفون معنى ذلك ويدركونه حق الإدراك. اليوم تبدلت التحديات ويقيض الله لها رجالا مثل أولئك الرجال. ساقت أقدار الرحمان الرجل إلى شبه الجزيرة العربية فساهم من موقعه العلمي والفكري في بث الفكر الوسطي المعتدل المتوازن ليطامن من صعلكة الفكر الوهابي وفقره العلمي وبربريته الدعوية وسلك الرجل ومن معه من رجال الجماعة ومن إستجاب لهم من مثقفي شبه الجزيرة مسالك الحكمة فنشأت صحوة إسلامية معاصرة وخاصة في الجامعات والمعاهد وحيث يكون القلم هو الفيصل بين الناس بالحجة والبرهان والحكمة والميزان ولولا تلك الحكمة التي أوتيها الرجل ـ عليه رحمة الله سبحانه ـ لأصطدم مع نظام عشائري بغيض يزعم لنفسه إحتكار الإسلام ودعوته ليصدر إسفافا سلفيا يمزق به الأمة وينفق عليه من الأموال بمثل ما ينفق على مصالح الأمريكان ثم وصل به الحمق إلى حد إدراج أول حركة إسلامية وسطية معتدلة معاصرة مثل حركة الإخوان حركة إرهابية وهو الأمر الذي لم تفعله حتى ألمانيا مثلا التي تصنف الحركة حركة متطرفة تريد تطبيق الشريعة والتطرف إتجاه فكري إذ لا بد أن يكون خصمك متطرفا في عينك وتكون أنت متطرفا في عينه وإلا لما إفترقتما أما الإرهاب فهو تنفيذ التطرف تنفيذا ماديا بالتفجيرات والدماء والعدوان على الأبرياء. تناسى حكام الجزيرة العربية أن الذين يمولونهم ماليا وبالدعم الفني والسياسي من السلفية المزيفة لا تلفى إلا كثيرا منهم متورطين في الإرهاب الدولي أما الإخوان المسلمون فلهم شهادة براءة من الإرهاب سطرها التاريخ ودونتها الجغرافيا وما دون ذلك فانسب لهم ما شئت من قصور هنا وخطإ هناك وشتان بين خطإ المصلحين وبين خطإ الذين يصدرون بالخديعة ” عقيدة ” الولاء والبراء لشق صف الأمة وفي مقابل ذلك يعقدون صفقات الولاء مع أشد أعداء الأمة شراسة ضدنا.

أكرم برجل مات فواريناه التراب وسيظل تراثه فينا معلما وكسبه بيننا ثريا.أولئك هم أحياء الأموات ممن خلف ” علما بثه في الصدور ” وأنعم بها من صدقة جارية يحيي بها سبحانه الأموات الذين يأكلون ويشربون ويمشون في الأسواق. أكرم برجل مات بعيدا عن وطنه مغربا بما يزيد عن نصف قرن كامل فما لانت له قناة. أما الخفافيش الذين يركعون للسفاح السيسي ركوع الأوابين ويسجدون له سجود العابدين ـ سيما ممن تعمم منهم بلسان حاله أو لسان مقاله بعمامة الأزهر الشريف ـ أولئك هم جيف التاريخ وقذاراته بل أولئك هم زبد الزمان العاصف. أولئك لا يغرنك نقيقهم  وأرقب لهم نهاية تكون لك درسا بليغا.

ألا ترى أن الكون بأسره يخلد ذكرى شهداء الأخدود في سورة يحفظها الناس وبها يصلون وقد مضت على قتلهم قرون سحيقة؟ لكم أكون سخيفا عندما أحبس فكري في معركة من معارك الدنيا غافلا عن مرآة التاريخ البعيد ومشاهدها أو أسيرا في دياجير الحلكة التي تئد في الأمل الذي به يتجدد إيماني بأن الحق لا تزيده أسياف السجان إلا مضاء وتوقدا.

الهادي بريك ـ تونس

brikhedi@yahoo.de

شاهد أيضاً

قصة يونس عليه السلام

هو يونس إبن متى عليه السلام أحد الأنبياء المرسلين المذكورين في القرآن الكريم وحملت سورة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *