موعظة الحوار.
مشاهد من خلق الصادق الأمين.
إنخل صدرك لعلك إمرئ فيك جاهليات.
((( 14))).
ورد في السيرة النبوية ـ كما هو معلوم ـ أن الصحابيين الكريمين بلالا وأباذر إختصما ذات مرة فقال أبو ذر لبلال غاضبا : يا إبن السوداء ( أي يعيره بلون أمه). فلما إنتهى ذلك إليه عليه الصلاة والسلام نهر أباذر بنبرة غضب شديدة قائلا له : إنك إمرئ فيك جاهلية حتى وضع أبوذر خده فوق الأرض ليقتاد منه بلال سوى أن بلالا عف تعفف الكريم في ساعة إجتمع فيها الغضب مع شوكة القصاص.
الجاهلية ما الجاهلية وما أدراك ما الجاهلية.
الجاهلية صيغة جامعة ومركبة من الجهل. بمثل الحاكمية للحكم والربانية للرب.
الجهل هو الأمية الحضارية بالتعبير المعاصر وليس هو الأمية الحرفية البسيطة كما يظن بعضهم إنجرارا وراء المعنى العرفي للكلمة.
الجهل هو عدم العلم والمعرفة والإدراك إذا كان ذلك جامعا للحياة كلها بما يمنع المرء من فقه الحياة وكان منغرزا في الصدر بحيث يعسر إقتلاعه من جهة أخرى و من جهة ثالثة عندما يكون ذلك موقفا إراديا ماضيا وليس موقفا عارضا.
لا يوصف بالجهل ـ كما هو في القرآن الكريم بسبب أنه المرجع لغة وشرعا ـ في العادة إلا من إتخذ موقف العداء إزاء العلم والمعرفة والحوار والتواضع لسماع الرأي الآخر.
الجهل ـ بكملة ـ هو الأمية الحضارية إذا كانت مقرونة بالكبر والغرور والعجب ولذلك حال الجهل دون إيمان المشركين ـ سيما كبراءهم ـ ويحول دون ذلك دوما قطعا.
جهل قوم لوط.
مثال على ذلك الجهل الذي لا يعني عدم التمييز بين الطيب والخبيث ولكنه يعني معرفة ذلك والإصرار على إقترافه لأي سبب من الأسباب وعادة ما يكون ذلك السبب كبرا أو شذوذا حضاريا.. مثال ذلك هو قوم لوط الذين قال فيهم سبحانه : „ أئنكم لتأتون الرجال شهوة من دون النساء بل أنتم قوم تجهلون”. لم يكونوا يجهلون أن شهوة النساء ألذ ولكنهم كانوا يجهلون التصرف الحضاري الرشيد والتعامل الثقافي الراقي فأتوا ما تعف عنه العجماوات والبكماوات.
الجاهلية منهج حياة يقابل الإسلام.
1 ـ الجاهلية عقيدة قال فيها سبحانه : „ ظن الجاهلية “ أي : تعتقدون أن الله لن ينصر نبيه محمدا عليه الصلاة والسلام. وهي عقيدة يمكن أن تنسحب على كل ما يبني المرء تصوره عليه.
2 ـ الجاهلية منهج حكم وإدارة قال فيه سبحانه : „ أفحكم الجاهلية يبغون “ وذلك تعقيبا على مناهج حكم عند اليهود وعند النصارى وعند المشركين.
3 ـ الجاهلية سلوك المرأة التي تبيع جسدها للرائح والغادي. قال فيها سبحانه : „ تبرج الجاهلية”.
4 ـ الجاهلية حمية قذرة وعصبية نتنة قال فيها سبحانه : „ حمية الجاهلية”. نعيا على مشركي قريش الذين منعوا محمدا عليه الصلاة والسلام من دخول مكة يوم الحديبية بدافع التعصب الكريه.
ولكن الجاهلية تتجزأ لتصيب بعضا منا.
ذلك هو ما وقع للصحابي الكريم أبي ذر عليه الرضوان عندما عير أخاه بلالا في لحظة غضب بأمه السوداء فكان الرد النبوي الصادق : „ إنك إمرئ فيك جاهلية”. والعبرة دوما في الحياة وفي الدين بالأغلب الأعم إذ لا ينجو من الجاهلية مؤمن لتنافي ذلك مع العصمة إلا لندرة نادرة من الناس ربما يكونون من الصديقين.
هاهي جاهلياتنا المعاصرة بين يديك.
1 ـ أنا أبيض اللون .. أنا إذن خير من الأسود. إنخل نفسك لعل صدرك فيه عالقة من تلك الجاهلية. لا يكفي ألا تصرح بذلك بسبب خوف أو حياء أو تدين. إنما يكفيك أن تروض صدرك على المساواة مع الأسود حتى تعتقد قبل موتك ـ عندما تنخل صدرك بنفسك ـ أن الأبيض والأسود عند الله سبحانه سواء. „ إن أكرمكم عند الله أتقاكم”. طبعا يذكر الأبيض هنا لأن العادة جرت أن الأبيض يشعر أنه أفضل من الأسود فإذا شعر صاحب أي لون آخر بأنه أفضل من صاحب اللون المغاير فالذنب سواء. مما يخلصك من تلك العقدة الجاهلية إختلاطك بالأسود وخدمته والإنصهار في بوتقة الإيمان معه حتى تتربى يوما بعد يوم على ذلك. مجرد الإيمان بذلك قد لا يبرح بك عن ذلك المربض القذر بعيدا ولكن إذا جمعت إليه العمل ظفرت بتلابيب العقيدة الإسلامية الصافية الناصعة.
2 ـ أنا عربي الجنس أو العرق .. أنا إذن خير من غير العربي. إنخل صدرك مرة أخرى لعل فيه ما يسوؤك يوم القيامة بين يدي ربك. قد يسوؤك أن تصرح بذلك اليوم خوفا أو حياء أو تدينا مغشوشا ولكن الحساب يوم القيامة ـ كما هو معلوم ـ ينبني على النية أولا ثم على العمل ثانيا. الله ناخل ما في صدرك يوم القيامة : „ يوم تبلى السرائر”.
3 ـ أنا ذكر .. أنا إذن خير من الأنثى. تلك جاهلية قديمة جديدة. تلك جاهلية تورط فيها من تورط من كبار الفقهاء ـ على علو كعبهم الفقهي وعطائهم العظيم جدا ولا فائدة في ذكر الإسم هنا لئلا يشغب عليه من لا يعرف حق قدره مستغلا هفوة عالم أو كبوة جواد وعندما يكبو الجواد فإنه يبقى جوادا ولا سبيل لمقارنته بحمار شغب عليه أو جحش هزأ به ـ. تلك جاهلية تعمر اليوم صدورا كثيرة من صدورنا. تلك جاهلية ينافح عليها بعض الجهلة اليوم من المنتسبين إلى العلم الإسلامي بالأدلة. تلك فيما رأيت أكبر جاهلية فينا اليوم. كيف توفق بين قوله سبحانه : „ وليس الذكر كالأنثى “ مع قوله سبحانه : „ ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف “ أو مع قوله سبحانه : „ والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر “ أو مع قوله عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح : „ إنما النساء شقائق الرجال “ .. إما أن توفق بفهم السياقات والمعاني وإما أن تقع في جاهلية العصر أي تفضيل الذكر على الأنثى تفضيلا بيولوجيا بغيضا ليس له من معنى عندما تعدي الإنبساط إلى مآلاته إلا أن الله سبحانه ليس حكيما ولا عدلا ومن أسمائه الحكيم والعدل.. ذلك الضرب من الجاهليات لا يمكن القضاء عليه إلا عن طريق العلم والفقه والتدبر وإعمال قوانين التكامل والتدافع والكرامة وغير ذلك. إخلاص القلب في ذلك لا يكفي إذ كم من مخلص قلبه آثم عمله وكم من آثم قلبه صحيح عمله وكلاهما تنكب الصراط السوي وما إهتدى.
4 ـ أنا طالب علم أو عالم أو داعية .. أنا إذن خير من بقية الناس. تلك جاهلية أخرى سببها الغرور والعجب. حتى لو كان ذلك العالم أو الفقيه النحرير أو طالب العلم المثابر أو الداعية الذي يهز عيدان المنابر .. حتى لو كان خالص القلب فإنه قد يسبقه من قال فيه عليه الصلاة والسلام : „رب أشعث أغبر لا يؤبه له لو أقسم على الله لأبره “ وفي رواية أو حديث آخر قال فيه عليه الصلاة والسلام : „ تتدافعه الأبواب “ أو “ تتدافعه الأيدي “. وليست قصة أويس إبن عامر منا ببعيد. ذلك الرجل الذي أخبر عنه عليه الصلاة والسلام وقال إن دعوته مستجابة وأوصى به عمر أن يستغفر له إن ظفر به ولقيه الفاروق وإستغفر له أويس. معنى ذلك هو أن المؤمنين ـ سيما ممن كتب لهم سبحانه أسباب الرضى به وعنه ـ عادة ما يبوؤهم سبحانه مباوي خير يلزمونها أو يتناوبون عليها ويكسبون منها أجورا مرتفعة جدا ولكن غيرهم من المؤمنين لا يشعرون بذلك. خذ إليك بعض ما ورد في السبعة الذين يظلهم سبحانه في ظله يوم لا ظله إلا ظله. منهم من لم يزد على أن ذكر الله خاليا ففاضت عيناه وغير ذلك.
طالب العلم والعالم وحتى المجاهد بماله ونفسه .. كل أولئك ليسوا إلا مقامين في محال خير وجزاؤهم بقدر إخلاصهم فإذا سبقهم بالإخلاص من هو دونهم ـ في عيون الناس الذين يقدرون مثلا الفقيه المبرز ممن غمرته الأضواء بينما يحقرون المغمور ـ فإن الأخلص منهم يسبق إلى الجنة حتما بإذنه سبحانه. لذلك أنتج بعض علماء القلوب قاعدة جميلة : „ إذا أردت أن تعرف مقامك فأنظر أين أقامك”. ليس معنى ذلك ـ كما يبدو لبعض من يتجاسرون على الفهم بسلاح الجهل ـ أن مقام الإنفاق من العلم ـ مثلا ـ أذخر أجرا عند الله سبحانه من مقام الإنفاق من المال أو أن مقام الجهاد بالنفس ـ مثلا ـ أذخر أجرا عنده سبحانه من مقام الجهاد بالعلم أو غير ذلك من شتى شعب الإسلام التي هي في الحديث بضع وستون أو بضع وسبعون .. رغم أن العدد هنا قد يكون للتكثير وليس للتعيين لأنه إذن قليل..
5 ـ أنا منسوب إلى العترة النبوية .. أنا إذن خير من الناس. تلك جاهلية أخرى يتنافس عليها اليوم من يتنافس سيما ممن حيزت لهم الدنيا سلطانا وجاها ومالا وعسسا وحرسا ولم يبق لهم سوى أن يجمعوا إلى الدينا دينا وليس لهم من الدين إلا أن يفتعلوا نسبا به عليه الصلاة والسلام وبذلك تظل الأعناق لهم خاضعة. خاضعة بالدين لأنهم من العترة الشريفة وخاضعة بالسيف لأنهم ملكوا الدنيا. ذلك وهم حتى لو صحت نسبتهم إلى تلك العترة الشريفة. وهم لأنه ثبت أنه عليه الصلاة والسلام قال لفلذه كبده فاطمة الزهراء عليه الرضوان : „ يا فاطمة إعملي فإني لا أغني عنك من الله شيئا.“. بل إن الإسلام مبناه غير ذلك تماما. مبناه أن العبرة بالعمل الخالص وليس مبناه القرابة منه عليه الصلاة والسلام وهل من دليل أقوى في ذلك من قوله للناس قاطبة جمعاء عليه الصلاة و السلام يريد أن يحطم تلك الجاهلية : „ سلمان منا أهل البيت”. سلمان ليس عربيا أصلا ولكنه منسوب إلى البيت النبوي الشريف مباشرة. بم؟ بدينه وليس بحسبه ولا بنسبه.
إحذر على نفسك أن تموت وفي صدرك جاهلية أو جاهليات.
وجاهليات أخرى كثيرة يضيق عنها المجال هنا. ليس المقصود إحصاءها ولكن المقصود مجرد التنبيه إليها لأن الجاهلية العظمى التي عصم الله منها سبحانه المؤمن بفضله قد تصيب بكدرها ودرنها المرء في خلق من خلقه أو تصور من تصوراته فيموت جاهليا أي فيه جاهلية ويحاسب يوم القيامة حسابا عسيرا.
إنخل صدرك قبل أن تبلغ الروح منك التراقي.
والله أعلم.
الهادي بريك ـ ألمانيا