العرب اليوم ـ سيما التونسيون منهم والمصريون ومن يلتحق بهم قريبا إن شاء الله تعالى من الليبيين واليمنيين وغيرهم ـ أشبه برجل عقرت زوجه ـ أو عروب عقر زوجها ـ أن تنجب ثمرة طيبة يزدان بها البيت بعدما أسدلت ذيول الحزن ذؤاباتها طويلا عليه إذ كلما دغدغهما الأمل في وليد يفتض بكريتهما تبين أنه مخاض حمل كاذب أو فجعت الأم فأسقطت الفجيعة حملها.
ذاك حالنا ـ في تونس مثلا ـ منذ إنتصاب دولة ما بعد الإستقلال أي منذ عام 1957. أي ما يناهز نصف قرن بالتمام والكمال. كلما حاولنا النهوض من وهدة القهر منتفضين وئدنا وأد الجاهلية العربية الأنثى. تلونت النهضات بكل ألوان التونسيين فما زاد ذلك الدولة ـ دولة القهر والتبعية ـ إلا إستئسادا وشراسة. سحق الزيتونيون ثم اليوسفيون ثم اليساريون ثم النقابيون ثم الإسلاميون ولم يفلت من السحق ليبراليون ولا قوميون. ليس هناك فصل صارم بين عهدي بورقيبة والذنب المقطوع بن علي. الدولة هي الدولة والنظام هو النظام. الفرق الوحيد هو أن بورقيبة رجل مثقف صاحب مشروع فكري فهو يزاوج بين جرعة ذهنية ووجبة تعذيب غذائية لازمة هي الأخرى لإمتحان المقاومين و حماية للمقاومة أن يتعلق بأستارها المنافقون. أما خلفه المنقلب عليه .. فالصمت أولى .. دع تراثه اليوم يتحدث عنه فهو خير من يقدمه فسادا ماليا وقهرا سياسيا ونفاقا دوليا. أكاد أقول : إذا رأيت الرجل اليوم يسرف في تبشيع الذيل المبتور بن علي فاتهمه في ولائه للثورة.
أجل. أنا من الحذرين حذرا لا يلغي الكسب ولا يئد الأمل.
هما إتجاهان حيال الثورة المباركة. إتجاه النفاق الذي يتوسل إلى إسقاط حملها بإشاعة الطمأنينة دوما وأبدا مهما بدت من أعراض التشوهات الذي بدا. إتجاه يقول لسان حاله حتى لو تخلف لسان مقاله : طبتم وطابت ثورتكم ولا خوف على حملها فهي واضعته في أجله المحدد وإلى العمل المثمر من جديد. وإتجاه آخر يتوسل إلى حماية الثورة بما يتوسل به لحماية نفسه من لدغ من عقارب النظام القديم وحرسه ودولته مرات ومرات. هو إتجاه أم وضعت وليدها البكر بعد سنوات يأس قاحلة حالكة كالحة سوداء. إذا كانت تلك الأم تدع فلذتها تلك التي رزقتها على مشارف القبر فلندع ثورتنا لروح الطمأنينة والسكينة. لندعها للعقارب تلسعها لسعات خفيفة على إمتداد شهور ثم سنوات لنلفى أنفسنا بعد عشر سنوات على الأكثر في تنور الدولة القديمة.
الإتجاه الثاني هو الكفيل بتأمين رضاعة طبيعية للوليد الجديد الذي رقبناه حتى إشتعلت الرؤوس منا شيبا. أما من قضى نحبه شهيدا منا وهو يرقب الذي نرقب فهو الحي الذي لم يمت. إنما الحديث عن الأحياء الذين يراد لهم أن يموتوا وهم أحياء يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق.
هناك فريق ثالث يسرف في منح الثقة لبقايا النظام البالي القديم. من الناس من تغلب عليه الطيبة حتى تكون سذاجة أو سخافة والضعف في الناس موجود ولا نكير عليه. من هذا الفريق من أصيب بما يشبه الصدمة الشعورية فهو يكتفي بما إكتسب حتى اليوم إما خوفا على ما تحقق أن يجهض أو يأسا من الشعب ألا يعود إلى ثورته. تلك أحوال عاطفية مفهومة جدا بعد أن زلزلت الثورة عرشا ظنناه مستحكما متمكنا فلا سبيل إليه ـ أو عليه ـ إلا بدبابة أو ملك الموت يتوفى نفسه. أحوال مفهومة تبعا لإختلاف الناس ولكنها أحوال لا تناسب الوضع الراهن
هذا رأيي لتأمين الثورة وإستثمار طيباتها.
الحديث مع من يجادل أن الثورة ـ أي ثورة طرا مطلقا ـ في منعة من أي محاولة للإنقلاب عليها أو تحويل وجهتها أو سرقة بعض طيباتها أو تأخيرها أو إجهاضها مع الأيام.. الحديث مع من يجادل في ذلك حديث لا طائل منه لأنه يتصادم مع البدهيات المسلمات عقلا وتجربة وتاريخا. المجادل في ذلك لا يؤمن بشيء إسمه النفاق.
كوننا في معركة ساخنة طاحنة هي معركة الجولة الثانية من جولتي الثورة.. كوننا في ذلك لا يحتاج إلى دليل.
دعنا بداية نقول : هل هي حقا ثورة؟
السؤال مخيف. نعم مخيف. وكم نحتاج إلى الأسئلة المخيفة. أجل. هي ثورة من جانب الشعب. من جانب الشعب هي ثورة وأي ثورة مجيدة عظيمة كبيرة هي. أما من جانب المؤسسات التي من المفترض أن تلتقط الثورة في شوطها الثاني لتدك بحصائلها ما تبقى من الدولة.. من جانب المؤسسات والنخبة والمجتمع المدني لم تكن ثورة وما ينبغي لها أن تكون ثورة.
الثورة التي يستوعبها دستور ليست ثورة. الثورة التي تستوعبها دولة ليست ثورة. الثورة التي توهب للمجتمع المدني يفصلها إحتزابا بينه ليست ثورة. الثورة التي يفترسها تنازعا ما بقي من الدولة البالية مع المجتمع المدني ليست ثورة.
ذلك هو ما أومن به وأعتقده. ما يؤزني على ذلك قوة الثورة نفسها وأزيز الثورة ذاتها وما بثته فينا من أمل كنا بحاجة أكيدة وماسة إليه.
كثير منا اليوم ـ أي من المجتمع المدني وما بقي من النظام البائد الهرم ـ يستدعي خطاب ما قبل 14 يناير. أي خطابا أقرب إلى المصالحة مع الدولة وإقتسام الغنم.
هذا رأيي لتكون الثورة ثورة.
1 ـ تنظيم إعتصام سلمي دائم ليل نهار صباح مساء أمام القصبة بما لا يقل عن خمسة آلاف تونسي وتونسية. إعتصام دائم مستمر لا يفك أبدا مطلقا حتى لو إخترمه الرصاص الحي إلا بعد إنتصاب الدولة الجديدة المرقوبة. أي : رئيس منتخب وبرلمان منتخب وسائر ما ينص عليه الدستور الجديد. المعنى السياسي الواضح لذلك هو : لا ثقة للشعب في أي مسؤول يستوي أن يكون جديدا أو قديما ـ معارضا أو مواليا ـ. لا ثقة للشعب في أي مؤسسة ولا مسؤول ولا وعود إلا بعد إنتخاب الشعب لمؤسساته. المعنى الواضح لذلك هو : الإعتصام ( فيتو) على كل حكومة مؤقتة ورئيس مؤقت ولجنة حماية ثورة مؤقتة ومؤسسات مؤقتة حتى تنتصب الدولة الجديدة. أجل. يجب أن نقولها بصراحة وجرأة : لا ثقة لنا في أحد منهم أبدا. يجب أن نتحرك بالروح الثورية التي أفرزتها فينا الثورة. ما أراه اليوم كثير منه نكوص عن ذلك.
بكلمة أخرى : الإعتصام الدائم المستمر حتى إنتصاب الدولة الجديدة ـ وليكن ذلك على إمتداد شهور وأنى لنا أن نضن بشهور بعد ما ضحى ما يزيد عن مائتي شهيد بأرواحهم في هذه الثورة فحسب دون حساب الشهداء من 1957 حتى 2010 ـ ذلك الإعتصام هو قوة الشعب المعارضة الشرعية التي تظل معتصمة واقفة يقظة ـ يقظة مادية فضلا عن يقظتها الروحية. لا بل دعنا نقول : إعتصام وقائي حمائي رقابي لا ينفك حتى يستلم الشعب أمره من جديد. من يؤمن لأولئك الآلاف عيشهم وعيش أسرهم؟ نحن. أجل. نحن من يجب علينا تأمين ذلك. إعتصام رباطي مقاوم مقاومة سلمية لا ينفك لأن الوعود الماضية سلبتنا الثقة. إذا لدغنا هذه المرة فلن نحلم بالأمل أبدا.
ليكن رجال ذلك الإعتصام الدائم متفرغين على حساب ميزانية المجتمع.
ليكونوا رجال رباط أو رجالا متفرغين أو رجالا مقرضين ـ بالتعبير الإداري ـ من مؤسساتهم ـ سواء كانوا يشتغلون أو بطالين ـ إلى أكبر مؤسسة في البلاد اليوم أي إلى مصلحة حماية الثورة. المجتمع هو الذي يؤمن لهم عيشهم وعيش عوائلهم على إمتداد تلك الفترة من ميزانية الدولة التي تسلمها من الدولة البائدة أو هو على وشك تسلمها. إذا قدمنا التنمية اليوم بحل الإعتصام المركزي الأم في العاصمة ـ القصبة أساسا ـ فقد قدمنا إمكانية من إمكانيات الإلتواء على الثورة وإجهاضها. لنعش فقراء عاما آخر حتى نستلم الدولة الجديدة.
لمن نسلم أمرنا؟ لرئيس مؤقت؟ لرئيس حكومة مؤقت؟ لمن؟ ما حك جلدك غير ظفرك فتول أمرك أنت بنفسك.
2 ـ إذا تفضل الإتحاد العام التونسي للشغل بالتضامن مع حركة النهضة وتكافلا مع لجنة حماية الثورة.. إذا تفضل ذلك الثلاثي بالدعوة إلى ذلك الإعتصام وتأمينه وتحمل مسؤوليته فبها ونعمت وإذا تأخروا أو تأخر بعضهم ـ رغم أن تكافلهم على ذلك هو المطلوب ـ فإن الشعب الذي لن يزال في حالة ثورة سلمية مدنية حضارية راقية هو المسؤول عن ذلك لأنه هو صاحب الشأن والمصلحة.
ها هي بعض من إرهاصات إجهاض الثورة.
1 ـ مواصلة رفض وزارة الداخلية قبول صور فوتوغرافية بالخمار. أي مواصلة العمل بمنشور العار والشنار. منشور بورقيبة عام 1981 الذي نفذه الذنب المقطوع بن علي بالعصا والحديد والنار. إذا لم يكن ذلك أبرز مؤشر على محاولات جادة لا تيأس لإغتصاب الثورة فإنا أو إياكم لعلى وعي أو حماقة مبينة.
2 ـ تواصل وجود البوليس السياسي في الشارع التونسي جهارا بهارا. الدعوة إلى حل البوليس السياسي لا تكفي. نحن اليوم في مرحلة ما بعد 14 يناير. مرحلة ما بعد 14 يناير لم تعد لغتها المطالبة ولكن لغتها هي المغالبة. هل طالب الشعب قبل ثورته بالثورة حتى نطالب بحل البوليس السياسي. الشعب لم يطالب بالثورة ولكنه مارس الثورة مغالبة حتى فر الذيل المقطوع. لا يقتصر الحل على البوليس السياسي فحسب ولكن أكثر أجزاء ومصالح وزارة الداخلية بما فيها من فرق أمنية علنية وسرية لا تكاد تحصى فضلا عن الآمن الرئاسي وفرق أخرى لا أحصيها لكثرتها وقد لا يعلم بوجودها وأسمائها أكثر التونسيين مثلي.
3 ـ تواصل مجلسي النواب والمستشارين. لم يصدر أي قرار لحلهما حتى اليوم ولكنها تعريضات من الرئيس المؤقت ووزيره الأول المؤقت الأول والثاني.
4 ـ تواصل عدم حل التجمع الدستوري قضائيا حتى اليوم. القضاء غير المستقل الذي ظل ينفذ سياسة الهالك بن علي هو ذاته القضاء الراهن.
5 ـ قطاع واسع آخر من الإعلام الذي كان مرتهنا للذيل المقطوع.
وحقول أخرى ومجالات أخرى مازالت مسرطنة.
وهذه أحداث مرقوبة ضمن خطة إجهاض الثورة.
1 ـ تعاون التجمع الدستورى مع البوليس السياسي وغير السياسي والمنتفعين القدامى من الذيل المقطوع وعصاباته ( المافيوية ).. تعاون كل أولئك لإحداث إضطرابات أمنية في البلاد وخاصة مع إقتراب بعض المواسم الإنتخابية من مثل ما أعلن عنه الرئيس المؤقت لإنتخاب المجلس التأسيسي. لا شك أنهم اليوم يعملون لذلك لحمل الدولة المؤقتة على تأجيل تلك المواعيد التي من المفترض أن يتسلم فيها الشعب مقاليد دولته.. وتأجيل من ورائه تأجيل لأسباب ظاهرها مقنع لأنها تتعلق بالوضع الأمني.. حتى تتم الخطوة الأولى الضرورية على درب إجهاض الثورة.
2 ـ تأخير حل التجمع قضائيا في قضاء غير مستقل بل موال للذنب المقطوع إلى حين النظر في صيغة أخرى للتنظم والعودة متسللا إلى الدولة عاما من بعد عام.
3 ـ أما إتلاف الوثائق في وزارة الداخلية ومصالحها وفروعها في البلاد فلا شك أنه قد تم منذ الأيام الأولى إنجاء لأنفسهم من المحاكمة والعقاب. ما الذي يمنعنا من إسترداد كل الوثائق من كل مصالح تلك الوزارة لتقديمها إلى المحاكمة براهين مادية عن طريق لجنة حماية الثورة الراهنة مثلا؟ ألم يفعل المصريون ذلك بالإسكندرية عن جدارة قبل أيام قليلات.
كلمة أخيرة.
1 ـ الثورة وليد رزقناه بعد سنوات جدب كالحة قاحطة كاد اليأس أن يستبد بنا فيها. هو وليد قابل للموت والحياة ككل كائن والجدال في ذلك أمر لا يسيل لعاب العقلاء. هو وليد لا نريد له إلا أن يشب ويترعرع ويبلغ معنا السعي. بل يبلغ السعي لنمضي نحن إلى الدثور.
2 ـ الشعب وحده ـ أجل.وحده طرا مطلقا ـ هو المسؤول عن ثورته. الشعب وحده ـ أجل. وحده ـ هو أم ذلك الوليد في ساعة شارفنا فيها على المغيب ـ. وما بقي من مكونات مجتمع مدني فإما أن يكون في خدمة الثورة وإستراتيجتها العظمى المسطرة في مؤتمر شعبي جماهير خارق للعادة توج يوم 14 يناير بطرد الذنب المبتور : الحرية والعدالة والديمقراطية والحق في المقاومة أو أن ينأى بنفسه عن المماحكات الحزبية والطائفية البغيضة. أليس من مظاهر إجهاض الثورة أن يتواصل ربيب الذنب المقطوع بن علي ( أي جراد ) في رئاسة أكبر وأعرق وأعظم مؤسسة تونسية عمالية نقابية فرضت الهوية التونسية على الحكم التونسي على إمتداد قرن كامل ( نصفه مقاومة للإحتلال الفرنسي ونصفه مقاومة لأذناب الإحتلال إما ثقافيا من مثل بورقيبة أو سياسيا من مثل خلفه المنقلب عليه بن علي)؟
3 ـ الخوف على الثورة أن تسرق ليس يأسا ولا قنوطا بل هو عين الحذر والحيطة أن نأكل يوم أكل الثور الأبيض أو أن نلدغ من جحر مرتين. ليس خوفا ألا يثور الشعب من جديد.كيف وهو لم يضع عنه لامته التي إمتشقها. أكاد أقول : إتهم من لا يخاف على طيبات الثورة أن تسرق. إذا كان من بقايا النظام القديم فلا تتردد في إتهامه. أما إذا كان من غيرهم فاتهم حرصه. إذا أوتينا فلن ينفعنا قول أننا أوتينا من عدم حرص أو من خيانة منافق.
4 ـ لقد ثبت أن الإعتصام المتواصل في القصبة هو الكفيل بالضغط على الحكومات والمؤسسات المؤقتة حتى تسرع وتيرة تسليم الشعب أمانته. إذا ثبت ذلك فكيف نتهاون في الإعتصام مستعجلين حله لأول وعد. الأصل في كل عناصر النظام السابق أيا كانوا من جماعة بورقيبة أو الذنب المقطوع بن علي .. الأصل فيهم جميعا ـ بمنطق الثورة وليس بمنطق المصالحات المغشوشة فيما قبل 14 يناير ـ الأصل فيهم جميعا : إخلاف المواعيد حتى يتبين عكس ذلك. لنكن كلديغ عقرب بالتمام والكمال أو كفجيع ذئب كاسر محتال.
ذلك رأيي المتواضع. فمن شاركني فيه فبها ونعمت ومن عارضني فيه فله الحق كاملا مطلقا بشرط ألا ينكر علي إبداء رأيي.
موعد تاريخي لو ينقشه كل تونسي على قلبه نقشا أن ينساه يوما : 14 يناير 2011.
ليس هو عيد الثورة بل هو عيد تونس الجديدة. تونس التي لم تعرفها أجيال قضت.
الهادي بريك ـ ألمانيا