إلتحق اليوم الشيخ نظامي في بنغلادش بقافلة الشهداء من ذوي الصبغة الخاصة الذين قال فيهم عليه السلام رافعا من منزلتهم في جدول الشهادة ( سيد الشهداء حمزة ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله). حمزة هو قائد تلك القافلة الخاصة من قوافل الشهداء والشيخ نظامي خاتمتها ليومنا هذا ومنها رجال كثير ونساء منهم سيد قطب وأحمد يسن.
سؤال الأذكياء هو : لم تقدم أصحاب هذه الصبغة الخاصة في سلم الشهادة وتأخر شهداء آخرون؟ جواب العبد الفقير مستوحى من السنة نفسها أي من الحديث الصحيح القائل ( أفضل الجهاد كلمة حق في وجه سلطان جائر). تقدم هؤلاء الشهداء لسببين : أولهما هو أنهم جاهدوا وقاوموا بالكلمة والقلم والوسائل المدنية لإن أصل الجهاد الآصل الذي لا يصار إلى غيره إلا في حالات إستثنائية هو الجهاد بالقرآن (وجاهدهم به) أي بقيمه التي تضمنها. ومن جاهد بالقرآن وقيمه وأفكاره فيستحق أن يتصدر قمة الشهادة.
الثاني هو أن مواجهة الموت إعداما هو قمة الصبر والشجاعة والفداء وليس كمن يكون في ساحة وغى حامية الوطيس فيقتل وهو لا يدري في أي ساعة يقتل بل كان يأمل ألا يقتل ومثله الشهداء في صور أخرى كمن يموت بغتة وهو في كمين إلكتروني مثلا يجاهد بالإعلام أو في مكتبه كما كان في حالة الشهيد إسماعيل الفاروقي في أمريكا على يد المخابرات الصهيونية.
لذلك يرى العبد الفقير إلى ربه وحده سبحانه أنه عليه السلام حشر شهيد الكلمة المعدوم بيد سلطان جائر مع سيد الشهداء حمزة عليه الرضوان. مشكلتنا أننا عددنا الدنيا دار بقاء لا فناء ودار جزاء لا إمتحان فركنّا إليها ولا نذكر الموت والبلى إلا عند تشييع ميت إلى قبره. مشكلتنا أننا كسالى نريد النصر والتمكين والتحرر والعزة بلا ثمن أو بثمن زهيد رخيص يدفعه كل من هبّ وكل من دبّ. هي مشكلة فكرية حيال الدنيا والموت وهي مشكلة نفسية حيال الجهاد والمقاومة والتضحية وهي مشكلة إرادة حيال شدّ الشهوات الدافعة بالفطرة إلى المجبنة والمبخلة.
إنما علمنا التاريخ نفسه ـ قبل الدين ـ أن الحرية دونها ما يساويها أو يرجحها مضنيات وأنصابا وأتعابا. سعرك الحقيقي في سوق القيم الإنسانية هو بقدر تضحيتك في سبيل الإنسان ليتحرر والمقاومة في سبيل الإنسان الذي قدسه الرحمان وكرمه إنما هي مقاومة في سبيل الله سبحانه إذ لا ينفع الله مقاومة ولكن ينتفع بذلك الإنسان فمن جاهد في سبيل الإنسان فهو المجاهد في سبيل الله. ومثله المجاهد في سبيل الوطن الذي يؤمن للإنسان العيش والكرامة.
حياتنا منضبطة لمنظومة قيمية ثلاثية الأبعاد: التوحيد الصافي والتزكية فكرا وروحا والعمران في الأرض عدلا وقسطا وجمالا. وهي منظومة قيمية لا تزهر وتحيا وتثمر إلا بمهر غال نفيس مثلها بل أنفس وأغلى أي هبة الروح بطواعية وشهامة وكرامة ومروءة. لا تزهر الحياة حتى تسقى بسائل من هذه السوائل : أما سائل دموي عندما يحين حينه أو سائل حبري مدادي من لدن المفكرين المجددين المجاهدين بالكلمة القرآنية الصحيحة أو سائل آخر من سوائل النصب والتعب والتضحية والجهاد والمقاومة بالنفس والبدن والمال. الأرض تحيى بالغيث والحياة تزهر بتلك السوائل. ومن كد وجد ومن زرع حصد ومن أمسك أحسكت حياته.
إذا كان لابد من الموت وسبحان الحي الذي لا يموت فمن المروءة أن أموت مقبلا لا مدبرا أي شهيدا على عصري لا مشهودا عليّ وأي سعد لمن يصطفى شهيدا ليكون يوم القيامة ملكا مشفعا في الناس. فلا تحزن على شهيد بل إحزن على نفسك أن علتك الدنيا وقد خلقت لك لتعلوها. ولا صدقية لطالب حرية حتى يجود بروحه سخية زكية رخيصة في سبيلها. يمكن أن تنكح إمرأة أو تسافحها بلا مهر ولا صداق ولكن لا يمكن أن تنكح الحرية عروس الحياة وهبة الرحمان ومنّة الوجود بلا مهر ولا صداق. اللهم لا تتوفنا إليك إلا صديقين أو شهداء. آمين.
الهادي بريك ـ مدنين ـ تونس