كيف تكون متدينا تاجرا ؟

عدوان أحد : الإسم والملابسات

نقل أهل السير إلينا أن عدوان أحد جدّ في شهر صفر من العام الثالث للهجرة. شهر صفر الخير يظلنا هذه الأيام وهي مناسبة لإستجلاء بعض العبر التي جاء بها هذا العدوان. أحد ليس غزوة تنسب إلى رمز الأمن وعنوان السلم في الأرض محمد عليه السلام بل هو غزوة عدوانية من لدن مشركي مكة ضد أهل المدينة ثأرا عاثرا من الهزيمة المدوية التي مني بها أولئك المشركون في أول لقاء حربي مباشر بين المشركين ودولة المدينة الجديدة. تساهل الرواة وتلاهم من بعدهم في إطلاق صفة الغزو نسبة إليه عليه السلام وهذا لا يستقيم لا قيمة ولا يصح تاريخا إذ لو تتبعت عدد المعارك التي شارك فيها ـ 27 معركة ـ لن تلفى واحدة أنشأ فيها هو عليه السلام عدوانا إنما كان يلتزم الدفاع عن أمته وحقها في دين جديد وحياة جديدة. سيثير بعضهم أمر خيبر وحتى لو ثبت أنها غزوة أنشأها هو عليه السلام فهي غزوة إستباقية وقائية كما سيحدث معه بعد ذلك بسنوات مع الروم في تبوك. وما عدا ذلك كله من بدر حتى مؤته إنما كان يلتزم فيه موقف الدفاع إما عن أمته وحقها في حياة جديدة ما أكرهها عليها أحد أو وفاء لمعاهدة حربية أو سياسية بينه وبين بعض القبائل إنجادا لهم من عدوان تعرضوا إليه وهو عنوان الوفاء في الأرض عليه السلام. القرآن الكريم الذي هو موئل المراجع لسانا وسنة وسيرة وتاريخا ما ذكر هذا الجذر اللساني غير مرة واحدة بصيغة حالية وبقوله ( غزى ) وهو يتحدث عن الذين كفروا مع أن هذه الكلمة الحالية تعني إسم الفاعل والمفعول معا. فبأي حق ننسب إليه الغزو سيما أن الغزو في لساننا العرفي ومنذ قرون الإنحطاط يعني العدوان وإنشاء الحروب؟ أليست الصورة الأدنى اليوم إلى أكثر المسلمين عن نبيهم عليه السلام أنه عربي غليظ بيمناه سيف بتار يحصد به الرؤوس التي تأبت عن الإيمان؟ هل هذه الصورة النمطية صحيحة؟ أليست محض إفتراء صنعها الإنحطاط وذكاها الإستشراق وظلت اليوم سيما في الأجيال الآيلة إلى الإنقراض رسما عليه عليه السلام وعنوانا له؟ ألم يثبت عليه السلام قوله في عقب الهزيمة الثقيلة التي مني بها التحالف العربي الإسرائيلي في الأحزاب : اليوم نغزو ولا نغزى؟ يعني أنه كان قبل ذلك محل غزو وعدوان. لذلك أرفض نسبة صفة الغزو إليه عليه السلام لا إنحناء تحت مطارق الإستشراق والإستغراب ولكن لأن دراسة سنته وسيرته ـ بعد الكتاب العزيز ـ علمتني أنه نبي السلام والأمن لا ينشئ حربا ولا عدوانا ضد أي كافر ما كان مسالما فإذا إعتدي عليه قاوم. لا أظن أن المقاوم دون حريته ووطنه يليق أن تنسب إليه صفة الغزو. لعل الفلسطينين اليوم هم غزاة ضد إسرائيل؟
أحد هو جبل لا يبعد عن المدينة المنورة إلا أميالا قليلة فهل نصف ساكن المدينة بالغازي ونسلّم للمشرك الآتي من بعد زهاء نصف ألف ميل كامل ـ من مكة ـ شاهرا سلاحه بالأمن والسلام وبث الورود؟
أحد عدوان سافر غادر مثله مثل كل المعارك أو جلها على الأقل أنشأه المشركون ثأرا سخيفا من هزيمة بدر المدوية ولذلك سجله القرآن الكريم في ثاني سورة ـ آل عمران ـ ولم يلتزم بالتسلسل التاريخي إذ أخر نصر بدر إلى الأنفال. الرسالة هي : الإنسان يتعلم من هزائمه وإخفاقاته أكثر مما يتعلم من إنتصاراته ونجاحاته. فهل نفعل؟

عبرة عظمى عنوانها : الديمقراطية قارب النهضة

لا تعنيني الأسماء أبدا وبالكلية إنما يعنيني المسمى ومقصده. إذا أردت أن تزن نفسك لتعرف قيمتك الفكرية فأنظر هل أنت من الذين يضيعون أوقاتا ثمينة جدلا فارغا هل أن الإسم الذي يحقق لنا النهضة هو الشورى أم الديمقراطية. فإن كنت حبيس تلك الجدالات حول الأسماء في كل حقل فذاك حسبك وإن كنت تتجاوز الأسماء إلى المسميات فأبشر بصحبة عنوان الذكاء الفاروق عليه الرضوان الذي رضي بحذف عنوان الجزية عن نصارى تغلب وهم يطلبون منه أن يأخذ عنهم الجزية دون أن يسميها جزية فما تردد في أخذ المال مقرا لهم بما يريدون والحال أن الجزية لفظ قرآني صحيح صريح. أمر آخر يدعو إلى عدم التوقف هنا وقوامه أن كلمة الشورى غريبة حتى بين أهلها الذين يعدونها آلية للحكم فحسب وليست خلقا إسلاميا كما ورد في سورة الشورى نفسها ( وأمرهم شورى بينهم ) أما كلمة الديمقراطية فهي الكلمة التي إخترقت الأدغال والوهاد والنجاد بسبب غلبة أصحابها وتعويلهم على نفاذ الكلمة صوتا وصورة. ولا بأس ـ بل هو المطلوب فقها دعويا وحكمة إعلامية ـ أن نخاطب الناس اليوم بما يفهمون أي إستخدام كلمة الديمقراطية متغاضين ظرفيا عن الفوارق بينهما إذ العبرة أن يعي الناس من مسلمين وغير مسلمين أن الإسلام دين ينكر الإكراه ويرفض التغلب ولا يجيز أي عقد ـ حتى مع الله كما يتبين بعد قليل ـ مبناه الإكراه. وعندما يعي غير المسلمين بهذا يدخل الناس في دين الله أفواجا بإذن من قلوب العباد بين إصبعين من أصابعه سبحانه. أما أن نصد الناس عن ربهم الحق بإسم التشبث بكلمات لا تصل إليهم إلا مشوهة بسبب ترسبات تاريخية داخلية وخارجية كثيرة فليس هذا من الفقه الدعوي ولا من الحكمة الإعلامية في شيء

الإسلام ينبذ أي علاقة لا تقوم على التراضي

حتى في العلاقة معه هو نفسه سبحانه فإنه لا يقبل من عبده إيمانا مكرها عليه وإلا عدّ منافقا. حتى معه هو نفسه سبحانه يخبرنا أن ( من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر ) وألا ( إكراه في الدين ) وغير ذلك ما هو كثير مبسوط. أي أن العلاقة معه هو نفسه سبحانه لا تقوم إلا على التراضي والتشاور والتفاهم ونبذ الإكراه. في العلاقة الزوجية يعدّ عقد النكاح الذي بني على غير التراضي الكامل بين الزوجين باطلا ولا يتردد القاضي في إلغائه حفظا لأعلى مقصد إسلامي أي حرية الإنسان وكرامة إبن آدم. حتى في قضية عائلية صغيرة أي الفصال ـ الفطام ـ أرشدنا إلى أنه لا يتم إلا بالتراضي والتشاور بين الزوجين في سورة البقرة. إذن يبطل كل عقد سواء مع الله أو مع الزوج أو مع الإنسان مهما كان دينه ما لم يقم على التراضي والتشاور والتبايع الحر ولذلك سمي العقد السياسي قديما : البيعة
ولما ضيق على الإمام مالك عليه الرحمة والرضوان من لدن بعض أمراء الجور في العهد العباسي وأراد هؤلاء إكراهه على تزكية شرعية لملكهم العضوض قال كلمته المشهورة : طلاق المكره لا يقع. أي لا ينفذ وهو يتحدث إلى أناس يعون قالته التي تعني أن بيعة المكره لاغية باطلة فلاقى من العذاب ما لاقى ومثله بقية الأئمة كلهم تقريبا وربما ما جرى للإمام أحمد أشد وأنكى تعذيبا بدنيا ولما آل الآمر إلى بعض المتمحلين على علو كعبهم الفقهي لجؤوا إلى حيلة أسموها : شوكة المتغلب أو صاحب السيف أو العصبية ويقصدون بها شرعية ملك القوي المتغلب بسيفه وربما يشفع لهم أنهم يريدون حفظ صف الأمة ولكن العبد الفقير إلى ربه وحده سبحانه يعد أن أعظم بدعة وأشنعها حدثت في الأمة إلى يوم الناس هذا إنما هي بدعة الإنقلاب ضد الشرعية الإنتخابية التي سار عليها العهد الراشدي الأول من أبي بكر حتى علي عليهم الرحمة والرضوان جميعا وبذلك وقعت الأمة من تلك الأيام إلى يومنا هذا في التحذير النبوي الصحيح : لتنقضن عرى الإسلام عروة عروة أولها الحكم وآخرها الصلاة. حتى البدعة التي تحدث عنها المفكرون المعاصرون أي إستيراد قوانين غربية أو الغزو الفكري أو غير ذلك فهي بدعة فرعية وإنما البدعة الأصلية هي الإنقلاب الأموي ضد الآلية الشورية التي كانت تسير بها الأمور السياسية والإدارية والمالية والعسكرية في الخلافة الراشدة المهدية الأولى

ألا يكفي أن يحوي الدستور الأعظم سورة سماها بنفسه الشورى؟

الله وحده نفسه هو الذي سمى السور وليس جبريل ولا محمد عليهما السلام. وعندما ينزل إلينا الدستور الأول الأعظم بسورة إسمها الشورى فلا أظن أن أحدا يماري أو يتمحل في أن المقصود الإلهي إنما هو تسيير شؤون الأمة من العلاقة مع الله سبحانه مرورا بالأسرة وحتى القضايا السياسية والمالية والإدارية والأمنية والعسكرية على أسس التراضي والتعاقد الحر والتبايع الكريم والتشاور ولا أتحرج أبدا البتة أن أسمي اليوم ذلك كله ديمقراطية إقترابا من لسان الناس وما بعث الرسل إلا بألسنة أقوامهم ليفقهوا عنهم ويزداد الأمر إلحاحية عندما نكون ضعفاء في حال تمزق وتفرق ومغلوبية لعل الشاهد الدولي بالتعبير المعاصر يفقه ما نريد فينصف قضيتنا ويكون ذلك سببا من أسباب النهضة

محمد عليه السلام مؤسس قانون التشاور وسنة التراضي

كان يريد عليه السلام وقد فوجئ قطعا بالحشود المكية حول المدينة أن يقاوم دون المدينة وأهلها من داخل المدينة نفسها ولكن مجموعة كبيرة من الشباب ممن لم يساهم في معركة بدر بصفة خاصة لم يرضوا منه ذلك فبادر إلى تنظيم إنتخابات مباشرة بأتم معنى الكلمة وآلت النتيجة إلى أن الأغلبية يريدون الخروج إلى مقارعة المعتدين فما كان منه سوى أن دخل بيته ولبس لامته ـ أي درعه الذي يقيه السهام والنبال ـ ولما رأى بعضهم أنه فعل ذلك نزولا عند نتيجة الشورى فحسب وهو لا يريد ذلك ـ وهو صحيح ـ وعرف في وجوههم ذلك قال كلمته التي تحمل الإنسان اليوم على نبذ التردد من بعد التقرير في أي شأن : ما كان لنبي أن يضع لامته إذا لبسها . أي أن من قلّب أي أمر فشاور وإستشار وإستخار وعزم ما كان يليق به أن يتردد أو يتراجع لأن التردد من الشيطان وهو ضعف نفسي يصيب الشخصية بالتأخر والمشاريع بالفشل

وجاء الوحي يصحح صفاقة نرددها نحن اليوم

أجل. تحدث الناس أو بعضهم أن الهزيمة العسكرية الثقيلة التي مني بها المسلمون بقيادته عليه السلام في أحد إنما كانت أثرا لإلتزامه الشورى وهو كاره لها فجاء الوحي يصحح الأمر وهو يفعل ذلك لنا نحن اليوم بقوله : وشاورهم في الأمر. أي أن الشورى التي إلتزمت بها لم تكن سببا للهزيمة ولكن سبب الهزيمة إنما هو عصيان بعض رجال جبل الرماة إذ ظنوا أن المعركة إنتهت وأن الزمن هو زمن جمع الغنائم فلما فعلوا ذلك أعطوا فرصة لقائد المشركين يومئذ لإحتلال ثغرة الجبل وإحلال الهزيمة بالجيش الإسلامي. الرسالة هي : التشاور والتراضي حتى لو كان في غير إتجاه القائد ـ بل حتى لو كان ذلك القائد هو محمد نفسه عليه السلام ـ لا يأتي إلا بخير. ولكن إلتقط الإنحطاط تلك القالة وها نحن إلى اليوم نردد أن الحكمة والذكاء والعبقرية قيم لا تمنح إلا لقادتنا وحكامنا فهم يعلمون ونحن لا نعلم وأن معارضتهم هراء و خلّقنا بأنفسنا لأنفسنا ردة سياسية ثم نرفع عقائرنا بالصياح عند إشتداد حملات البوليس علينا تكميما للأفواه وإغمادا للأقلام

الديمقراطية مفتاح التحرر وسر النهضة

أليس هو درس نلتقطه من التجربة الغربية والأروبية الكافرة بالوحي والدين؟ بأي شيء سادوا في الدنيا وقهرونا؟ أليس بالحرية والكرامة لمواطنيهم؟ أليس بالديمقراطية السياسية والإعلامية والشفافية الإدارية والمحاسبة المالية؟ من أين جاءت طائراتهم التي تقصف حلب؟ أليس بالعلم الكوني الذي نعده نحن اليوم هرطقة وأحرى بنا أن نتعلم الدين وليس الدنيا؟ والعلم : أليس جاء بالحرية الفكرية؟ ألم تكن أمتنا في مثل ذلك بالتمام والكمال يوم كانت حرة؟ أليس هذا نبينا عليه السلام يعلمنا أن الديمقراطية ـ التي هي الشورى في هذا الصدد ودعك من معركة المصطحات ـ هي سر النهضة التي بها يتوحد الصف ويتكرم الإنسان ويتحرر العلم وننحت الحديد؟ يا حسرة على أمة كفرت بسورة الصف فتمزق صفها وكفرت بسورة الشورى فعربد حكامها وتبرج فسّادها وكفرت بسورتي العلق والرحمان فغمرها الجهل وكفرت بسورة الحديد فإنهال عليه الحديد يمزق أبنائها شظايا وبناتها شذرات

الهادي بريك ـ ألمانيا
brikhedi@yahoo.de

شاهد أيضاً

على الزعيم اردوغان ان ينقذ تجربته قبل فوات الاوان

كلمات قبل البداية اولا : لا اظن ان الرجل الكبير اردوغان راضٍ عن نتيجة الاستفتاء …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *