كلمة بغير ميعاد

أجل.هي كلمات ما كنت أعتزم تحبيرها ورب الكعبة. ما الذي دفعني إليها إذن. الباعث واحد لا ثاني له.

الباعث هو أني ذكرت اليوم ـ السادس من يونيو حزيران 2014 ـ أني أكملت التاسعة والخمسين من عمري وباشرت العام الستين. كنت غافلا عن ذلك ولكن لما فتحت هذا الجهاز العجيب ألفيت التهاني تتهاطل علي من كل صوب وحدب. مثار العجب أن أبناء جيلي لم نكن نحتفي بمثل هذا أبدا البتة. فلا كان الواحد منا يذكر ” عيد ميلاده ” ولا كان الواحد منا يهنئ غيره بذلك.

في السنوات الأخيرة ” غزتنا ” عادة الإحتفال بأعياد أبنائنا ممن هم دون العاشرة أو أكثر بقليل. أما أن يحتفي مسن مثلي بعيده وهو يودع الخمسينات ويباشر الستينات .. كان ذلك في جيلنا نحن هرفا مهروفا وهذرا مهذورا. ذلك هو الشعور الذي إنتابني اليوم. الإنسان كما يعلم كل مثقف هو إبن بيئتة وصنيعة إلفه وعاداته وتقاليده وما شب عليه.

العبد الفقير إلى ربه تعالى لا ينفك عن ذلك وما ينبغي له أن ينفك عنه. ما هو المطلوب مني اليوم. لست من الذين يرون بدعية هذا الأمر بل هو أمر له في الإسلام جذر نابت أصيل إذ ثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه لما سئل عن صيام يوم الإثنين قال : „ ذاك يوم ولدت فيه وأريد أن ألقى فيه ربي صائما “. ما الذي دفعه إلى أن يذكر ميلاده؟ أليس هو نبي معصوم ولا ينطق عن الهوى.

أجل. ما ذكر ذلك سوى ليشعرنا بقيمة الزمان وقيمة الوقت وقيمة الإنسان وقيمة المراجعات التي لا بد لكل واحد منا في كل عام جديد ألا يضن بها على نفسه إذ ” كل إبن آدم خطاء وخير الخطائين التوابون ” كما قال هو عليه الصلاة والسلام في موضع آخر.

أجل. كل ذلك وأكثر منه يمكن للمؤمن المثقف الواعي العالم بزمانه ومكانه أن يستنبطه من حديثه الذي علل فيه صيام يوم الإثنين. الإحتفاء إذن عمل مباح ومن يحترم نفسه ويفقه دينه لا يجازف لا بتحريمه ولا بتكريهه كما لا يجازف لا بإيجابه ولا بإستحبابه وأكثر مساحات الحياة ـ حتى عندما تكون الحياة مقودة من الإسلام الكريم ـ هي من ذلك القبيل أي مباحات. ولكن كل مباح هو مقيد بالضرورة في الشريعة الإسلامية .

أجل. حتى شرب الماء مباح مقيد. ما الذي قيده؟ القيود تترى عليه عندما يشرب المرء أكثر من حاجته فيهلك نفسه أو ربما يموت أو عندما يشرب أكثر من حاجته فيحرم غيره أو غير ذلك مما تنجر عنه مهلكات للنفس أو لغيره من الناس بل حتى من الدواب والأنعام من حوله. كل مباح إذن هو مقيد بالضرورة. والإحتفاء بعيد الميلاد مباح مقيد. يقيد بعدم الإسراف والعجب والخيلاء في كل شيء أكلا وشربا ورفاهة ورغد عيش وأناقة وغير ذلك. ويقيد بعدم الإسراف في الزمان والوقت الموضوعين للعبادة والعمارة والخلافة وإقامة العدل بين الناس أجمعين قدر الإمكان. لا أقول ـ كما يقول بعض المتدينين التقليديين ـ أنه مقيد بعدم إرتكاب المحرمات. لم؟ لأن عدم إرتكاب المحرمات أمرنا به في مثل تلك المناسبات وفي غيرها. المحرم قطعا يظل محرما قطعا في مثل تلك المناسبات وقبلها وبعدها. ولذلك لا يصلح ذلك قيدا مناسبا يذكره أهل العقل في هذا الدين. أقول ذلك ولكني لم أحتفل بعيد ميلادي ولو مرة واحدة ولا أعتزم ذلك ولو مرة واحدة ولم أتعرض لذلك في عائلتي ولو مرة واحدة. حتى أبنائي وأحفادي لم يتربوا على ذلك وليس عيد الميلاد عندنا فقرة ثابتة في الحياة. ولكن الحق أحق أن يتبع. وكثير من المنسوبين إلى الدين اليوم يفتون بما تجري عليه الأمور في حياتهم هم فما رضوه لأنفسهم هو مشروع لغيرهم مع كثير من التشديدات ليظهروا أنفسهم أنهم علية القوم أو من أهل العصمة وغيرهم من أهل العامة أو بالتعبير المنحط القديم عامة العامة وما لم يرضوه لأنفسهم هو محرم على غيرهم. 

بعض المتدينين نصف تدين بالجارحة وصفر تدين بالعقل ـ والعقل هو ربان سفينة التدين ـ يحرمون ذلك أو يكرهونه لأنه عليه الصلاة والسلام لم يحتف بعيد ميلاده. بلى. هو إحتفى بعيد ميلاده ولكنه إحتفى بالصوم وليس بشيء آخر. والصورة دوما ـ بخلاف الجوهر ـ تتغير لأنها وسيلة والوسائل ليست من الشريعة إذ الشريعة تحدد المقاصد الثابتة وتدع الوسائل للناس ومن الوسائل اليوم معجون الأسنان بدل عود الإراك ووسائل أخرى كثيرة تغيرت يضيق عن ذكرها هذا المجال لضيقه. وفضلا عن ذلك فإن أولئك يجهلون قاعدة فقهية أصوليه شهيرة جدا وعليها الإجماع منعقد وهي أن أفعاله عليه الصلاة و السلام ـ وليس أقواله ـ لا تفيد غير المشروعية والجواز والإباحة ولا ترتقي إلى الإستحباب بله الوجوب إلا بصارف مقرون قوي يعرفه الذين يستنبطون منا الأحكام سيما المتغيرة منها. فلسنا ممنوعين من كل فعل لم يفعله هو عليه الصلاة والسلام ولسنا مأمورين بكل أمر فعله هو ولكن الأمر منعقد في أصله ـ وفي الغالب كذلك وليس دوما وهنا تفاصيل يعلمها طلبة علوم الحديث وأصول الفقه ومقامات التشريع ـ على أقواله إذ القول في العادة وليس دوما أقوى من الفعل أما التقرير فله مباحث أخرى. 

على كل حال حاصل القول في هذا أمران :

أولهما أن عيد الميلاد مناسبة سنوية للعمل بهذه الآية الكريمة :“ يا أيها الذين آمنوا إتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد “. والغد غدان : غد قريب هو غد الدنيا وغد بعيد هو غد الآخرة والمعنيان مقصودان ويعضد ذلك التأويل قول الفاروق عليه الرضوان : حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم. فالمحاسبة والمراجعة ونخل الكسب لعام واحد تخلى على الأقل هو المطلوب الأول بهذه المناسبة. بل ذلك هو الذي عناه عليه الصلاة والسلام في تعليل صيامه يوم الإثنين كما مر بنا آنفا. وعندما يحتفي المرء بعيد ميلاده لتكون ذلك محطة للمحاسبة والمراجعة والتوبة والأوبة فإذن ذلك لم يعد ” بدعة ” مكروهة بل يصبح ذلك مستحبا كبيرا بل ربما ” واجبا ” عظيما. إذ الأمور بمقاصدها وليس بوسائلها سيما في الحياة العامة وليس في الحياة التعبدية المحضة التي لنا فيها الوسائل والمقاصد معا منزلتين.

ثاني الأمرين هو أني أهتبل هذه المساحة لأرد التحية لكل الإخوة والأخوات الذين بادروا بتهنئتي بهذه المناسبة. نحن مأمورون برد التحية بأحسن منها ولكن العبد الفقير إلى ربه حظه أنه يرد التحية بمثلها أو ربما بأدنى منها أما بأحسن منها فهو حظ المحسنين ولست منهم قطعا.

 ولكن يظل الشعور الخاص لا يدركه سوى من هو في عمري. شعور خاص فيه الأمل وفيه الألم. سؤال خاص مخيف مزعج : أنى مرت كل هذه السنون وكيف مضت. وفيم. ما قدمت لنفسي فيها. أنظر خلفي فلا أكاد أجد شيئا. أجل. ورب الكعبة. الأكيد أن الذي مازال يحجز عني ضمة القبر أقل بقليل من الذي مضى وإنقضى. هل يمن علي سبحانه بإحدى المشاريع الإستثمارية الثلاثة التي وعظنا بها : ولد صالح يدعو لأبوبه من بعد موتهما أو صدقة جارية أو علم مبثوث في الصدور وفي القماطر. يا رب. هل يختم لي سبحانه بأحسن ختام : الشهادة في سبيله. ذلك هو الأمل الباقي والرجاء الصافي. يارب. هل يجعلني سبحانه من خير من تعلم القرآن وعلمه. يا رب. هل يجعلني سبحانه للناس بالقرآن الكريم إماما. يارب.

 الأمل الوحيد هو في الرحمان الرحيم سبحانه أن يتغمدني برحمته وإلا فقد هلكت وهلكت وهلكت.

 وشكرا لكم جميعا.وأعاد الله عليكم الأيام العذبة المعطرة بالمقاومة إذ المؤمن مقاوم أو لا يكون.

 الهادي بريك ـ تونس

brikhedi@yahoo.de

 

 

 

شاهد أيضاً

قصة يونس عليه السلام

هو يونس إبن متى عليه السلام أحد الأنبياء المرسلين المذكورين في القرآن الكريم وحملت سورة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *