قطعيات الشريعة : أي وظيفة ؟ (3)

أسئلة أخرى لا بد منها : تراتبية القطعيات ومعايير تلك التراتبية من جهة وما يقتضي ذلك في حقل الحكم على الفعل أو تعييره من جهة أخرى وكلمات حول الإجتهاد وفريضة التجديد وتخصيص قضية الميراث بالنظر الإجتهادي

مقدمة قصيرة حول الإحكام

الإحكام بالتعبير القرآني ـ الإحكام الدلالي و المصدري ـ تختلف مستوياته بين القرآن والحديث إذ هو قطعي باتّ فيما يتعلق بالقرآن الكريم حركة حركة عدا تنوع الروايات والقراءات لحكم لا أرب لنا فيها الآن ولذلك أسبغ صفة الإحكام على آي القرآن وليس على الحديث ولا يعني ذلك التهوين من شأن الحديث أو تعريضه لرماح الشاغبين بغير علم ولكن معنى ذلك هو أن الحديث ـ السنة بتعبير آخر ـ محكم قطعي في مجمله لا في مفصله ولذلك نشأ علم الجرح والتعديل ولو شاء الله سبحانه وهو صاحب الشريعة الوضعية لحفظ السنة حركة حركة بمثل ما حفظ القرآن الكريم حركة حركة ولكنه قصر على حفظ الأصل ليقول لنا أن حفظ ذلك الأصل كفيل بحفظ الفرع وأن حفظ الفرع مفوّت فيه لكم أنتم إجتهادا في ضبط الرواية والدراية بالتعبير القديم. كما يريد أن يعلمنا أن القرآن الكريم حاكم لا محكوم أبدا البتّة وأنه متبوع لا تابع أبدا البتّة. ملاحظة أخرى مهمة تحسم الخلاف الذي يشبه الهذيان تشكيكا في السنة. عنوان هذه الملاحظة هو أن الحديث ـ أي السنة ـ محفوظ بأصول القرآن الكريم في مرحلة أولى فهو الذي ينشئها ( الصلاة مثلا وغيرها ) ومحفوظ بالتواتر العملي محل الإجماع المتعاقب من دون أي شذوذ ( صور العبادات والأذكار وما يتعلق بالدين جملة وتفصيلا وليس بالأبعاد الحياتية الأخرى للإسلام ) في مرحلة ثانية أي أن الذي يحفظ الدين ـ وليس الإسلام في كل أبعاده ـ محفوظ بالحديث نفسه لا قولا فحسب بل عملا والأهم من القول والعمل ـ أهمية صحة وليس أهمية مشروعية ـ هو جريان التواتر العملي إذ لم تحط بالأمة من قبل أزمة دينية عنوانها كيف نصلي أو كيف نصوم أو كيف نزكي أو كيف نقرأ القرآن الكريم أو كيف نحج ونعتمر أو كيف نتزوج أو كيف نطلق أو كيف نرضع أو كيف نقسم المواريث أو كيف تنظم العلاقات الأولى بين الإنسان وبين ربه وبينه وبين نفسه وبينه وبين دوائره الرحمية والجوارية الضيقة. بل ظل الدين حيا في المناطق الأخرى وظل الحنين إلى إستئناف الحياة الإسلامية سياسيا وماليا وغير ذلك حيا كذلك. مردّ ذلك هو أن الله تعهد بحفظ الذكر ـ وهو القرآن حصرا وقصرا وليس السنة ـ والرسالة إلينا واضحة جلية عنوانها : أنا رب العالمين أكملت لكم دينكم ـ ولم يقل : الإسلام لأن الإسلام أعم من الدين والدين هو قلب الإسلام فحسب وليس الإسلام كله ـ وأتممت عليكم نعمتي ـ وهي نعمة إكمال الدين أي الهداية الواردة في الفاتحة ومواضع أخرى ـ ورضيت لكم الإسلام دينا وبذلك جمع القلب الديني النابض المحفوظ الذي لا يموت وفوّت لنا ـ تكليفا وفريضة وإيجابا وليس رخصة أو إستحبابا ـ في إعمار الحياة كلها بالغذاء الديني وذلك هو معنى الإسلام أي إسلام الوجه كله ـ الحياة كلها ـ إليه وحده سبحانه. خلاصة القول هنا هو أن السنة محفوظة جملة لا تفصيلا وأنها محفوظة في الدين الذي لا بدّ منه لنشوء القلب وحياته وإدارة الدوائر الضيقة الأولى وما عدا ذلك منها يجتهد فيه المجتهدون فيصيبون ويخطؤون جرحا وتعديلا وتصحيحا وتضعيفا من دون أن يصاب الدين بخطئهم ولكن يبتلون بفريضة الإجتهاد هل يخوضونها أم يقعدون وهل يخلصون أم يراؤون. ولكن عندما نتجاهل ذلك وننخرط في معارك وهمية حول حديث الذباب أو إرضاع الكبير أو الرقى والختان وغير ذلك مما لو صحّ أو ضعف فلا يطيح بالدين فإننا نكون قد إرتددنا إلى مربعات يرضى عنها الشيطان وشيطان الإنس بها أرضى. ألا ترى أن الحروب عاصفة حول أحاديث الفتن وأمارات الساعة ومن في الجنة ومن في النار ومشاهد القيامة والمرأة والآخر المخالف من دون عنان ولا خطام يوثقها بالأصل الحاكم المتبوع أي القرآن الكريم؟ ذلك هو معنى ضياع البوصلة في إدارة العلاقة الصحيحة بين القرآن والحديث وبين الدين والحياة. الدين واحد لم يختلف فيه ولا حوله المسلمون مطلقا أبدا ولن يختلفوا ولكن الحياة مركبة متشابكة تغزوها المنافع والمصالح وتتقاطع فيها العلاقات مع الآخر وهي محل الإختلاف ومسرح المعركة ولذلك إختلف الصحابة وصاحب الرسالة عليه الصلاة والسلام مازال مسجى في كفنه حول من يحكم ولم يختلفوا حول مشروعية الحكم أصلا ولا حول التشريع الذي به يحكم. إختلفوا حول الحياة إذن وليس حول الدين وأسعفهم الدين بما بثه من إخلاص فيهم ومن علم عندهم فتداعوا إلى التشاور وظل الحوار مشتعلا ثم هادئا حتى تواضعوا على أبي بكر عليه الرضوان. الإحكام هو إذن إحكام مصدري يخص القرآن حركة حركة ولا يخص السنة إلا إجمالا وليس حديثا حديثا والضابط في ذلك هو أن الجانب الديني في السنة محفوظ بالتواتر العملي مناط الإجماع الكامل. المعنى المبكر لذلك هو أن الإحكام المصدري أولى لأنه متصل بالإعتقاد ثم يأتي الإحكام الدلالي وهو قليل نادر في القرآن الكريم كلما يمّمت وجهك شطر الحياة وهو قوي نابض كلما توجهت في الإتجاه المعاكس أي يمّمت وجهك شطر الدين. تلك هي العلاقة التي وجبت إعادة إدراتها بين القرآن وبين السنة من جانب وبين الدين وبين الحياة من جانب آخر وعلى ضوئها يكون الإجتهاد فريضة

تراتبية القطعيات

أمارت الإحكام ـ كما مرّ بنا في موضع سالف ـ منها أمارات لفظية ومنها أمارات شرعية وضعية. وهي تخضع لتراتبية معروفة عنوانها هو أن ما تواتر حوله الوعيد أو الوعد أو العذاب المعجّل يكون في الصدارة من تلك المحكمات القطعية وما عفي من ذلك يتأخر. أبرز محل لتراتبية المحكمات القطعية هو التمييز ـ وليس التفريق ـ بين الحقل الفكري ( الذي سمّي عقديا أو تصوريا أو غير ذلك ) وبين الحقل العملي ( الذي سمّي عبادة أو معاملة أو غير ذلك ). ولذلك جاء الإيمان سواء بأركانه الستة الموقوفة ركنا ركنا محكما قطعيا راسخا ثابتا لأنه يحيل على السعادة في الدنيا أو الشقاء وعليهما كذلك بعد الموت. ألا ترى أن التعبير عادة ما يجيء بقوله ( الذين كفروا) وليس بقوله ( الكافرين ) إلا نادرا؟ المقصود هو أن الوعيد يشمل الذين كسبوا الكفر فعلا أي بصيغة الفعل وليس صفة إذ بالصفة أكثر البشرية كفار ولكن بالفعل ـ الكسب المقصود الإضماري العمدي من أهله ـ لا يعلمه إلا هو سبحانه. قارب الفهم الصحيح هو التأني والتدبر والتفكر وذلك بسبب دقته العجيبة المتناهية التي تميز بين الفاعل وبين الفعل وبين الفعل وبين الإسم وغير ذلك مما لا يحصى. من مظاهر أزمتنا الضاربة هو التعجل والتسرع ومرور الغافلين ـ وليس الكرام ـ على عجائب نظم هذا الكتاب. أزمتنا أننا لم نعد عربا عروبة لسان. وكفاك أن تعلم أن أكثر جهابذة اللسان العربي ( إبن سبوية مثلا واحدا ) وأن أكثر جهابذة العلم الشرعي والكوني معا ( إبن حنيفة مثلا واحدا ) ليسوا عربا في الأصل ولكن تعربوا لسانا فقادوا العرب. كن عربيا أولا عروبة لسان ثم لكل حادث حديث. الحاصل هو أن أكبر مقاطع تلك التراتبية هو التمييز ـ وليس التفريق ـ بين الحقل الفكري وبين الحقل العملي. الأول كما سنرى بعد قليل لا يحتمل الإختلاف في أصوله إلا إختلاف إيمان عن كفر. الثاني يحتمل ذلك في مساحات واسعة وساحات شاسعة

معايير الشريعة المزدوجة

يأتي هذا جوابا على سؤال سالف عنوانه : ما هو الحكم على الفعل؟ بداية لا بد من التمييز بين الفعل وبين الفاعل إذ أن الفعل هو أحد أكبر أعمدة العلم ـ علم أصول الفقه بصفة خاصة ـ وهو محل نظر المناطقة والمتكلمين والفقهاء والأصوليين. أما الفاعل أي الإنسان فبسبب تكريمه فإن أمره إلى ربه وحده فهو وحده من يحكم له أو عليه ولا يكون ذلك على وجه اليقين إلا يوم الحساب ولا يعني ذلك إعفاؤه من تحمل مسؤولية عمله أو قوله في هذه الدنيا إرجاء فاسدا زوّر به الأمويون إنقلابهم على سورة الشورى. العاقل يهتم بالفعل لا بالفاعل. الفعل باق ثابت راسخ أما الفاعل المرتد عنّا اليوم قد يرتد غدا إلينا والذي كفر اليوم ـ وليس الكافرـ قد يؤمن ويكون لي ولك إماما وقائدا. الفاعل متقلب والفعل باق. للشريعة معايير تحكم بها على الأفعال وهي معايير مركبة مزدوجة تختلف بإختلاف الحقل وليس بإختلاف الفاعل. من حرم فقه البعد الإزدواجي المركب المتعدد في الشريعة فقد حرم فقه الشريعة كلها ولا أمل له في فقه فيها يصوب نظره. من جهل هذا فقد جهل كل شيء : من جهل النظم المركب للشريعة ومن جهل النظم المركب للإنسان ومن جهل النظم المركب للحياة فقد جهل كل شيء. هو الأعمى الذي لا يسعفه النور ولو كان ضوء شمس ينساب شعاعا رقراقا يخلع على الكون ربيعا ساحرا طلقا. إزدواجية معايير الشريعة معناه يسرها وتعددها وجمعها بين بعدها الأفقي والعمودي ومعناها كذلك الإعتراف بالإنسان كائنا مزدوجا لا أحادي البعد والإعتراف بالواقع مثل ذلك أي حياة متقلبة لا تثبت على حال. كل ذلك لا يصلحه إلا شريعة مزدوجة. ذلك هو معنى التمييز بين الحقل العقدي والعملي وليس التفريق بينهما. التفريق طريق إلى الكفر والتمييز طريق إلى التجدد

بسط المعايير مقتضبة لا مفصلة

معيار الحق والباطل أو الكفر والإيمان : خاص بالحقل العقدي الفكري التصوري ولا يتعداه بحال
معيار الطاعة والمعصية : خاص بالحقل التعبدي وما جاوره من شؤون يغلب عليها الإختصاص والضيق
معيار العدل والجور : خاص بالحقل العام ولكنه أخص بالحقل الإجتماعي الإقتصادي المالي
معيار المصلحة والمفسدة : خاص بالحقل العام ولكنه أخص بالحقل السياسي داخليا وخارجيا
معيار الحلال والحرام : خاص بالحقل الإستهلاكي أكلا وشربا وملبسا ومنكحا وما جاور ذلك مما تغلب عليه الفردية
معيار السنة والبدعة : خاص بالدين الموقوف المعلوم ضرورة لا إجتهادا ولا يتعدى ذلك بحال
معيار اللطف والفظاظة : خاص بالحقل الأخلاقي وما يتزين به الإنسان خلقا أي حالا قلبية

تلك هي أهم المعايير. يهمّني أن أضرب أمثلة تبيّن معنى إزدواجيتها. لو نفذ معيار الحق والباطل أو الكفر والإيمان إلى أي حقل آخر عدا حقل الإيمان والإعتقاد لتورّط في الكفر كل الناس بما فيهم الصحابة الذين أخطؤوا مرات ومرات ( الذين أفتوا أميرهم مثلا بالإغتسال فمات فنالوا غضبا منه عليه الصلاة والسلام ودعاء عليهم بالقتل ). ولو نفذ معيار الحلال والحرام إلى الحقل السياسي لما كان ينبغي عليه ـ عليه الصلاة والسلام ـ أن يستأجرا مشركا دليلا لرحلة الهجرة التي أسست للإسلام وما كان ينبغي له أن يقترح على الأنصار تحديدا إرشاء قبيلة غطفان بثلث ميزانية المدينة لأجل فك الحصار لأن الفعل في بعده الأحادي فعل محرم ولكن أخرجه من دائرة الحرمة إلى الوجوب المصلحة السياسية. ولو جاوز معيار البدعة والسنة حقله لعدّ الصحابة أكبر المبتدعة إذ خالفوا أمره في صبغ الشعر بالسواد مثلا ( أبي أقرأ الأمة ) وعلقوا سهم المؤلفة قلوبهم وإيقاع حد السرقة عام المجاعة وإبتدع الناس المنبر العالي والمصدح والنظارات وركبوا الطائرات ورطنوا اللغات وأمثلة أخرى لا تحصى

فقه معاييرالشريعة التي تحكم بها على الفعل ـ لا على الفاعل ـ لا يكون دليلا على إزدواجية الشريعة نفسها فحسب بل يكون دليلا كذلك على تراتبية مواضع الإحكام فيها ـ القطع أو الصراحة بالتعبير الحديث ـ إذ أن معيار الكفر والإيمان مقدم على كل المعايير الأخرى فمن حقّ عليه أو أحقّه على غيره قذفا فأمره عسير عسير. معيار الطاعة والمعصية يأتي بعده مباشرة في القوة ولكن معايير الإستصلاح والإستفساد والعدل والجور هي معايير إجتهادية يمكن الإختلاف في إيقاعها وليس في الإقرار بها

وحتى لقاء قريب في الجزء الرابع أستودعك قراءة نقدية مترعة بالعلم ومشفوعة بالميزان

الهادي بريك ـ المانيا
brikhedi@yahoo.de

شاهد أيضاً

قصة يونس عليه السلام

هو يونس إبن متى عليه السلام أحد الأنبياء المرسلين المذكورين في القرآن الكريم وحملت سورة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *