الإنسان إبن بيئته.
قالة عربية تدعم قوله عليه السلام (يولد الولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه). كان العرب في الجاهلية ينشّئون أبناءهم على الغرور فقال شاعرهم (وإذا بلغ الفطام لنا صبيا خرت له الجبابرة ساجدينا). من هنا تنبع قيمة الأسرة مصنع الإنسان الأول فالإنسان يحمل البصمات الوراثية لأمه وأبيه قيميا لا خَلقيا فحسب بل يحمل من خؤولته ذاك بسبب أن بصمات الرحم الذي يصنع فيه أمضى إذ يزرع الرجل منيّه ثم يذهب في سبيل حاله. أكثر الجرعة التربوية التي تؤسس لشخصية الإنسان تُحتسى في السنتين الأوليين. شيء مخيف يلقي أعباء المسؤولية على الأسرة لتشيّد للطفل الجديد مناخا جديدا يناسب عصره. قيمة وعاها الإمام علي كرّم الله وجهه (ربوا أبناءكم لزمان غير زمانكم).
التربية فنّ وحكمة.
التربية عمل طويل شاقّ. نقل جبل من شرق إلى غرب على ما فيه من عذابات أهون من حقن إنسان بقيمة واحدة. كلّما شبّ الإنسان تأبّى عن إستقبال حقنات تربوية جديدة. التربية علم ومعرفة ولكنها مع ذلك فنّ وحذق ومهارة وشطارة وحكمة وذكاء. التربية غير التعليم. هذا يطعّم به العقل وتلك مصل تحقن بها النفس ليس تلقينا قوليا مجردا بل قدوة وإسوة. من قال لمربّاه : إفعل ولا تفعل فقد أخفق في إمتحان التربية. التربية حال. ويتأكد الأمر عندما نتوجه بالتربية إلى من هم دون سن المراهقة. إذ جُبل الطفل على التقليد فإذا رغب عن ذلك فهي أمارة أنه دخل مرحلة المراهقة التي لا بد له فيها من إثبات ذاته.
التربية صناعة مركبة تشترك فيها مواد كثيرة.
أولى حلقات التربية هي حلقة (الذرة) لقوله سبحانه (وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا). ثم الحلقة الرحمية حيث يصنع الإنسان من صبغ أبويه ويرث عنهما الخَلق والخُلق معا. يستوعب الجنين وهو في بطن أمه ما تفعله فإن كانت متوترة ورث عنها ذلك وإن كانت هادئة كذلك وإن شربت خمرا أو مخدرات أو سيجارة تغذى هو بذلك. وكذا إن خافت أو فرحت. ليس هو مستودعا فيها بل عضو مادي ونفسي منها. ثم الحلقة المهمة فإذا أرضعته لبنها تغذى من قيم الحنان والرحمة أكثر من تغذيه باللبن. ولذلك حرمت عليكم (أمهاتكم اللاتي أرضعنكم). و يسترضع الناس لأولادهم أملا في خُلق طيب.ثم الحلقة الواسعة ليحقن الإنسان بنوعية أكله وشربه وبيئته فإن كانت جَبلية ورث منها جفاء وإن كانت بحرية ورث لينا. ومثله ملبسه و مركبات بيئته بما فيها مما يسمع أو يبصر حتى لو لم يكن يفهم من ذلك شيئا لصغر سنه.
الأصل الأول : الوعظ وليس الزجر.
قال سبحانه (وإذ قال لقمان لإبنه وهو يعظه يا بنيّ) ولم يقل (وإذ قال لقمان يا بنيّ). حال القول هي حال الوعظ الذي لا يكون إلا (بالموعظة الحسنة). الوعظ قول متدثر بأردية اللين والرفق وليس الزجر والتأنيب. الوعظ باللين يبدأ به حتى عند ثبوت الجريمة إذ قال سبحانه لنبيّيه لمّا أرسلهما إلى فرعون (قولا له قولا ليّنا) وهو يعلم سبحانه أنه لن يزداد إلا كفرا.
الأصل الثاني : الإقتراب وليس الإبتعاد.
قال سبحانه عنه (يا بنيّ). هل يجهل أنه أبوه؟ بل لينسج معه منذ الكلمة الأولى حبال الودّ والقرب ليشعره أنه منه وليس غريبا عنه. الكلمة هي أخطر عقار يصنع رد الفعل فإن كانت طيبة إمتصت الغضب وإن كانت سيئة أورت نار الحقد. تكررت (يا بنيّ) ثلاث مرات.
الأصل الثالث : التحصين والحماية أوّلا.
قال سبحانه (لا تشرك بالله). لم يقل (أعبد الله). قيمة تربوية عنوانها : أبلغ شيء في تأسيس حقيقة هو نسف ضدها. لذلك كان مفتاح السعادة (لاإله إلا الله) مبتدئا بنسف الألوهية التي تورث الإستعباد أوّلا. ولذلك كان المشروع التحريري مبتدئا بنفي الإكراه فإذا إنتفى الإكراه ولدت الحرية ولادة طبيعية (لاإكراه في الدين). وإذا إنتفت الألوهية ولد الإيمان ولادة طبيعية (فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله). لا تبنى حقيقة إلا على أنقاض أضدادها فإن عجزت عن نسف أضدادها فهي حقيقة موهومة. عناية الشريعة بالمنهيات فاقت عنايتها بالمأمورات. فمن حصّن شخصيته ضد الشرك إستقبل مواد التربية بيسر.
الأصل الرابع : التعليل والإستصلاح والتقصيد.
قال سبحانه (إن الشرك لظلم عظيم). لم يكن كافيا أن يقول له (لا تشرك بالله). بل دعاه إلى التفكر ليلفى أن الشرك بالله نهي مقصّد يحمل منافع ومصالح وليس طلسميا مشعوذا يلقّن به الإنسان ولا يعي منه شيئا. المشرك يظلم نفسه إذ هو كما مثّل له عليه السلام كمن يعمل في ضيعة رجل بأجر فكان ذلك الأجير يؤدي ما غنمه من ضيعة مؤجره إلى غيره. هل يرضى مؤجر ذلك؟ لا يحسن المرء عملا إلاّ بقدر وعيه به غاية أما المقلد فيموت بموت من يقلده.
الأصل الخامس : الإشارة والإقتضاء لا العبارة والتلقين.
عندما تقرأ وصية لقمان تلفى أن تربيته على الإحسان لوالديه خالفت الصيغة التي بدأ بها معه. لم يتوجه إليه بأمر بل توقف الأسلوب اللقماني المباشر ليأتي الخطاب في موضوع الإحسان إلى الوالدين بإسم الله سبحانه بل بنون التعظيم تعظيما للمسألة. لا بد من وقفة هنا. موضوع الإحسان إلى الوالدين أكبر من الأمر اللقماني المباشر.عاد مرة أخرى إلى التعليل ليعلّم الإنسان أن المقصد من الإحسان مضاعف بالنسبة للأمّ إذ هي التي حملته وهنًا على وهن ثم أرضعته حولين. كأن لقمان بالأسلوب غير المباشر يدغدغ المشاعر الجِبلّية في كل إنسان حيال الرحم الذي حمله وغذاه. وعندما تكون المسألة فطرية فإن الأمر يكون من جنسها أي فطريا لأنه أدعى إلى الطاعة. لو قال له : أطعني وأمك كان كمن يطلب شيئا لنفسه ولكن لمّا جاء الأمر منسوبا إليه سبحانه علمنا قدسية الإحسان إليهما.
الأصل السادس : الدفع إلى التفكر والتدبر بجهد ذاتي.
بدأ وصيته بقوله (لا تشرك بالله) وبعد برهة عاد ليغرس تعظيم الله سبحانه في صدره ليس بصيغة الأمر أو النهي بل بالدفع إلى التدبر والتفكر (إنها إن تك مثقال حبة من خردل فتكن في صخرة أو في السماوات أو في الأرض يأت بها الله). هي الترجمة الواقعية لقوله (لا تشرك بالله). ترجمة مادية بطريق النظر في الكون سماء وأرضا وصخرا والنتيجة هي أن اللطيف الخبير الذي لا يخفى عليه شيء حقيق بالعبادة وجدير بها. ولن يستوي من تلقى الإيمان تلقينا بمن تلقاه بحثا ونظرا وتفكرا وتدبرا أي تجربة شخصية فهو كسبه وملكه.
الأصل السابع : التزكية التي تدفع إلى المقاومة والصبر.
من بعد ما عرض عليه وعظا وتفكيرا القضايا العظمى دعاه إلى تزكية النفس بالصلاة لتكرع من مناهل القوة بما يقويها على المقاومة السلمية (وأمر بالمعروف وأنه عن المنكر) وعلى الصبر على أذى الناس ومنقلبات الدنيا (وأصبر على ما أصابك). فالصبر يبني الشخصية المقاومة(إن ذلك من عزم الأمور). سياسة الإنخراط في الإصلاح.إذ وعظه بذلك مباشرة بعد إقام الصلاة. لا معنى لصلاة لا تزج بصاحبها في أتون المقاومة والإصلاح.
الأصل الثامن : التربية الأخلاقية مع الناس تواضعا.
يحدّث ولده الذي سينخرط في الإصلاح فلا بدّ له من سياسة أخلاقية مع الناس سداها التواضع لهم (ولا تصعّر خدك للناس) وللأرض نفسها (ولا تمش في الأرض مرحا). الناس لا يقبلون كلمة واحدة من صاحب كبر مختال فخور فما بالك بمن يؤمّهم بالخير.
الأصل التاسع : تقصيد الحياة ليكون لها غاية وهدفا.
عندما تكتمل وصاياه أو توشك لا بد من تأطيرها ضمن مقصد أعلى في الحياة (وأقصد في مشيك). بتلك الوصايا تكتسب حياتك غاية و رسالة. ثم يعود إلى التربية الأخلاقية لأن الإسلام رسالة أخلاقية (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق). (وأغضض من صوتك). قد يغضب المرء فيرفع صوته أو يوافقه أحمق أو يشطّ في بيان. رفع الصوت يضع من المروءة ويحقّر من المخاطَب ولا يساعد على البيان البليغ على عكس ما يظن أكثر المتحدثين والخطباء. يعتمد التمثيل لأنه أبلغ في البيان (إن أنكر الأصوات لصوت الحمير).
الهادي بريك ـ مدنين ـ تونس
brikhedi@yahoo.de
