النظام الزكوي ـ نسبة إلى الزكاة ـ جزء من النظام المالي تشريعا إقتصاديا ولا يخفى إرتباطه بالنظام العقدي
أوّلا : رغم أن الحقل ينتمي إلى المعاملات المعلّلة وليس إلى التعبديات غير المعقولة فإن القرآن الكريم أبى إلا أن يتوخى التفصيل في مصارف الزكاة بما يعني عنايته الشديدة بالحياة الإقتصادية للناس. كيف لا والمال بعد من أبعاد الحرمة الإنسانية والكرامة البشرية؟
ثانيا : تسميتها صدقات يحمل معنى الصدق وليس معنى الإحسان منّا باليد العليا على اليد السفلى كما هو سائد في ثقافتنا القولية والعملية معا. الزكاة أمارة صدق إيماني ولذلك يتجنبها المنافق ويؤيده تسميته إياها في بعض الأحيان زكاة لتزكيتها النفوس وتطهيرها القلوب من خبائث البخل والأثرة
ثالثا : حمّل الدولة مسؤولية جبايتها وصرفها لأهلها (خذ من أموالهم صدقة ) أي بمقام الإمامة السياسية ولذلك قاتل خليفته الأوّل دون حقوق الفقراء والمساكين من أبى تلك الجباية بالقانون الحكومي رغم أنه لم ينكر الفريضة من أصلها الديني. الدولة هي صنيعة الأمة وخادمتها وبذا يستأمن التشريع على أموال الصدقات مصادر القوة عنفا وتنظيما حتى لا تضيع حقوق الفقراء والمساكين
رابعا : إذا إزدحمت الحاجات البشرية فإن الأولوية لحاجة الأكل والشرب والإرتفاق الأساسي سكنا ومركبا ولذلك قدم النظام الزكوي الفقراء والمساكين فلا يرقب من جائع ولاء ولكن يحذر منه ثورة. وليس أسّ التفاوت الجهوي الذي نعيشه اليوم إلا ثمرة لإنخرام في الصرف العام يقدم الكماليات ويؤخر الضرورات
خامسا : عمل التشريع على مأسسة المصرف الزكوي جباية وصرفا ولذلك شيّد مصرفا ثالثا مقدما أسماه : العاملين عليها وهو ما يمكن أن يوازي اليوم وزارة المالية. المأسسة ترمي إلى صيانة الحقوق المالية للمحتاجين و تحمّل المجتمع مسؤولية ذلك عندما تجور الدولة أو تهمل هذا المنشط . مؤسسة العاملين عليها أصلها حكومي فإذا تمحض المجتمع لذلك حيلولة دون حيف الدولة وضمانا لحق المحتاجين فهو الأولى أن تترك حقوق الناس للإحسانات والإجتهادات الفردية
سادسا : ثبّت لمؤسسة العاملين عليها أجرا مناسبا لحاجات أهلها من أموال الصدقات ذاتها وذلك تمكينا لهذه المؤسسة التي تؤمّن حقوق الناس وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. سبق الإسلام غيره عملا بفلسفة التفريغ التي تكفل الإحسان والإتقان والإستمرارية والديمومة ولو ترك حقوق المحتاجين إلى المبادرات الفردية أو للتطوع والتبرع من لدن العاملين سيما عندما تتخلى الدولة أو تحيف فإن ضياع تلك الحقوق محقق
سابعا : ثم تفرغ التشريع إلى حق الإنسان في سماع الحق ولذلك جاء مصرفه الرابع تحت إسم : المؤلفة قلوبهم. ضمان حق البطن في الشبع أوّلا فإذا تمّ ذلك بحث التشريع عن حق صاحب تلك البطن في الإستماع والقراءة فإن أعجب بالإسلام إعتنقه وإن لم يعجبه عومل معاملة الإنسان المكرم. المؤلف قلبه قد يكون كافرا بل قد يكون محاربا سابقا ولكن رحمة الإسلام تمنحه فرصة فطرية ـ أي متعلقة بالمال وحب الإنسان للمال شديد ـ لإعتناق هذا الدين إن شاء إذ لا إكراه في الدين بل هو إغراء بالدين
ثامنا : تحريرا للإنسان جاء المصرف الخامس يعتق الإنسان من سجن الرق وهو في تلك الأيام عملة صعبة لا تنفع معها ” الثورجية ” ولا بد لها من سياسة تجفيف المنابع. ثورة هادئة قضت على الرق في غضون عقود قصيرات. وبمثل ذلك جاء تحرير الإنسان بالصدقات من سجن الدين الذي يثقل كاهل كل حرّ. فلا يكون دور الزكاة تحرير الإنسان من غوائل الجوع فحسب بل من غوائل العبودية لغير الله ومن سفلية اليد. ثم جاء المصرف قبل الأخير عاما جامعا يستوعب كل زمان و مكان و حال إذ سماه في سبيل الله ليشمل الإنكاح وطلب العلم وبناء معالم العمارة إستشفاء وسياحة وكل ما يرتفقه الإنسان في رحلته العمرانية تعصيرا للبنية التحتية وكسبا للتطور وبذا تساهم الزكاة في الحداثة الإسلامية الحقيقية. ولا يهمل مع ذلك كله عابر سبيل أو عزيز قوم ذلّ حتى لو كان في الأصل غنيا موسرا
تاسعا : النظام الزكوي عنوانه تحرير الإنسان بغض النظر عن دينه من كل ما يعود به إلى حياة الرق ماديا من مثل الفقر والحاجة والدين أو معنويا من مثل الرق الحقيقي أو الرق القيمي الفكري ثم ينفتح في سبيل الله ليساهم في عمارة الأرض بكل قيم الخير والجمال والعدل. ولم يتوسل إلى تحرير الإنسان بالحض والتحريض بل بتشييد مؤسسة عظمى هي مؤسسة العاملين عليها لتكون سفينة تتحقق بها مطالب تحرير الإنسان .
الهادي بريك ـ ألمانيا
brikhedi@yahoo.de