قتلوك يا ( منذر ) سامحهم الله

تأخرت عن رثائك يا صديقي العزيز ( منذر عمار) إذ ظللت أوّل أمس مصدوما مهموما بنبإ وفاة باغتني وما علمت عليك سوء عدا ( السكري ) الذي ألفته منذ سنوات طويلات. يوم أمس تضاعفت صدمتي إذ حملت إلينا الأنباء ممن حضر دفنك ومن مصادر أخرى أنك متّ إهمالا. وظلم ذوي القربى أشد مضاضة كما يقرض الشاعر الحكيم

كان يمكن أن تكون مستشارا أو إطارا عاليا

الراحل الكبير ـ وهو دون الستين ـ عرفته جارا في ألمانيا لسنوات طويلات ونشأت بيننا علاقات عائلية حميمية إذ كان مهموما بالإسلام وحركته همّا يندر أن يمتلأ به صدر من الذين يزحمون الجماعات الدينية. كتب عنه من سبقني إليه إذ كان قياديا طلابيا في الجامعة التونسية التي كانت تصنع المفكرين والمجددين وإذ كان ضمن أسرة تحرير ( المتوسط ) في باريس قبل ثلاثة عقود وإذ كان يدعى إلى المساهمة في الحوارات الصحيحة المتعلقة بحركة النهضة ( سلوا عنه صديقه الذي سبقني إليه كذلك رضا إدريس ) وإذ أجاد اللسان الألماني وإشتغل به لسنوات طويلات مرشدا إجتماعيا يقوم على توجيه من لفظتهم الحياة من الشباب المهمش ولم يكن يعلم أنه سيلقى المصير ذاته الذي كان ينتشل المراهقين منه وإذ كان ضمن الثلة المضيقة جدا ممن قام على تأسيس المركز الإسلامي بمدينة دنسلاكن في غرب ألمانيا وإذ ساهم في أعمال جمعية ( مرحمة ) بما أوتي من قدرة عجيبة على التفكير الإستراتيجي وصياغة الشعارات والقدرة الأعجب على الترجمة بين اللسانين العربي والألماني. للراحل الكبير خلة هي الأسوأ مما جعله منبوذا مكروها وهي العقل النقدي الصارم إذ هو سليل علم الإجتماع وسليل جماعة إسلامية ما شيدت على غير العين النقدية حيال الموروث قبل الوافد وليس هو سليل ثكنة عسكرية تخرج للناس مقلدين مطيعين ولا سليل كهف من كهوف الصوفية التي يتربى الناس فيها على تقديس الأولياء. نحن قوم نئد من في قلبه حبة خردل من نظر وتميّز ولا يغرنك تظاهرنا بغير ذلك. عندما لا تغريه بعض أعمالنا أو يشعر بأن العطالة تدنو منه يبادر بجمع ثلة من الشباب يؤطرهم بالقيم التي يحتاجها كل شاب يئن تحت أثقال الإنتماء المزدوج : الإسلام وأروبا وكان أولادي ممن أحتضنتهم تلك الأطر

ما سرّ قراره في تونس بعد الثورة؟

لم يكن مطمئنا يوما على شباب المسلمين سيما ممن ولد هنا ونشأ وترعرع وتشرّب من القيم غثها وسمينها. كان هذا الأمر يؤرقه دوما وكان لا يخفيه وما إن فتح الله على تونس بالثورة حتى يمّم شطرها لاجئا بولديه وكان أكبرهما في تلك الأيام دون سنّ الإلتحاق بالمدرسة النظامية. كان يمكن أن يكون مستشارا لرئيس الحركة في تخصصه الإجتماعي علما جامعيا ومزاولة ميدانية بل كان يمكن أن يكون من النخبة الدبلوماسية مع ألمانيا التي أجاد لسانها وخبر دروبها سواء دبلوماسية شعبية أو رسمية وربما سبقته وشايات الوقاحة والنفاق أن هذا الرجل لا يلجم لسانه عن نقد الحركة أو قلمه. أدواء النفاق والتصنع والكذب والتزلف أمراض وبيلة هجمت على حركة النهضة بعد الثورة هجوما كاسحا وشيدت لها هناك في عروشها دبابير موبوءة مما زهّد المخلصين في مناكفة المنافقين ولست آملا في حركة تطهيرية تصحيحية جادة تجفف تلك المنابع لعلنا ننصر بضعفائنا ممن عرفتهم أزمنة الذعر والخوف فما بدلوا تبديلا وعندما إنبسط خير وأبّهات قبضوا أيديهم

حركتكم في خطر داهم فلا تتأخروا

عندما يقايض هذا الراحل الكبير ـ عليه الرحمة والرضوان ـ من لدن أحد المسؤولين المحليين بأن يجاد عليه بدريهمات لا تسمن ولا تغني من جوع في مقابل إنخراطه في الحزب وعندما يستثمر الحزب في مستواه المحلي ( بما لا يبرئ الحزب كله ) فاقة هذا الرجل الكبير ليجعل من يده يدا سفلى يتجرع صاحبها الذلة والمهانة قبل وقوع تلك الدريهمات في يده لعلها تكفيه ثمن الدواء المعدّ لمعالجة ( السكري ) أو لقوت أهله.. عندها أرفع عقيرتي بأن حركتكم في خطر داهم ومحقق. أجل. قتل هذا الرجل الكبير بسبب إهمالكم المتعمد وبسبب عبادتكم الحزب وهياكله وعكوفكم حوله أنه صنم ووثن. أجل. وإذ ثبت هذا فإن رئيس الحزب نفسه مسؤول على التحقيق في هذا القتل وإحالة أصحابه ـ كائنا من كانوا ـ إلى لجنة النظام. هذا الراحل الكبير مات وما ينبغي له أن يتجاوز الساعة التي قضى فيها ولكني على يقين أن غيره على قائمة الإنتظار. أنتم أمام كارثة قيمية ستوريكم مزابل التاريخ وعندها لن يذكر الناس نجاحات سياسية أو مقاومات ومقارعات للطغيان. نحن نشترك جميعا ـ إلا قليلا منّا ـ في وأد هذا الحلم ودفن هذا المشروع الذي أراده أهله ـ رجال السبعينات الذين يرحلون واحدا في إثر الآخر أو يقتلون كما قتل منذر ـ قيميا أخلاقيا مجتمعيا قبل كل شيء وإنما عرضت الدولة وإصلاحها بالحزب والسياسة والحكم بسبب إنغلاق المداخل المجتمعية

حتى لا يقتل الآخرون وأدا خفيا

منذر عمار مات ولكن أخشى أن يصدر في حقنا هذا البلاغ ( وقفوهم إنهم مسؤولون ) بتهمة خرق قيم التآخي الذي قال فيها عليه السلام ( المؤمن أخو المؤمن .. ولا يسلمه) وقال إبن حزم في ( محلاه) : من أسلم أخاه للفقر فقد أسلمه. وحتى نحمي أنفسنا من ذلك الموقف العصيب أوّلا وحتى لا يموت بعد هذا الراحل الكبير أحد إهمالا وبعضنا ـ بسبب لبثه في مواطن القيادة وليس بسبب آخر ـ يرفل في الحرير ويمتطي الفارهات فإنه لا مناص لنا من تأسيس وقف أو مؤسسة أو إنشاء صندوق أو نحوا من ذلك حفظا لحرمات الرجال والنساء الذين وضعوا يوما في الغابر لبنة من لبنات هذا المشروع العظيم . دعوني أرفع عقيرتي مرّة أخرى بما يجعلني على درب هذا الراحل الكبير الذي تعلمت منه كثيرا. لست آملا حبة خردل واحدة من عمل في هذا المستوى يحتضنه الحزب وإلاّ كنت توجهت بكلامي هذا إلى الحزب مباشرة. الحزب إتجه خيارا أو ضرورة ـ لم يعد يهمني كثيرا ـ في إتجاه آخر ولوّن نفسه بلون آخر وما جعل الله لرجلين من قلبين في جوفه. الحزب أعجز اليوم وغدا من أن يقوم على ما نحلم به ونريده. نحن اليوم في وطن حرّ ومجتمعنا ولاّد وأبواب الجنة لا تحصى لمن أراد التنافس في الخير. يا أهل الخير : دعوا ألف رجل وإمرأة لهذا الحزب وشؤونه فهو عدد كاف وزيادة. إنفضوا وأعمروا الأرض خيرا وأرضكم بكر والحرية تغتال جيوب الفساد مع كل فجر جديد. أرض الله واسعة فلم تضيقون واسعا؟ فعل الخير في المجتمع لا تحصى أبوابه وتتسع لكل مبادر جديد. الحزب لا يحتاج أكثر من خمسة آلاف مناضل نساء ورجالا. أخبروني بربكم : ماذا يفعل الآخرون وهم شباب يتوقد حيوية ونشاطا؟ المجتمع أولى بكم وعضويتكم في الحزب محفوظة ومتابعتكم له أشد حفظا. لنشيد شيئا نحفظ به كرامة رجال ونساء لا تعرفونهم لأنهم ممن قال فيهم سبحانه ( لا يستطيعون ضربا في الأرض يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف تعرفهم بسيماهم لا يسألون الناس إلحافا ). والله أسأل أن يهديكم سواء السبيل

لو كان فينا محمد عليه السلام لقال لنا : قتلتموه قتلكم الله

أجل. إنما لا أقولها رأبا بنفسي أن أقدم بين يدي الله ورسوله عليه السلام. ألم يدع لأوّل مرة وآخرها في حياته كلها بالموت لفرط الغضب على حرمات الله سبحانه على من كانوا سببا في قتل صاحبهم وهم له ناصحون؟ أرادوا نصحه ولكنهم أعياء كما وصفهم عليه السلام إذ قال فيهم ( إنما شفاء العيّ السؤال ) فلما أخطؤوا العلم وقتل صاحبهم دعا عليهم وهو الذي بالمؤمنين رؤوف رحيم وللعالمين رحمة مهداة ونعمة مسداة. ماذا سيقول لنا اليوم لو كان معنا إذ أهملنا واحدا منا فمات وإذ ضننا على الراحل الكبير حتى بمقعد برلماني إذ طلب الترشح له وكأن الآخرين ولدوا من أرحام أمهاتهم ساسة أو أرضعتهم ( مارقريت تاتشر ) من حلمتها فقه السياسة. ذلك هو الإسلام الذي أدين به : دين متشدد في أعلى قمم التشدد عندما يتعلق الأمر بحقوق الإنسان

تلك نصيحتي وذاك ندائي
ذلك هو لسان الطفل الوديع البريء فيّ
أما أنا فواحد منكم بل أقلكم شأنا وحظا

الهادي بريك ـ ألمانيا

شاهد أيضاً

قصة يونس عليه السلام

هو يونس إبن متى عليه السلام أحد الأنبياء المرسلين المذكورين في القرآن الكريم وحملت سورة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *