فصول في ترشيد التفكير الديني ( 9 )

الفصل التاسع : فقه الأسباب فريضة دينية

مما تلبس بنا لعوامل تاريخية وسياسية عريقة أن نقصر الفقه على العبادات حتى تضخمت مدونتنا الفقهية وتورم فقهنا التعبدي فكانت الأسئلة الفارغة من مثل : أرأيت لو.. وبدل الإجتهاد حل الإجترار. أهملنا الفقه الإجتماعي والإقتصادي والسياسي أي الفقه العمراني أو الحضاري بالتعبير المعاصر. ولذلك تخلفنا لأننا قصرنا النظر الفقهي على جانب واحد من جوانب الإسلام. إذا كان مصدر الفقه هو القرآن الكريم فإن من يدرس القرآن الكريم ـ لا بل يقرأه مرة واحدة ـ يدرك بيسر أنه ممتلئ بالفقه العام ومنه فقه السنن والأسباب وفقه النهضة وفقه التقهقر وفقه الغلبة وفقه السقوط. اليوم عندما ترشحت بعض الحركات الإسلامية إلى القيادة في الحكومة العربية وجدت نفسها عفوا من أدبيات فقهية عمرانية سياسية ومالية ترشد عملها إلا قليلا ومازال ريب كبير وغبش أكبر منه يستبد بكثير من المسلمين ـ بل ربما بأكثرهم ـ أن الإسلام والفقه السياسي لا علاقة بينهما. من يطلع على كتابات الغربيين يدرك أن ذلك الريب مضاعف. أنى للدعوة الإسلامية أن تتقدم في مثل هذه المناخات؟

ما هو فقه الأسباب؟

السبب ـ جمع أسباب ـ هو أصل الشيء أو جذره أو علته أو غير ذلك من إختلاف الحد بحسب الحقل والمشتغل فيه. يكون السبب في القرآن سبيلا إلى بلوغ مرام ما. ” وآتيناه من كل شيء سببا فأتبع سببا “. أي أن ذي القرنين ما كان له أن يتأهل لحماية الناس من يأجوج ومأجوج وقبل ذلك من مشاكل أخرى إلا بعد أن تمكن من الأسباب التي أخبرنا عنها أنه إتبعها ولم تكن في رأسه مجرد وعي مترف.

علمنا الله سبحانه أن الأمور كلها تدبر بأسباب وسنن وقوانين فلا ينشأ شيء أبدا طرا مطلقا إلا بسبب موجد وبسنة قائمة وهو ما نسميه اليوم نضوج شروط التغيير أو إجتماع أسباب الإصلاح وهي التي أسماها مالك بن نبي شروط النهضة.

فقه الأسباب هو العلم بأن التغيير في كل حقل ومستوى لا يكون إلا بجذوة أولى محركة.

أمثلة من القرآن الكريم :

1ـ لما كتب سبحانه على مريم البتول أن تحمل بعيسى من دون مسيس وجاءها المخاض إلى جذع النخلة أمرها بأن تهز إليها بذلك الجذع. الهز لغة التحريك القوي. أليس هو الذي كتب عليها ذلك؟ لم يحملها مسؤولية الهز وهي إمرأة صغيرة خائفة ضعيفة وفي حال مخاض؟ أليس من الأنسب أن يسقط عليها الرطب من دون جهد منها سيما في حالة ضعف بدني وحتى نفسيا تكن خوفا من قالة الناس؟ ليس هناك من جواب أقرب إلينا من أنه يريد أن يعلمنا نحن اليوم ـ وليس هي ـ أن السبب لا بد منه حتى في حالات المعجزات الإلهية. ميلاد عيسى عليه السلام معجزة إلهية ورغم ذلك لا تعفى أمه من الأخذ بالسبب. هل يصدق عاقل أن هزة مريم النخلة هي التي كانت سببا في سقوط الرطب؟ أبدا؟. لم؟ لأن مريم لا تحيط بذراعيها بالجذع مجرد إحاطة فأنى لها أن تكون قادرة على هزه بما يخلخله ويجعل رطبه يسقط. رسالته إلينا هي : لن تنالوا مني شيئا ـ لا رزقا ولا هداية ـ إلا إذا أطعتم أمري فتلبستم بالسبب وصدرت منكم حركة. لا عليكم في قوة الحركة عند العجز. الذي أريده منكم هو عدم الإستسلام لليأس أو القنوط أو الدعة والسكينة. أنا الذي تبارك وأنا من ينزل البركة على جهد صغير منكم ليكون كبيرا.

2 ـ لما أنجى سبحانه عبده موسى من بطش فرعون أمره وهو يضع أول قدميه في البحر الأحمر أن يضرب بعصاه البحر. هل يصدق عاقل أن ضربة عصا موسى هي التي شقت البحر فكان كل فرق كالطود العظيم؟ أبدا. لم؟ لأنه أمر معجز. السؤال نفسه يتكرر : لم أمر موسى بتلك الحركة التي لن تجعل البحر ينشق؟ والجواب نفسه : لأنه يريد أن يعلمنا نحن اليوم أن السبب لا بد منه حتى في المعجزة الإلهية. أجل. حتى في المعجزة الإلهية لا بد من حركة وسبب من لدن الإنسان. فما بالك إذا كان الأمر متعلقا بعمارة أرض أو نكاح أو عمل أو علم ولا علاقة له بالمعجزات؟ يكون هنا إستخدام السبب وإتخاذ الحركة أولى وأحرى.

3 ـ الأمر نفسه مع النبي نفسه أي موسى عليه السلام وهو يستسقي لقومه إذ أمر بأن يضرب بعصاه الحجر فلما ضرب نبع الماء وشربوا. الأسئلة نفسها والأجوبة نفسها. والغرض منه سبحانه هو تأكيد سنة السبب وقانون الرزق وناموس الحركة فلا رزق ولا هداية إلا بسبب من لدن الإنسان. حتى النبي ـ بل حتى الكليم وحتى الخليل ـ لا يعفى من ذلك. أليس من باب أولى وأحرى ألا يعفى من ذلك الإنسان؟ إذا كان السبب لا بد منه حتى في المعجزة الإلهية ولا بد منه حتى مع النبي الكليم والرسول الخليل فمن باب أولى وأحرى أن يكون مع الإنسان في عمارته الأرض.

4 ـ حتى في طلب الهداية يكون النظام نفسه أي أن الذي يريد أن يهتدي ويؤمن فما عليه سوى أن ينظر في الكون ويتأمل في التاريخ ويتدبر الحدث القريب والبعيد ولذلك إمتلأ الكتاب العزيز إمتلاء عجيبا بالدعوة إلى النظر والتفكر والتدبر والتأمل في الكون وفي التاريخ الذي إمتلأ به القرآن الكريم حتى الثلث وأزيد. أليس النظر والتدبر والتفكر أسبابا؟ هي أسباب غير مرادة لذاتها بل مرادة لغيرها وغيرها هو إقتناء إيمان لا ينضب وعقيدة لا تنهزم وتصور لا ينثني. حتى الهداية إذن لها أسباب.

خلاصات :

1ـ الحقيقة أن أصدق كلمة في حالنا هي قالة الشاعر : كالعيس في البيداء يقتلها الظمأ والماء فوق ظهورها محمول. إذ أن كتابنا ـ الذي هو دستور حياتنا ـ يمتلأ بقوانين العمارة وأسباب النهضة إمتلاء عجيبا ( أزيد من أربعين قصة تحتل أكثر من ثلث القرآن الكريم كله ومثلها أمثالا ومثل ذلك كله قصة وتاريخا أي أن أكثر من ثلثي القرآن الكريم يتحدث عن الدنيا وليس عن الدين ) .. ولكن حالنا هي أسوأ حال. ذلك هو معنى أن الدين سلاح ذو حدين فهو كالدواء ـ بل هو دواء فكري ـ فإما يتناول كما أمر الطبيب فيكون نافعا أو كما إشتهت أهواؤنا حتى العلمية منها فيكون ضارا.

2 ـ هذا الطاقم الكبير العظيم من الأسباب والسنن هو طاقم محايد إذ لما أخذ به غيرنا من غير المسلمين تقدموا وذلك هو معنى قوله سبحانه في سورة الإسراء : كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك. أي لا نضن بأسباب الحياة وسنن النهضة على أحد من عبادنا ما دام يأخذ بها.

3 ـ نبذنا نحن ذلك في عهود الإنحطاط السحيقة وإستبدلنا بها أهواء من عندنا إذ لجأ بعضنا إلى الرؤى المنامية يتطفل على الغيب ويصدقه الناس ولجأ فريق آخر إلى الدعاء فحسب وهو دعاء صادق ضارع بكاء ويتردد دون إنقطاع في الأرض ولكن هل تغير الحال؟ أبدا؟ لم؟ لأن الله أمرنا بالعمل أولا ثم بالدعاء. ولجأ آخرون إلى التطير كما كان يفعل المشركون في الجاهلية. ما تبدلت عدا صور المتطير به. كان طيرا وحصى فاصبح لونا أو يوما أو إنسانا أو طقسا.

4 ـ عنوان قانون الأسباب الذي ذكره القرآن الكريم مرتين هو : إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم. ليس هناك معجزات إلهية تتنزل علينا ولن تتنزل أبدا مطلقا. وليس هناك نبوات بعد النبوة الخاتمة. وليس هناك قوى أخرى من الجن أو من غيرهم يمكن لهم أن يغيروا من حالنا السيء إلى حال أقل سوء عدا نحن أنفسنا. هذا تصريح صحيح محكم.

ذلك هو لب عقيدة القضاء والقدر. عقيدة القضاء والقدر رسالتها كرامة الإنسان فلا هو ريشة في مهب الريح مفعول به لا حول له ولا قوة ولا هو إله ولا عشر معشار إله له تدبير مع المدبر الحكيم الخبير سبحانه. هو بين ذينك : سيد مستخلف مستأمن مسؤول مكلف مكرم معلم محرر عاقل في مملكة ربه. إن أخذ بأسباب القوة تقوى وإن أخذ بأسباب الضعف ضعف.

والله أعلم.

شاهد أيضاً

قصة يونس عليه السلام

هو يونس إبن متى عليه السلام أحد الأنبياء المرسلين المذكورين في القرآن الكريم وحملت سورة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *