فصول في ترشيد التفكير الديني ( 8 )

الفصل الثامن : قتال مرتدي اليمامة ومغالطة التدوين

موضوع الردة عن الإسلام وما نسب إليها من حدّ ليس مشكلة إسلامية في واقع الأمر إذ أن الإسلام لم يكن ـ بالتجربة التاريخية الموثقة ـ دينا يرتد عنه بل كان ـ ولا يزال حتى في أحلك الأيام ـ دينا يرتد إليه. الردة مشكلة مسيحية بالأساس ومشكلة الذين يزعمون اللادين بصفة عامة. ما الذي جعلها إذن تتصدر إهتمامات المفكرين وحتى العلماء والمثقفين؟ السبب جلي باهر عنوانه : تغوّل الحضارة الغربية ذات الأصول المسيحية جلب على المسلمين في القرون الأخيرة بخيله ورجله فصدّر إليهم مشكلته ليوحي غزوا فكريا أن الإسلام لا يعترف بحرية العقيدة أو التدين فهو دين القهر والإكراه إمتدادا للقالة الإستشراقية التقليدية القديمة أنه إنتشر بالسيف. وبمثل ما قال إبن خلدون فإن المغلوب عادة ما يكون مولعا بتقليد غالبه فإن جزء كبيرا من المسلمين ـ أعني المثقفين ثقافة دينية وغيرها ـ وقعوا في الفخ أي فخ الإعتذار عن الإسلام والقبول به إبتداء مورطا في السيف والقهر وأنه بما سمي حد الردة يكره الناس عليه وما عنوانه : لا إكراه في الدين إلا كلاما لا يصمد.

مرتدو اليمامة :

عندما أعيت الحيلة مثقفينا أن يعثروا على حد للردة في القرآن والحديث والسيرة لجؤوا إلى إستخدام قضية اليمامة في عهد أبي بكر عليه الرضوان مغالطة تاريخية ودينية في الان نفسه لتكون لهم شاهدا لا يصاول أن الإسلام بإجماع الصحابة يقتل المرتد. وجه المغالطة هنا هو أن أبا بكر والصحابة ـ إذ غدا إجماعا ـ لم يقاتلوا أهل اليمامة بسبب أنهم أنكروا فرضية الزكاة ـ الصدقات بالتعبير القرآني الرسمي ـ وإنما قاتلوهم ـ من بعد جدالات وحوارات ـ بسبب منعهم الدولة الناشئة حقها في المال بمثل ما حدد القرآن الكريم ذلك إذ أمر نبيه عليه الصلاة والسلام ـ بمقام الولاية السياسية وليس بمقام النبوة إذ لو كان بمقام النبوة لكان لأهل اليمامة حق في عدم إقتطاع جزء من أموالهم لغير النبي ـ بأن يأخذ ـ الأخذ لسانا عربيا يوحي بالقوة ـ من أموالهم صدقة :” خذ من أموالهم صدقة “. لم يكن إذن قتالهم بسبب جحود ديني ولم يؤثر عنهم أصلا أنهم جحدوا الفرضية الدينية للزكاة ولكن كان قتالهم بسبب ما يسمى اليوم فرض الإستقلال الذاتي وأخطر إستتباع للإستقلال الذاتي في كل عصر هو الإستقلال المالي إذ أن الدولة ـ كل دولة ـ تمول بجزء كبير من إيرادات مواطنيها. ألم يقل أبو بكر نفسه عليه الرضوان : لو منعوني عقالا كان يؤدونه إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام لقاتلتهم عليه. هو يتكلم بإسم الدولة والأمة وهو يعلم أن أموال الصدقات لم يفوت فيها الوحي حتى للنبي عليه الصلاة والسلام أن يجتهد في توزيعها بل حدد هو مصارفها. ومع مشكلات التدوين وربما مع مشكلات تأخر التدوين نفسه ومشكلات أخرى ورثنا نحن ثقافة دينية منخولة عنونها أن الإسلام يقتل ـ وليس حتى يقاتل ـ المرتد. هذه ردة سياسية بالتعبير المعاصر أو ردة سيادية أي فرض الإستقلال الذاتي والخروج عن الدولة. هذه مغالطة تاريخية ودينية معا قليلون جدا في عصرنا من تصدى لها وحرر خلافها وجلى أكنافها ولكن ظلالها السيئة مازالت تحجب التصور الصحيح فيها.

الخلط بين الردة وبين الحرابة :

لا أتردد في التصريح بأني أتبع المنهاج الأصولي الذي يعد القرآن الكريم هو المصدر الأوثق في رسم العقوبات المتعلقة بالإنسان أي وقوعا في نفسه أو حياته أو ماله أو عرضه بالعقوبة البدنية وما عدا ذلك يؤوّل أنه بمقام الولاية وليس بمقام النبوة والتبليغ أو يغشاه الضعف مناقضة للمنقول أو للأصول أو للعقول كما دوّن علماء الحديث. حياة الإنسان أغلى عند الله من أن تهدر بحديث إلا أن يكون الحديث مستجمعا لكل شروط الصحة المعروفة عند المحققين سندا ومتنا معا وبمقام النبوة والتبليغ وليس بمقام آخر. لا يمكن أن أفهم كيف يعين القرآن الكريم هذا الحد ـ الحرابة مثلا أو القصاص بالقتل ـ ولا يعين الحد الآخر. الأصوليون يقولون : لا يتأخر البيان عن وقت الحاجة.

عين القرآن الكريم حد الحرابة بوضوح وجلاء في قوله : إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا .. “. سماها حرابة وإفسادا في الأرض وصورتها أن يقوم شخص فما أكثر بالعدوان على الناس أموالهم أو أنفسهم أو أعراضهم أو غير ذلك مما تقوم به حياتهم قياما ضروريا وبدون حق مستقويا بعدده أو عدته أو سلطانه. هذا الأمر هو الذي سحبه كثيرون في القديم والحديث على الردة السلمية الفردية جهلا فكان خلط شنيع ظهرت فيه قيمة من أكبر قيم الإسلام ومحكماته ـ أي لا إكراه في الدين ـ في حالة تسلل أو دعوى كاذبة بالنسخ كما إدعوا نسخ آية السيف التي لم يتفقوا عليها هي أصلا لآيات محكمات تعنى بالدعوة بالحسنى والصبر والحوار والجدال الأحسن وغير ذلك.

الذي قام به الصحابة الكرام بقيادة أبي بكر عليهم الرضوان جميعا هو تنفيذ حد الحرابة على مرتدي اليمامة ليس بسبب كفرهم بفرضية الزكاة ولم يكفروا بها ولكن بسبب إعلانهم الحرابة ضد الأمة ممثلة في دولتها يومها واي حرابة أشد على الأمة من منع فقرائها ومصارفها الثمانية المعروفة حقها في مال الناس بحسب ما حددته الشريعة وليس قانونا بشريا يمكن أن يبحث فيه عن العيوب؟

كان يمكن أن ينأى التدوين التراثي بنفسه عن الخلط الشنيع حتى يقع التمييز بين الحرابة وحدها ـ وهو مغلظ جدا ومشدد جدا ليكون عدلا مقسطا مع المفسدين في الأرض وأكرم بالإسلام دين الإنسان أنه رتب أغلظ عقوبة على من يتعدى على حقوق الإنسان ـ وبين الردة.

ليس في الإسلام ضد الردة الفردية السلمية حد :

لا يحتاج المرء إلى دليل إذ قال الأصوليون : ليس على النافي دليل. إنما يطالب بالدليل من يخرج على أصل العفو الذي سموه قديما : براءة الذمة .. فيقرر خلاف ذلك. الذي سنّ حد الحرابة بكل ذلك التغليظ والقسوة جزاء وفاقا كان يمكن له أن يسن ما هو أخف من ذلك أي ما سمي جهلا بحد الردة. حد الردة الفردية السلمية لا يعني سوى أن هذا الكتاب متناقض تناقضا صارخا إذ هو يعلن في إحدى أكبر محكماته الواردة مباشرة بعد بيان من هو الله سبحانه ـ وأكرم بها من منزلة لها إعتبارها ورسالتها ـ أي : لا إكراه في الدين ومعلوم أنها نزلت في مجموعة من الأنصار ظلوا يدعون أبناءهم المتنصرين قبل الإسلام بالحسنى طويلا فلما يئسوا منهم أكرهوهم على الإسلام إكراه والد رؤوف حنون رؤوم على فلذة كبده التي يراها تغيب في جهلوت الكفر يوما من بعد يوم .. ورغم ذلك نهوا عن إكراههم من بعد ما أخفقت مساعي الحوار أن يدعوا المسيحية ويعتنقوا الإسلام. لا أجد في هذا الدين تكريما للإنسان أكبر من هذا الموقع.

النبي نفسه ـ عليه الصلاة والسلام ـ لم يعاقب مرتدا :

أورد البخاري عن جابر عليه الرضوان أن إعرابيا بايعه ثم أصابه وعك بالمدينة فطلب منه إقالته من بيعته وظل يلح عليه أياما والنبي عليه الصلاة والسلام لا يوافقه على ذلك رحمة به ورأفة به فلما يئس منه خرج من المدينة مرتدا عن الإسلام ولما علم به عليه الصلاة والسلام قال للصحابة : إن المدينة كالكير تنفي خبثها وتنصع طيبها. لم لم يقلته مادام له من ربه حد في الردة؟ لم لم يحبسه إستتابة كما جاء في التراث؟

أصل الردة في القرآن الكريم :

من يتتبع مواضع الردة في القرآن الكريم وهي كثيرة عدا الآيتين المعروفتين واللتان لم تحددا حدا وهذا هو معنى أن البيان لا يتأخر عن وقت الحاجة .. يدرك بيسر أن أصل الردة في الإسلام هي أنها وسيلة خبيثة يلجأ إليها الإسرائيليون بأذرع النفاق التي يتقاسمون معها الأدوار في خلخلة الدين الجديد وذلك لأجل إشاعة أن هذا الدين لا يصلح بالتجربة إذ يعتنقه المرء ثم يكتشف أنه لا يلائمه فيخرج عنه ومثل هذا العمل كان خطيرا وبالغ الخطورة في تلك الأيام وخاصة من رجال هم من عداد المؤمنين حالة مدنية إذ أن المنافقين كانوا يعدون مؤمنين ولا يعلمهم إلا قليل أنهم منافقون. رسالة خبيثة لجؤوا إليها لتخذيل الناس عن الدين وبلبلة الصف وتصريم الوحدة. تلك هي قصة الردة في الإسلام أي أنها وسيلة حربية من أهل النفاق الذين هم ذراع الإسرائيليين. لم يلجأ إلى هذه الطريقة الخبيثة عربي واحد لأن العرب قوم شهامة وكرامة ومروءة. أليس حريا بالشباب المتدين أن يعلم هذا حتى لا يملأ روعه أن الردة مشكلة إسلامية داخلية وإنما هي مشكلة خارجية. أليس اليوم يرتد الناس عن المسيحية وغيرها إلى الإسلام. لم تقعون في الفخ الغربي فتنكفؤون عن دراسة الردة وحدها المزعوم وكأن الإسلام يشهد ردة عنه وليس إليه. أليس الخطة الغربية هي التشكيك في قيمة الحريات الفردية في الإسلام؟

والله أعلم .

شاهد أيضاً

قصة يونس عليه السلام

هو يونس إبن متى عليه السلام أحد الأنبياء المرسلين المذكورين في القرآن الكريم وحملت سورة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *