فصول في ترشيد التفكير الديني ( 6 )

الفصل السادس : معايير التشريع مزدوجة فلا تعمل معيار هذا الحقل في ذاك لتضل وتضل.

الذين يشدون أنفسهم إلى اللسان العربي الهجين المعاصر منفصلين عن عين اللسان القح يضلون ويضلون. من ذلك أن تعبير : معايير مزدوجة .. تعبير مستهجن بسبب أن الإعلام الفضائي فرض ذلك. تلك هي الإمعية اللسانية لمن يغار على لسانه أم هويته. أما الهجين..فالصمت أولى.
الإزدواج أعلى قانون إلهي في الكون والعمران وعبر عنه بالزوجية فمن لم يفقه بعد قيمة الإزدواج فليتدارك أمره. ودعك من الهجانة.

لم كانت معايير التشريع مزدوجة؟

لأن التشريع قانون يعالج أمرين مزدوجين هما الحياة والإنسان وكلاهما مزدوج أي متعدد التركيب غير أحادي البعد. العلاقة بين الدين والسياسة ـ مثلا ـ تبدو مفهومة معقولة مقبولة عند من يعالجها بمعايير الإزدواج أي الجمع بين علاقتي الفصل والوصل معا أما من يسلك الأحادية النظرية فسيجد نفسه إما تقليديا إلى الغباء الأسطوري أدنى أو سلفيا مشوها إلى الحماقة أقرب أو ليبراليا عالمانيا بالعلو والكبر أخلق.

معايير التشريع هي :

1 ـ الحق والباطل وهو معيار حقله الوحيد الأوحد هو الإيمان أي العقيدة بالتعبير المستحدث وثمرته هي الكفر أو الإيمان ولا وجود لخطية حدية في الإسلام كله عدا هنا.

2 ـ الطاعة والمعصية وهو معيار حقله العبادة بمعناها الشرعي المعروف أي العبادة الموقوفة حتى لو خرجت عن دائرة الأركان المعروفة. ثمرة هذا المعيار هو الصلاح أو الفسق.

3 ـ الحلال والحرام وهو معيار حقله المعاملات المادية والمعنوية التي عادة ما تكون إلى الفردية والشخصية والدائرة الدنيا أقرب من مثل المأكولات والمشروبات والملبوسات والمنكوحات والمركوبات والمسكونات والمنظورات والملموسات والمسموعات والمصنوعات. ثمرة هذا المعيار هي كذلك الصلاح والطاعة أو العصيان والفسق.

4 ـ المصلحة والمفسدة وهو معيار حقله المعاملات الخارجية التي بينها وبين الشخصيات والفرديات مسافة وربما يكون القول أولى أن الحقل المفضل لهذا المعيار بتعبيرنا المعاصر هو الحقل السياسي بمعناه الواسع أي الشأن الحزبي والدولي داخليا وخارجيا ماليا وتنظيميا. ثمرة هذا المعيار هي الإصابة أو الخطإ لأنه حقل إجتهادي كما سنرى في الأمثلة أسفل هذا.

5 ـ العدل والجور وهو معيار حقله المعاملات المالية والإقتصادية والمادية سواء بين الناس بعضهم مع بعض أو بين الكيانات والدول. ثمرة هذا المعيار هو كذلك الإصابة أو الخطإ.

6 ـ السنة أو البدعة وهو معيار يمكن ألا يستقل بنفسه عن معيار الطاعة والمعصية الذي مر بنا آنفا لأنه فرع عنه بمعنى ما. ثمرة هذا المعيار هو العلم أو الجهل أو العلم والهوى.

أمثلة.

المعيار الأول : الحق والباطل.

مضمون هذا الحقل هو الأركان الستة المعروفة للإيمان دون فروعها الكثيرة. فمن إستوفاها نطقا ولو إختصارا في شهادة التوحيد فهو المؤمن المسلم الذي له ذمة الله ورسوله التي لا تخفر ومن يخفرها يخفر في الدنيا وخفر الآخرة أشد. الذين يضيفون إليها الفروع هم الذين وصفهم عليه الصلاة والسلام بأنهم غالون محرفون والتحريف زيادة ونقصانا معا لأنه يحرك الحرف والحرف هو الحد. ومثلهم الذين يستخدمون معايير أخرى هنا أي يحكمون على المخطئ مصلحة أو عدلا أو الفاسق عمدا أو مرتكب الحرام قصدا بالكفر. تأشيرة الإيمان في الدنيا هي إعلان التوحيد إلا أن يكون الإعلان موجعا فيكتم. أما حساب الآخرة فلا يتقحمه إلا أحمق يجنح إلى تضييق دائرة الإيمان وتوسيع دائرة الكفر.

المعيار الثاني : الطاعة والمعصية.

من الأمثلة على ذلك ـ وهو في الصحيحين ـ أنه عليه الصلاة والسلام لم يعنف حتى بالقول وحركة الجسد رجلا من صحابته وقع على إمرأته في يوم رمضان عمدا ولما جاءه أخبره بالكفارات ترتيبا ولما قال الرجل في كل مرة أنه لا يقدر على تلك الكفارة يصدقه ولا يحقق معه حتى قال أنه لا يقدر حتى على أدنى شيء منها فلم يتركه عليه الصلاة والسلام رغم ذلك بل ذهب هو بنفسه يبحث له عن عذق تمر يتصدق به فلما جاءه به قال ما بين لابتيها أي المدينة من هو أحوج إليه مني لفقري فناوله إياه ليأكله مع زوجه التي وقع عليها في رمضان وهو يضحك بادية نواجذه عليه الصلاة والسلام. معنى ذلك هو أن هذه الجريرة الكبيرة عدها عليه الصلاة والسلام معصية لا تستحق أكثر من بيان الكفارة مع يسر شديد جدا في تنفيذ الكفارات وإنتهى الأمر إلى أن العاصي معصية ثقيلة ـ نسميه نحن اليوم لفرط تقوانا المزيفة ولسان الحال يقول لنا كبرا وغرورا أننا أتقى من ذلك الرجل بل أتقى منه هو نفسه عليه الصلاة والسلام : إنتهاك حرمة رمضان ـ عاد لأهله بعذق تمر أي أثيب في مكان عقوبة.

المعيار الثالث : الحلال والحرام.

شارب الخمر مثلا أمر عليه الصلاة والسلام بضربه ضربا خفيفا بالخفاف وليس هنا عدد محدد ولكن أحصيت في حدود أربعين أو زهاء ذلك. الخمر كبيرة دون ريب. ومثله كل كبيرة بل هو أم الخبائث بتعبيره هو نفسه عليه الصلاة والسلام. المشكلة هنا ليست في مستوى العلم ولكن المشكلة هي حماسة مغرورة للدين تدفع بصاحبها إلى إعتبار العصاة الواقعين في الكبائر كفارا أو شبه كفار أو يرتب عليهم ما يستحقه الكافر وليس الفاسق. ومن أروع الأمثلة في القرآن الكريم على ذلك أنه سبحانه عد الآكل مما لم يذكر إسم الله عليه ومثله المرتكب للشرك الأوسط بتعبير إبن تيمية أي ليس الأكبر من مثل السجود لغير الله .. عدهم سبحانه فسقة في أوائل سورة المائدة. الفسق عند نسبته إلى المسلم ليس كفرا بل هو صاحب الكبيرة.

المعيار الرابع : المصلحة والمفسدة.

الأمثلة هنا فيما سمي قديما بالسياسة الشرعية لا تكاد تحصى ولا تعد لكثرتها في سيرته عليه الصلاة والسلام ولكن أقصر فيها على مثالين أو نحو ذلك أن ينداح القلم. لما هم عليه الصلاة والسلام بأن يعطي ثلث ميزانية الدولة كلها إلى غطفان .. هذا العمل مفسدة محضة منظورا إليه من هذه الزاوية. ولكن عندما نضم إليه المصلحة التي يأتي بها نعلم يقينا أن تلك المفسدة المحضة تتحول إلى مفسدة تختلط بها مصلحة وهي فك الحصار العسكري المضروب منذ زهاء شهر وأزيد على المدينة. المفسدة باقية لا تنفك عن العمل ولكن المصلحة رجحت بها. لا يحاكم هذا بالحلال والحرام لأنه عمل متعد أو متعدد الأبعاد أي مركب. من يشرب خمرا مثلا هذا عمل أحادي البعد غير مركب ولذلك يحكم عليه بالحرمة. أما من يعطي المشرك المحارب مالا من ميزانية الدولة فهذا عمل مركب لأنه يتركب من مال يعطى ومن مشرك يقبض هذا المال. ولما إقترض عليه الصلاة والسلام أسلحة من قريش لنصرة قبيلة أخرى مشركة هي حليفته سياسيا وعسكريا.. هذا عمل ينظر إليه أنه مفسدة لأنه تعامل عسكري مع عدو ولكن عندما نواصل النظر نلفى أن هذه المفسدة تجلب مصلحة أخرى أرجح وهي صد هجوم ضد حليفه أي وفاء بالعهد. وأمثلة أخرى لا تحصى في سيرته. ذلك هو معنى أن المعاملات كلما إبتعدت عن الشأن الفردي الشخصي الضيق لا يمكن حكمها بالحرام والحلال أو الطاعة والمعصية لأنها تقديرات سياسية تختلف فيها الأنظار وتخضع دوما إلى موازين القوى فإذا حكمتها بالحق والباطل إنقسم المسلمون أنفسهم ـ الذين عارضوا مثلا قضية مال غطفان في الخندق ـ إلى فريقين. فريق مؤمن وفريق كافر أو فريق مطيع وآخر عاص.

المعيار الخامس : العدل والجور.

الأمثلة هنا كذلك لا تكاد تحصى ولا تعد لكثرتها في سيرته عليه الصلاة والسلام. منها أنه عليه الصلاة السلام إستأجر مشركا ليكون قائدا لأخطر رحلة وأكبر عمل في سيرته كلها أي الهجرة التي كانت محفوفة بالمخاطر فإن نجحت نجح الإسلام وإن أخفقت أخفق الإسلام. الناظر إلى هذا العمل من زاوية واحدة يجده عملا جائرا لأنه يمكن مشركا من الإطلاع على عمل سري للمسلمين وقد يدلي به إلى العدو. ولكن عندما نواصل النظر نلفى أن هذا المشرك أمين ولذلك رجحت مصلحته أي الأمانة على مفسدته أي الشرك وإحتمال الوشاية. الوثيقة التي بناها عليه الصلاة والسلام مع أكبر العائلات الإسرائيلية في المدينة ووقعوا عليها بأناملهم في ميثاق وطني ويوم مشهود. مفسدتها أنها تمكن للكفر في دار الإسلام ولكن مصلحتها التي رجحت بها هي سيادة السلم وهيمنة الأمن وبث رسالة صحيحة طيبة عن الإسلام وكرامة الإنسان والإحسان إليه بما يساعد على العمارة أو يكون ذلك سببا لهدايته. إذ ليس هناك في المعاملات البشرية كلها ـ بل في الحياة عدا العقيدة وليس حتى العبادة ـ شيء تمحض للخير كله فلا شر فيه أو للحق كله فلا باطل فيه أو للطاعة كلها فلا معصية فيه ولا للعدل كله فلا جور فيه ولا للمصلحة كلها فلا مفسدة فيها. ذلك هو معنى الإزدواج الذي راعته الشريعة بأن خصت كل حقل من حقول الحياة بمعيار.

خلاصة الفصل.

ــ الشريعة مزدوجة المعايير لمعالجة حياة مزدوجة مركبة وإنسان مركب لا أحادي البعد والمعالجة كما يعرف أهل التطبيب من جنس الحالة. فلا يعالج مركب بمفرد ولا مزدوج بغير مزدوج.

ــ مثل المعايير المزدوجة كمثل الألسنة إذ لا يمكن التخاطب مع صيني إلا بلغته إذا كان لا يجيد غيرها. وكالألوان فلا يناسب هذا اللون كل فستان مثلا أو كل حفل أو كل لابس. روح الشريعة المناسبة والموافقة كما قال الشاطبي.

ــ الخطأ الأكبر الذي يوقع فيه بعض الشباب ـ بل كثير منهم ـ أنفسهم فيه هو الجهل بهذه المعايير أو بإزدواجيتها أو عدم الإعتراف بها أصلا أو عدم فقه معنى إزدواجية الحياة والإنسان وضرورة المعالجة بإزدواجية مثلها. حتى مع العلم بذلك فإن بعضهم يغفل أو تأخذه الحماسة الزائفة أن يعمل معيار الطاعة والمعصية في الحقل العقدي فيكفر الناس أو يعمل معيار الحلال والحرام في الحقل السياسي أو الحقل المالي فيحكم على المجتهدين بالفسق أو ربما بالكفر أصلا وبذا يحكم على نفسه هو أولا بأن الإجتهاد لا مكان له ولا مناص من الإجتهاد لأن الشريعة ذات أبواب مفتوحة سميت مناطق فراغ أو عفو إمتحانا للعقل.

ــ لذا أنصح كل مسلم ومسلمة بأن يسأل نفسه قبل الحكم على أي عمل وقبل خوض أي عمل أصلا : أنا في أي حقل؟ وأي معيار وضعته الشريعة لهذا الحقل؟ لأن المعمل معيارا في غير حقله المناسب كمن يأكل من قدح ماء بفأس مثلا أو كمن يحفر الأرض بإبرة أو كمن يعالج مريضا بالحرق أو كمن يقرأ المكتوب بأذنه لا بعينه.

ــ سؤال ذكي مهم : هذه المعايير المزدوجة والحقول المختلفة هل لها من وكاء يجمعها؟ أجل. وكاؤها الذي يلم شعثها هو الجمع بين الكتاب وبين الميزان أي بين المنصوص عليه وبين الحكمة أو بين الإتباع والإبتداع كل في محله المناسب. إلى ذلك يؤول محكمها كما يؤول إجتهادها حتى الخاطئ منه إذ الخاطئ منه لا يكتشف إلا بمرور الزمن ليكون درسا للخلف من سلفهم.

والله أعلم.

شاهد أيضاً

قصة يونس عليه السلام

هو يونس إبن متى عليه السلام أحد الأنبياء المرسلين المذكورين في القرآن الكريم وحملت سورة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *