الفصل الثاني : معرفة مقام التشريع أم المشرع
خلاصة الفصل الأول :
إذا تعرضت إلى حكم شرعي عملي ـ لا عقدي ـ فسل نفسك أولا وقبل شيء : هل أن هذا الحكم يخضع لعلة أو مقصد أو مصلحة ـ بحسب إختلاف العلماء في التسمية والمسمى واحد ـ أو لا يخضع فإن كان يخضع فهو معلل مقصد فعليك البحث عن العلة لتكون هي الربان في العملية الصناعية الفقهية والحكم الشرعي العملي لها تابع لا متبوع وإن كان الحكم توقيفي تعبدي غير معقول المعنى فما عليك سوى الطاعة البصيرة وليس العمياء إذ العمى والإسلام عدوان لدودان. فإذا نفذت الحكم الشرعي طاعة بزعمك ثم آل إلى غير المآل الذي أريد له من الشريعة وواضعها فالذنب ذنبك وليس الذنب ذنب الشريعة ولا واضعها.
معنى المقام.
هناك نوعان من المقامات. مقام للتشريع نفسه ومقام للمشرع نفسه أو الشارع. مقام التشريع لن أخوض فيه الآن لأنه يخرج بنا قليلا عن دائرة الحديث ولأنه يتطلب حديثا أطول. مقام التشريع فصول كثيرة منها بصفة أساسية : التشريع للإيجاب أو للتحريم وهذا أقوى أنواع المقامات لأنه يترتب عليه ثواب أو عقاب وهو قليل في السنة والحديث بصفة خاصة وهو موجود في القرآن وليس بكثرة كثيرة. وهناك مقام الترغيب والترهيب وهو الأكثر حظا ووفرة في الحديث والسنة حتى إن أكثر من ثلاثة أرباع السنة كلها ـ بل أكثر ـ متمحضة لهذا الضرب من التشريع أي أنها تتحدث عن الترغيب وليس عن الإيجاب الذي تكفل به القرآن وعن الترهيب وليس عن الحرام الذي تكفل به القرآن الكريم وإذا عالجت السنة ذلك فهي سنة تأكيدية لا إنشائية ولا إستقلالية. وهناك مقام تشريعي ثالث عنوانه : إبتغاء الفضل عند اهل الفضل ومعناه أن بعض التشريعات الترغيبية طبعا لا الإيجابية تتجه إلى نوع من أهل الفضل ترتفعهم به وليسوا هم أعيانا بل أعمالا. وعندما أتحدث إن شاء الله عن مقامات التشريع لا عن مقامات المشرع أو الشارع أفصل ذلك بحوله سبحانه.
مقام الشارع أو المشرع.
لا مشاحة في المصطلح وهل نقول عن الله أنه شارع وعن نبيه عليه الصلاة والسلام أنه شارع أو مشرع .. لا أرب لي في هذا الآن. المقصود هو لسان المخاطب المتكلم بإسم الشريعة وهو الله في الأصل والجملة ونبيه محمد عليه الصلاة والسلام بإختلافات ستعالج إن شاء الله تعالى في هذه الفصول في إبانها. هذا اللسان المخاطب بلسان أهل اللسان هو المقصود هنا وهو لسان المتكلم.
مقامات المشرع أو الشارع.
تكلم في هذا المبحث الأصولي كثيرون في السابق منهم الغزالي والجويني والعز والقرافي وإبن القيم وغيرهم كثير ثم جاء الشاطبي فتوسع قليلا ولما آل المآل إلى إبن عاشور كان أول مدون في التاريخ الإسلامي يفرد هذا المبحث ـ مقامات المشرع ـ بصفحات غير يسيرات في كتابه السفر الذي يعضد سفر الشاطبي : أي مقاصد الشريعة. المقصود بالمقامات هنا هي أن النبي محمدا عليه الصلاة والسلام وهو يتحدث أو يفعل أو يقر لا يقر على حال واحد من المقام فهو يصنع ذلك أحيانا تبليغا عن الله سبحانه وهذا هو الدين وأحيانا بصفته إماما للأمة في تلك الأيام أي إمامة إدارية أو سياسية ـ أي رئيسا بالتعبير المعاصر ـ وأحيانا بصفته قاضيا يعتمد البشرية في لحن الناس وحججهم ولذلك حذرهم أن يكون بعضهم ألحن من بعض فإذا قضى له بشيء من حق أخيه فهو يقضي له بقطعة من النار إن شاء أخذ وإن شاء ترك إلا أن يكون القضاء مصححا من الوحي في أثناء ذلك أو من بعده. وأحيانا يفعل ـ والقول فعل ـ بمقام البشرية كأكل الضب الذي يعافه وأحيانا بمقام الولاية كمنعه عليا الجمع على فاطمة سيما من إبنة عدو الله أبي جهل . وأحيانا بمقام المستشار أو مقام الناصح أو مقام الوالد أو غير ذلك من المقامات التي أوصلها إبن عاشور في كتابه إلى زهاء خمسة عشر مقاما. والحقيقة أن هذا المبحث الأصولي ـ مقامات التشريع والمشرع معا ـ مازال فقها بكرا وحقلا بورا يحتاج إلى الرجال الذين يشمرون على ساعد العقل والبحث والحكمة والقلم ليستأنفوا هذا الأرث الذي ظل يتيما والحاجة إليه اليوم ماسة ماسة ماسة. فليست المقامات التي ذكرها الإمام إبن عاشور هي كل المقامات بل إن البحث فيها يستهدف تبويبها أولا وخاصة : إختراع المعايير العلمية التي على أساسها يفهم هذا الحديث قولا أو فعلا أو إقرارا أنه مندرج في مقام كذا وليس في مقام كذا. الغاية العظمى من هذا العلم هو التمييز ـ وليس التفريق ـ بين مقام البلاغ وبين المقامات الأخرى حتى لو وصل عدها إلى عشرين. إذ مقام البلاغ هو المقام الوحيد الملزم وما عداه إجتهادي قابل للتغيير.
أمثلة.
1 ـ الحديث الصحيح المشتهر اليوم بين الناس سيما المسلمون المقيمون في ديار الغرب وهو قوله عليه الصلاة والسلام : أنا بريء من كل مسلم يقيم بين ظهراني المشركين تتراءى ناراهما. الحديث صحيح ولكن ينقص الناس مناسبة قوله وهي أن سرية من أصحابه إشتبكوا مع قبيلة خثعم أو مع بعض منها فلما إستحر فيهم القتل رفعوا المصاحف القرآنية وإعتصموا بالسجود في رسالة إلى أصحابه أنهم مسلمون وبعد إنتهاء الإشتباك طالبت القبيلة رئيس الدولة الإسلامية يومها محمدا عليه الصلاة والسلام بديات رجالها المقتولين وهم مسلمون فقال أنه بريء منهم أي براءة سياسية ومالية وليس براءة دينية وهو ينعي عليهم عدم هجرتهم إليه أي إلى دار الإسلام في تلك الأيام ولذلك قضى لهم بنصف الدية فحسب لأنهم مسلمون عصاة عصيانا سياسيا لهم حق الدم وليس لهم الحق كاملا بسبب ذلك العصيان. إقامتهم بين ظهراني المشركين لم يقرها ولم يكفرهم على ذلك ولكن نعى عليهم ذلك .أما قوله : تتراءى ناراهما فهو تعبير عن المسافة واليوم بطبيعة الحال لم يعد هذا صالحا مقياسا جغرافيا. قال عليه الصلاة والسلام هذا بمقام المسؤولية السياسية أو الحكم الإداري أو بلسان رئيس الدولة الذي لا يبدد أموال الخزينة في شيء باطل ولكن لما قتلوا خطأ ولم يكن بد ـ ربما لتمترس المشركين بهم أو لأي صورة حربية أخرى ـ من قتلهم لم يعاملوا أصحاب حق كامل لأنهم مسلمون عقيدة وإقامتهم هناك عصيان سياسي عملي وليس عصيانا عقديا ولأنهم قبل ذلك بطبيعة الأمر أناس لهم ما للناس وعليهم ما على الناس في الدماء والأعراض. الشاهد هنا هو أن من لم يتعرف إلى مناسبة النزول ولا إلى علم المقامات بالنسبة للمشرع ـ وهو في الحديث كثير بالعشرات والمئات ـ فإنه يقع في الخطإ الجسيم إذ يسحب هذا على زهاء خمسين مليون مسلم اليوم يقيمون ومنذ عقود طويلات في بلاد أصلها ليس أصلا إسلاميا وأغلبيتها مسيحية أو غير ذلك.
2 ـ الحديث المعروف بعنوان : دعهم يعملون إذن. القصة هي أنه قال عليه الصلاة والسلام بحضرة أبي هريرة أن مات على لا إله إلا الله دخل الجنة. فقال له أبوهريرة إذن أبشر الناس فقال له إفعل وأخذ معه فردة من خفه علامة على أنه صادق فيما ينقل ولما كان يبشر الناس لقيه الفاروق فأخذ به إليه بقوة وربما بشيء من القسوة كعادة الفاروق عليه الرحمة والروضوان في الحق ولما جاءا إليه تبين له أنه فعلا أذن له بذلك فقال الفاروق : يا رسول الله الناس إذن يتكلوا فدعهم يعملون. فقال له عليه الصلاة والسلام : دعهم يعملون إذن. في الحديث عبر وخلاصات ودروس ألذ من العسل المصفى وأغلى من الذهب الخالص. لا يتسع لها المجال ولكن الشاهد هنا هو أنه عليه السلام تصرف بادئ الأمر بمقام الداعية المبشر الناصح الرؤوف بالناس الرحيم بالأمة ولو كان ذلك غير كذلك لما تراجع عن مقام البلاغ النبوي لرأي الفاروق. فلما تبين له من أحد أبرز نجباء التلاميذ بل هو أنجبهم قطعا أن الأولى أن يدعهم يعملون فاء إلى رأي صاحبه. نحن اليوم وقد أنعم الله علينا بالموقفين معا نعبد الله بهما معا فنعمل غير متواكلين قدر الإمكان ولكن نعتقد في التقرير الأول أن من مات مؤمنا إيمانا حقيقيا لا شائبة للشرك فيه دخل الجنة حتى لو تأخر دخوله أو لقي من العذاب المطهر قبل ذلك ما لاقي على كبائر لم يتب منها. هكذا يفيد الداعية والعالم والفقيه والمفتي من هذا التردد بين موقفين في الحديث عندما يتبين له أمر ملابساته وهو يعالج الناس.
والله أعلم .