الفصل العاشر : السؤال أسرع سبيل إلى اليقين.
من يدرس القرآن الكريم يدرك بيسر أنه كتاب يعتمد الحوار بما هو سؤال وجواب وكرّ وفرّ بينهما حتى إنه إمتلأ بقوله : قل.. التي تجاوزت ثلاثمائة مرة ومثلها : قال ويقول ويقولون وغير ذلك. ذلك يعني أن النظم القرآني نظم حواري يتوخى بسط حجج الناس من مشركين وأهل كتاب وغيرهم ثم يحللها ويناقشها ويكرّ عليها مبينا جوابه وبديله. لا ريب في أن هذا المنهج المتوخى من القرآن الكريم يريد به الله سبحانه أن يعلمنا فن الحوار ومهارة إدارة الحديث برهانا ببرهان وكلمة بكلمة وليس بالعنف والإكراه والسيف تحسم التباينات.
السؤال في القرآن الكريم.
1 ـ هناك ضرب من الأسئلة العادية بنوع ما وقد تكرر قوله : يسألونك أو يسألك .. أزيد من عشر مرات. يسألونك عن الأهلة ـ يسألونك عن الشهر الحرام ـ يسألونك عن المحيض ـ يسألونك عن اليتامى ـ يسألونك ماذا ينفقون ـ يسألونك عن الساعة إلى آخر ذلك.
2 ـ وهناك ضرب آخر من الأسئلة الخطيرة والكبيرة وهي أسئلة فوق العادية وهذه هي موضع هذا الفصل من فصول ترشيد التفكير الديني أي قيمة السؤال فوق العادي في الوصول بسرعة وأمن إلى اليقين.
أمثلة حية :
1 ـ أخطر سؤال هو سؤال موسى عليه السلام : رب أرني أنظر إليك.
لا ريب أن مشكلتنا مع القرآن الكريم هي أننا نتلوه تلاوة تقليدية لا تثير فينا شيئا فلا نهتم بما لا نعي بل نمر مرورا ليس هو مرور الكرام قطعا لأن الكريم يهتم. القرآن الكريم يفاجؤنا ويباغتنا ويأتي إلينا بما لم نألفه ـ من مثل هذا السؤال ـ ولكن لا نلقي لذلك بالا.
لو توقف تالي القرآن الكريم عند هذا السؤال لقال في نفسه : أنى لنبي رسول كليم من أولي العزم أن يطلب من ربه أن يريه نفسه .. لو توقف تالي القرآن الكريم طارحا هذا السؤال لتبين له الأمر أو لفتح لنفسه بابا من أبواب العلم ليظل به مشغولا.
لا شك أن الدافع الذي جعل موسى عليه السلام يطلب من ربه أن يريه نفسه هو ما وجد من لذة لا توصف ومتعة لا تضاهى من أثر سماعه له مباشرة سبحانه. وقديما قالوا : من ذاق إشتاق. أجل. من ذاق طعم شيء يشتهيه إشتاق إليه.
المحيّر في السؤال هو أن الله سبحانه رحب بالسؤال ولم يعاتبه عليه وكان يمكن له أن يعاتبه كما عاتب أنبياء آخرين إذ عوتب محمد نفسه عليه الصلاة والسلام في زهاء خمسة مواضع والعتاب شرف إذ المعاتب هو المالك سبحانه والمعاتب هو عبده حتى لو كان نبيا رسولا كليما أو غير كليم.
لم يصدر عنه سبحانه أي شيء يوحي أنه لا يرحب بهذا السؤال الكبير الخطير الذي نعده نحن اليوم وقاحة ولكن لا نتوقف عنده لنعده كذلك ولو سأله أي واحد منا لعد وقاحة. السؤال ربما يسأل لاوّل مرة في التاريخ والأرض. كل ما في الأمر أن الله سبحانه أخبر عبده موسى أن رؤيته له غير ممكنة بسبب تكوينه وليس لأي سبب آخر. قال له : لن تراني ولكن إنظر إلى الجبل فإن إستقر مكانه فسوف تراني. لن تراني في هذه الدنيا بعينيك هاتين. ورغم أنه أخبره أنه لن يراه لم يتوقف الحديث بينهما بل دعاه إلى محاولة إرضاء له وثوابا على هذا السؤال الكبير الخطير العظيم الذي يحبه الله سبحانه. وما إن تجلى الله سبحانه للجبل ـ أي رأى الجبل ربه ـ لم يتحمل الجبل ذلك فخر مدكوكا مهدودا وخر في إثره موسى عليه السلام بمثل ذلك. ذاك لم يتحمل رؤية ربه وهذا لم يتحمل خر جبل يهوي.
ثمرة هذا السؤال الذي رحب به سبحانه وواصل فيه رغم أنه يعلم أنه لن يؤدي إلى الرؤية هي أن موسى عليه السلام أثيب بسبب سؤاله الكبير الخطير العظيم يقينا زاده يقينا وأي يقين أن يرى المرء بأم عينيه جبلا ينهد في أقل من طرفة عين وهو يعلم أن سبب هده هو أنه رأى ربه إذ قال له في البدء : فإن إستقر مكانه .. تغذية باليقين صوتا وصورة ولحما ودما.
2 ـ سؤال خطير هو الآخر من إبراهيم : رب أرني كيف تحيي الموتى.
هذا السؤال من إبراهيم الخليل عليه السلام أقل خطورة وحجما من سؤال موسى الكليم عليه السلام. ولكنه بالنسبة لنا نحن اليوم يظل سؤالا وقحا إذ لم نألف أن يسأل إمرئ ربه أن يدعه يراه رأي العين أو أن يريه كيف يحيى الموتى. أول ما يواجه به صاحب هذا السؤال منا نحن اليوم هو أنك هرطيق زنديق منافق مرتد وهذا القاموس الأسود مليئ بمثل هذا.
مرة أخرى رحب سبحانه بسؤال خليله وواصل الحديث معه إذ قال له : أو لم تؤمن؟ قال بلى ولكن ليطمئن قلبي. السياق يريد أن يحقننا بأمر مهم عنوانه أننا مؤمنون ولكن هل إطمأنت قلوبنا بالإيمان؟ تحدث عن المؤمنين وتحدث عن المؤمنين حقا وتحدث عمن حصر فيهم الإيمان إذ قال زهاء ثلاث مرات : إنما المؤمنون …
قرأنا أن الإيمان تصديق وطمأنينة قلب وحب وعمل وغير ذلك. السؤال هو: إذا كان نبي رسول خليل للرحمان في رفعة إبراهيم عليه السلام يحتاج إلى طمأنينة قلب فكيف بنا نحن اليوم؟ ألسنا بأحوج منه إلى ذلك بسنوات ضوئية كما يقولون؟
لذلك أخبرنا عن الإيمان وعن اليقين وعن حق اليقين وعين اليقين وغير ذلك من درجات التصديق والإيمان.
رحب سبحانه بالسؤال وإستجاب له وقال له : خذ أربعة من الطير فصرهن إليك ثم إجعل على كل جبل منهن جزء ثم أدعهن يأتينك سعيا.. فعل إبراهيم كل ذلك وشهد بنفسه لحما ودما كيف يحيي الله الموتى. هل يعني ذلك ـ كما نظن نحن اليوم هرفا مهروفا ـ أن إبراهيم كان يشكو من ضعف فادح في الإيمان لذلك إحتاج إلى دليل محسوس ملموس؟ نحن إذن أشد منه يقينا لأننا نؤمن بإحياء الله الموتى دون برهان حي.
وليس هذا مقصورا على الأنبياء بل إستجاب سبحانه لرجل آخر من بني إسرائيل إذ قال : انى يحيي هذه الله بعد موتها؟ إذ مر على قرية ـ أي مدينة ـ خاوية على عروشها بعدما كانت حاضرة عمران وزينة فإستبعد وقد هاله مشهد الدمار والموات أن يبعث أهلها أحياء. هذا لم يسأل أصلا بل أماته سبحانه مائة عام وبعثه بعدها وأراه بأم عينيه لحما ودما وعصبا كيف حيي هو وكيف حيي حماره وكيف حفظ سبحانه له طعامه وشرابه فلم يتسنه ولم يتغير إذ وفر له سبحانه ثلاجة خاصة به لا تراها العين وصرف عن ذلك الطعام هامة الأرض ودابتها مائة عام كاملات. أليست هذا مشهد بعث صوتا وصورة ينقل إلينا نحن اليوم لعلنا نيقن حتى ونحن مؤمنون مصدقون؟
خلاصات :
1 ـ الخلاصة العظمى من هذه الأسئلة وخاصة السؤال الموسوي والإبراهيمي هي أن الله سبحانه يحب السائل وخاصة السائل فوق العادي أي السائل الذي لا يتردد أن يسأل ربه أي سؤال لا يألف الناس طرحه تعففا وتأثما وكبرا. لو كانت هذه الأسئلة الكبيرة الخطيرة مكروهة أو غير مرحب بها ما كان الوحي ليسوقها مساق قدوة وإسوة.
2 ـ خلاصة أخرى عظمى عنوانها أن مفتاح اليقين ـ وليس مجرد الإيمان ـ هو السؤال الكبير الخطير غير المألوف. دعك من الناس إذ أن الإيمان قضية فردية شخصية خاصة بين العبد وربه ولسنا هنا بصدد قضية دنيوية لا بد لنا فيها من إجراء إنتخابات ديمقراطية أو تحكيم الأغلبية.
3 ـ الأسئلة الكبيرة والخطيرة تحتملها العقول الكبيرة وتنبجس بها القلوب المفعمة أملا ويقينا ورجاء. العقول التي تكون فيها القضايا العقدية العظمى مقدمة كبرى ومقدسة وليس من سقط الإهتمام.
4 ـ أين الله وأين عدل الله ونظائر ذلك مما يطرح من لدن الناس بغض الناس عن دينهم ويقينهم ما يجب أن نستنكف عنها أو نرمي أهلها بالزندقة والهرطقة أو الردة وعادة ما يستنكف عن التفاعل معها عدا الذي آمن إيمانا تقليديا لا يدري هو نفسه لم آمن. أما الذين إكتسبوا يقينهم عن علم ومعرفة وبحث فإنهم يجدون في هذه المراعي حقولا خصبة يطؤونها لعل الله يهدي بهم من شاء من عباده أو يفيئ بمن شاء منهم إلى دوحات اليقين.
ربما نكون نحن اليوم في زمان إذا أشير إليك ببنان الزندقة والهرطقة فأنت مؤمن بيقين وليس بتقليد.
أنا أسال .. أنا إذن موجود
أنا أسأل .. أنا إذن مؤمن
أنا أسأل … أتا إذن حي
والله أعلم .