مقاوم نقابي لا يأبه أوقع عليه الموت أم وقع هو على الموت
لو طلب مني أني أقدم هذا الراحل الكبير ـ عمر بن الربعي الرمة ـ عليه الرحمة والرضوان في كلمة واحدة لما ترددت في القول أن ( سيدي عمر ) للشجاعة رمز وللجرأة علم. وليس هو بهذا مغمور أينما حلّ وإرتحل من ( طبربة) حيث باشر مهنته أستاذا للتربية الإسلامية واللغة العربية في سبعينيات القرن المنصرم حتى ( بنقردان ) حيث ولد وقضى بقية حياته ومات ودفن. على بطولته في الإصداع بما يراه حقا وصوابا دون أي إعتبار لأي كان وفي أدب جمّ وبعلم وحلم لا يتجادل رجلان. كان نقابيا صلبا عنيدا وعلى هذا الدرب إمتحان أكبر في تونس هو إمتحان القيادة النقابية بدءا من عام 1985 وما بعدها فمن إجتاز ذلك الإمتحان فله علينا حق العرفان ومن سقط فيه سقط في أخاديد الخذلان. كانت المؤسسة النقابية في تلك الأيام في مواجهة دولة بورقيبة بقيادة الزعيم بن عاشور عليه الرحمة وبين أعين أولئك جميعا مصير الزواتنة واليوسفيين وعلى عتباتهم آثار قانية للدماء المسفوحة
مقاوم إسلامي ضاقت عنه أوعية التنظيمات لضخامة وزنه
كان الراحل عليه الرحمة والرضوان من المؤسسين الأوائل للحركة الإسلامية في تونس من أواخر الستينيات ولم يكن له من بدّ وفاء للقيم التي رضعها ثم أرضعها إلا أن يتفاعل مع تلك الصحوة الأولى بل ظل لها رمزا حتى ظن الناس أنه في المقدمة القيادية فيها تنظيما. لم يكن كذلك إذ ضاقت عليه أوعية مبتدئة تشق طريقا فيه من التقية الذي فيه. وأنّى لمن ملئ فؤاده شجاعة لا تبالي بالموت أن يصبر على إكراهات التنظيمات مهما تسللت إليها نسمات الحرية التي تطلق العنان للمبادرات الفردية؟ كان ذلك ليس ممكنا فحسب بل مطلوبا ولكن الوعي منا ـ إلا قليلا يوأد نعيقه في الإزدحام المكتظ ـ في تلك الأيام لمّا يبلغ رشده. كان لا بد ـ ومازال ـ من ملء تلك الأحزمة الشعبية والأهلية والمدنية والإرستقراطية نفسها بمثل هؤلاء الرجال إذ كلّ ميسر لما خلق عليه كما ورد في الأثر. الإنسان ليس قارورة لديها منفذ واحد منه تمتلئ ومنه تهرق. تركيب الدين متناسق مع تركيب الحياة وذانك معا متناسقان مع تركيب الإنسان. كان الراحل فارسا عزّ مثله حقا والله يملأ تلك الأحزمة ولو قهر نفسه حتى تستوعبه تلك الأوعية لحلّ محله فارس من فرسان الشر. كان الراحل عليه الرحمة والرضوان أوعى بذلك ولا أدل عليه من أنه كان يوفر المحضن الدافئ إذ بحنكته التي عركتها مصاولات النقابة خاصة وجد الفارون من تلك الأوعية جدارا يحبسهم أن يفروا من المشروع جملة كما وجد الرابضون فيها خبرة تنجدهم ويدا تثبتهم. هو مقاوم إسلامي ـ وليس مسلما فحسب ـ لأن المعركة في تلك الأيام كانت حول الإسلام نفسه ومن حيث أنه دين. اليوم تبدلت أحوال فلا داعي لمثل هذا ولكن يظل فضل تثبيت الإسلام في الصدور وفي الأرض منّة من ولي النعمة سبحانه أجراها على أيدي رجال كثيرين ونساء منهم هذا الراحل الكبير ( سيدي عمر ) عليه الرحمة
رجل الهيبة والحلم معا
من يعرف الراحل الكبير عليه الرحمة تنبسط عليه من آثار هيبته جلابيب منداحة. لم يكن ذلك بضخامة ذقن إذ لم يكن صاحب ذقن أصلا ولكن بطريق الحكمة اليونانية القديمة ( تكلم حتى أراك). متواضعا في ملبسه ومسكنه ومرفقه فإذا غشي الناس خوف تصدى له في بسالة نادرة ثم عرف بذلك بين الناس. ومن ذا حبت إليه الهيبة تخطب وده ومما زاد الناس فيه حبا حلمه وكرمه وعندما تلتقي هيبة بحلم وتنزع منها دسوم الكبر فإن صاحبها يكون للناس قبلة. يهابه زملاؤه في المعاهد الثانوية حيث كان أستاذا ويهابه الناس في ولائم الفرح والترح حيث يكون خادما للناس يتقحم أواني الطبخ فإذا برزت بارزة نتنة من الولاءات القبلية بمثل ما كان يقع في تلك الأيام تصدى لها بحنكة وحكمة وقد شهدت هذا بنفسي والله إذ أن مثل تلك القاذورات التي يلقي بها شياطين الإنس في محافل الأفراح خاصة إستعلاء من جانب بعض العائلات المتصاهرة يمكن أن تحيل الفرحة إلى بركة دماء لولا أن الله قيض لها رجالا حكماء من مثل الراحل عمر الرمة عليه الرحمة والرضوان. في هذه القيمة بالذات وغوصا في أعماق التركيبة الإجتماعية التونسية تحليلا حضاريا جامعا لا سباحة خفيفة في شطآن المعارك الحزبية فإن الله قد قيّض هذا الرجل الكبير وغيره للحم ما بترته السياسة البورقيبية فيما عرف في علم الإجتماع بالتذرر الإجتماعي أي تحويل المجتمع إلى مجموعة ذرات لا ترتبط في شيء بينها عدا في إرتهانها للدولة فهي لها الأب وهي الأم وهي القبيلة وهي العاقلة بالتعبير الفقهي القديم. سوّق إلينا هذا على أنه قضاء على العادات والتقاليد القبلية ولكنه عند التحقيق العلمي عمرانيا بلسان إبن خلدون تمزيق للدفاعات الذاتية للمجتمع ليكون عجينة طيعة في يد الدولة تشكلها كما تشاء وها نحن اليوم نجني عواقب ذلك. كان الراحل عليه الرحمة عنوانا لجمع الكلمة متعاليا على الخلافات الفرعية لم يعرف عنه إنحياز لتيار دون آخر إلا إنحيازه لوحدة الكلمة ورص الصف والمساهمة في التحرير العقلي والعملي
لا أرثي الأسود بل أقدمهم أسوات للأشبال
دعني أؤجل ذكرياتي مع هذا الراحل الكبير عليه الرحمة لمناسبة أخرى داعيا إياك أن تتدبر سيرة هذا الشهم الكريم إذ فيها ما يبسط عليك ما به تذكر من بعد موتك. دعني أجمع خصال هذا الأسد الهصور في قيم عظيمة هي : الشجاعة في قول الحق شجاعة من لا يخاف الموت حقا وليس مجازا ـ خدمة الناس في كرم وحلم وتواضع لا يتخلف عن فرح ولا عن ترح ـ الحكمة في معالجة المواقف والحنكة في مواجهة الأوضاع وعادة ما لا يكون الشجاع حكيما ولكن الراحل عليه الرحمة جمع الله إليه الحكمة والجرأة معا ـ الثبات والصبر والإحتساب إذ ظل دوما بسبب مقاومته النقابية والإسلامية محل تتبعات ومساءلات وإيقافات وتهديدات ـ العلم الصحيح المؤصل دينا وواقعا والذي ظل يبثه أستاذا وخطيبا ـ
وما هو بالأبتر المقطوع
حباه الله تعالى بزوج كريمة رؤوم أعرف قدرها معاينة ومنذ أزيد من أربعة عقود كاملات ولكن الخوف من نقمة القارئ عليّ بسبب طول الكلام يحبسني أن أتقدم. كما حباه الله سبحانه بذرية إناثا وذكرانا أفلحوا بما أرضعوا في شق طريق الرضى في الحياة. له عليّ أنا أيادي بيضاء ناصعة وأفضالا أجراها ولي النعمة على يمينه. أجدد عزائي لأهله كلهم فيه وأسرته الواسعة وتلاميذه وأقرانه من طبربة (1974) حتى بنقردان 2018. وحسبي عزاء : سبحان الحي الذي لا يموت. مات سيدي عمر بالربعي ـ كما يعرف عائليا ـ ويظل تراثه لنا كسبا غدقا وجهاده في الحياة لنا سراجا منيرا
الهادي بريك ـ المانيا
brikhedi@yahoo.de