عشرية ذي الحجة ربيع العبادة فلا تغفل

نص الربيع

أخرج الإمام البخاري عن إبن عباس أنه عليه الصلاة والسلام قال : ما من أيام العمل الصالح أحب فيها إلى الله تعالى من هذه الأيام. قالوا : ولا الجهاد في سبيل الله يا رسول الله؟ قال: ولا الجهاد في سبيل الله إلاّ رجلا خرج من بيته بماله ونفسه فلم يعد بذلكم من شيء

السؤال الأوّل : لماذا ذو الحجة؟

لأنه أوّلا شهر محرم مشمول بقوله سبحانه ( منها أربعة حرم ذلك الدين القيم فلا تظلموا فيهن أنفسكم ) ولأنه ثانيا ختام العام الهجري وهو متجانس مع قوله عليه السلام ( إنما الأعمال بالخواتيم ) ولأنه ثالثا يحتضن مدرسة الحج العظمى التي تجمع إليها العبادات السالفة كلها من صلاة وصيام وإنفاق ولأنه رابعا يصل الإنسان مع صاحب الملة التوحيدية الأولى الأصفى أي الخليل إبراهيم عليه السلام إذ الطواف والسعي والوقوف وغيرها من المناسك والشعائر تجسيدات عملية ميدانية لذلك التوحيد الصافي الذي يحمل حق النقض لما يغشى حامله من دركات ما كان مبرأ من كل شائبة شرك كبيرة أو صغيرة ولأنه خامسا شهر يتوسط الأشهر الحرم الثلاثة المتتابعة إذ تكون فيه قيمة الأمن التي تفرضها تلك المنطقة المحرمة على أشدها تأمينا لعبادة الحج وما يليها وهو تأمين في الحقيقة للإنسان إذ حرم كل شيء بمثل ما سخر كل شيء لأجل الإنسان فهو الكائن الذي قدسه القدوس سبحانه

السؤال الثاني : لماذا أخرج الجهاد هنا عن دائرة العمل الصالح؟

الجهاد المستثنى هنا هو الجهاد القتالي إنشاء وليس مقاومة إبتداء فليس المقصود الجهاد السلمي وهو أصل الجهاد في الإسلام ( وجاهدهم به ) أي بالقرآن الكريم وليس المقصود كذلك فتح الأبواب في وجه العداوات إذ نظم القرآن ذلك بقوله ( يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه ؟ قل : قتال فيه كبير ..). إستثناء الجهاد القتالي إذن هنا طلبا بالتعبير القديم وليس مقاومة أو دفعا مقصود منه الإنسجام مع حرمة هذه الأيام التي تمتد ثلاثة شهور كاملات بغرض ترويض الناس على فقه الحرمات والكرامات والحريات بصفة عامة وبغرض تأمين الإنسان الحاج والمعتمر بصفة خاصة إذ لا عبادة إلا بشرط الأمن وإنما سأل الأصحاب عليهم الرضوان عن الجهاد في الحديث لأنهم أخبروا سابقا أن الجهاد هو ذورة سنام الإسلام في حديث معاذ الصحيح ذلك أن الإسلام متشوف إلى إقتطاع مساحات أمن ومناطق سلام حتى ينداح إذ لا ينتعش الإسلام إلا في مناخات الأمن والسلام وقد فقه أعداؤه هذا منذ القديم فهم يورون أدخنة الحروب وحمقانا لها وقود بإسم الجهاد نفسه

السؤال الثالث : ما هو العمل الصالح في هذا الربيع؟

العمل الصالح هنا وقد خرج منه الجهاد القتالي لا السلمي والإنشائي لا المقاوم يختلف فهو شتى إذ هو للحاج والمعتمر معروف معلوم من إحرام وطواف وسعي وهدي وغير ذلك أما لغير الحاج والمعتمر فهو تأطير النفس الأمارة بالسوء في هذه المساحة المحرمة على الإمتلاء من قيم الطاعة والإيمان والأمل في الله وفي النفس وفي الإنسان والثقة والوجل منه سبحانه وتعميق تلك القيم المقصودة من العبادة ويكون ذلك بالطاعات المعروفة من صلاة ليل فهي أفضل الصلاة بعد المكتوبة ومن صيام وخاصة التاسع منه للحديث الصحيح أن صوم يوم عرفة يذهب ذنوب عام مضى وآخر أتى إلا ما كان بين الإنسان والإنسان فإن غفرانه موكول للإنسان وليس لرب الإنسان ومن ذكر وتلاوة وتدبر وتعلم ونظر في الكون والتاريخ والحدث إستنباطا للعبرة المقصودة من القصة دوما ومن إنفاق لجهد أو لفكرة أو لمال بالنفس بدنا وجسما أو بغيرها مما رزقنا ومن إستعداد ليوم النحر بالنحر الذي يقصد منه تحرير العبادة لله وحده سبحانه (فصل لربك وانحر) إذ كان النحر في السابق وبعضه اليوم لغير الله والإمتلاء بالمقصد الأسنى من النحر وهو قيمة التضحية بما يستطيع الإنسان إقتفاء للخليل الذي ضحى بفلذة كبده إذ من شاء أن يتقدم فالتضحية هي سبيل التقدم ( لمن شاء منكم أن يتقدم أو يتأخر ) وغير ذلك من الأعمال الصالحة التي لا تحصى ولكن ينظمها خيط واحد عنوانه : إغتنام هذه المساحة المحرمة لتأهيل النفس لتضحية أكبر وعطاء أجزل

خلاصات

أوّلا : هما ربيعان في الشريعة حريان بالغنم : ربيع العشرية الأخيرة من رمضان المعظم التي تحضن أفضل ليلة هي ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر وربيع العشرية الأولى من ذي الحجة المحرم التي تحضن أفضل يوم هو يوم عرفة فمن فاته ذاك لا يفوته هذا

ثانيا : العمل الصالح إستثنى في هذه المرحلة الجهاد القتالي فحسب فليس من العمل الصالح تحويل هذه المساحة المحرمة إلى رهبانية مبتدعة كما فعل النصارى الأولون ولنا في راوي هذه الحديث نفسه حبر الأمة إبن عباس المثل الأعلى إذ خرج في حاجة رجل لا يعرفه وهو في عبادة إعتكاف في المسجد النبوي في ربيع رمضان يتحرى ليلة القدر

ثالثا : الصورة المستثناة من الجهاد نفسه في الحديث هي صورة يندر وقوعها إذ لم يرو لنا أن من الصحابة أنفسهم وهم في زمن جهاد قتالي شديد من خرج بماله كله فلم يعد لا هو ولا ماله ولذلك هي صورة تؤكد أن الجهاد المستثنى لا ينفي حق الدفاع عن النفس وواجب تحرير الإنسان والأوطان

والله أعلم
الهادي بريك ـ المانيا

شاهد أيضاً

قصة يونس عليه السلام

هو يونس إبن متى عليه السلام أحد الأنبياء المرسلين المذكورين في القرآن الكريم وحملت سورة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *